الدور التركي في المنطقةصفحات العالم

ثقافة التخوين

منير درويش
تركت التغيرات الأخيرة التي حصلت في السياسة التركية أثرها الواضح على السياسة والثقافة العربية ، ووجد فيها بعض المثقفين العرب صورة عن محاولات الإصلاح التي جرت في أواخر عهد الدولة العثمانية .والتي (طعن بها العرب) على حد قولهم .
إننا وفي كل الأحوال نرى في السياسة التركية ظاهرة إيجابية بحاجة للتأييد والدعم ، وسبق لنا أن تناولنا هذه السياسة مع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة ، في مقالة لنا بعنوان : تركيا . هل تعود لها هويتها المفقودة . تضمن تحليلاً للعلمانية التركية المتمركزة في السلطة والجيش والمعزولة عن الشعب . مع مطالبة حزب العدالة بالتوجه في سياسته نحو محيطه العربي والإسلامي بدل التسول على أبواب الاتحاد الأوربي . والآن نتمنى لو أن الأنظمة العربية تبنت النموذج السياسي التركي بالحدود الديمقراطية والعلمانية التي يتبناها هذا النموذج . ولا نعتقد أن هذا النموذج بما فيه حزب العدالة والتنمية الذي قد تحرك الروح العثمانية مشاعره ، كمرحلة يعتز بها ، لا يسعى لعودة الدولة العثمانية بعد أن تغيرت الأوضاع السياسية والجغرافية تغيراً لا عودة فيها للماضي .
وإذا كان الأتراك بجمعياتهم المختلفة وبالتحالف مع قوى عربية وغربية قد سعوا لإنهاء الإمبراطورية وإقامة الدولة التركية الحديثة ، وجردوا أنفسهم من الصفة العثمانية ، فلماذا نلقي اللوم على العرب في زعزعة الدولة العثمانية ، ونحن نعلم أن الدور العربي كان محدوداً ولم يكن مؤهلاً لهذا الفعل ؟ ولا ننسى دور التاريخ وأحداثه في انهيار الإمبراطوريات الكبيرة كما لا ننسي الحرب العالمية الأولى وتحالف الدولة مع المانيا واليابان في دول المحور وخسارة هذا المحور للحرب الذي زعزع هذه الدول فسقط منها الأضعف .
بالطبع نحن لا نتهم أو نهاجم فنحن نقدر الآخر ونحترم رأيه ، لكننا نحاول أن نصحح إن جاز لنا التصحيح ، كي لا نقع في ثقافة التخوين التي تعجز عن مواجهة الواقع أو تلوي عنق الحقيقة .
يكتب الدكتور ثائر الدوري في مقالة له بعنوان ” مسار تصغير الأمة من مؤتمر باريس 1913 إلى إعلان دمشق 2005 ” . نشرت عن العالم المتدن في كلنا شركاء 19 / 1 / 2010 وفيها يتحدث عن الخط الفكري المتواصل بين الحدثين أساسه الاستقواء بالغرب . مروراً بالأحداث التي مرت بها الأمة إضافة لقضايا أخرى متعددة . وأذا كنا غير معنيين بإعلان دمشق وكان لنا وجهة نظر فيه عبرنا عنها في حينها ، وان ياسين الحاج صالح الذي تعرض له الكاتب أجدر بالدفاع عن نفسه لو أراد . وأننا لا نحتلف مع الكاتب في الكثير من القضايا التي أثارها وخاصة ما يتعلق بالسياسة الأمريكية واحتلالها العدواني للعراق والذين ركبوا دبابات هذا العدوان ، أوصفقوا له أو سكتوا عنه فقوا له أو سكتوا عنه أو الفعل .أو موقف البعض منه ، كما أننا ضد كل أشكال الاستبداد والتهميش أياً كان مصدرها ، إلا أن أموراً أخرى أثارها الكاتب تحتاج إلى وقفة سريعة ، تاريخية كانت أو سياسية دون أن نتعدى على علماء التاريخ أو فلاسفته .
1 – يقول الكاتب ” إن مؤتمر باريس عام 1913 تحدث باسم ” العرب العثمانيين ” فقط وتغاضى عن ثلاثة أرباع العرب ، تحت الاحتلال الغربي ” .
صحيح أن مؤتمر باريس أعلن انه يتحدث باسم العرب العثمانيين لكننا لم نجد في أي مصدر كلمة ( فقط ) . لكن الأهم هو أن الكاتب يتجاهل مجمل القرارات التي اتخذها المؤتمر ، ومنها مثلاً : ضرورة إجراء الإصلاحات على أساس اللامركزية . واعتماد اللغة العربية كلغة رسمية في مجلس النواب العثماني . والاعتراف بحقوق العرب القومية ، وحرية المهاجرة من سورية وإليها . هذه القرارات لا تعبر عن نزوع انفصالي عن الدولة المركزية او تنزع عنهم ( الصفة العثمانية ) ، وهل يضير العرب لو نزعوا الصفة العثمانية وهم الذين ينتمون إلى أمة عريقة بتاريخها وحضارتها وشكلت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس ، وساهمت في الحضارة العالمية مساهمة فعالة . لكن الأحداث التي جرت بعد مؤتمر باريس دفعت العرب إلى تبني موقف الانفصال . لقد حصل خلاف داخل السلطة العثمانية حول قرارات مؤتمر باريس بين التيار المعتدل الذي طالب بمنح العرب حكماً ذاتياً داخل الإمبراطورية الطورانية ، والتيار المتشدد الذي طالب باستعمال الشدة ضدهم وعلى رأسهم جمال باشا الذي جاء تعيينه قائداً للجيش الرابع الذي يقع المشرق العربي ضمن منطقته ، انتصاراً لهذا التيار المتشدد ، وفي كل الأحوال ومع وصول الاتحاديين للسلطة بعد عزل السلطان عبد الحميد ، واشتداد النزعة الطورانية ونزعة التتريك ، تعرضت الشعوب العربية الخاضعة للحكم العثماني ، لأقسى أنواع الاضطهاد ، خاصة في مجال الحصول على المقاتلين والأموال للاستعداد للحرب العالمية الأولى وفرض سياسة التريك عليهم .
واذا افترضنا أن بعض العرب طالب بالتحالف مع القوى الغربية للتحرر من الحكم العثماني وهو ليس عربياً أو من أبناء جلدتهم حتى لا نتغاضى عن التحالفات التي تضر بالمصلحة الوطنية ، لكننا لا ننسى ان الدولة العثمانية نفسها كانت في نفس الفترة تتحالف مع ألمانيا الدولة الغربية التي تبحث عن مصالح لها ومراكز للنفوذ مثلها مثل الدول الغربية الأخرى وشكلت معها دول المحور التي خسرت الحرب مع دول التحالف الغربية . وعجل بانهيار الدولة . كما لا ننسى أنها تحالفت مع بريطانيا وفرنسا في مواجهة مشروع محمد علي وابنه إبراهيم بوحدة المشرق العربي مع مصر عام 1840 والذي حظي بتاييد جميع العرب . وتغاضت عن احتلال فرنسا للجزائر 1830 واحتلال بريطانيا لعدن عام 1838 ، ومصر عام 1882 ، والوصاية الفرنسية على مراكش عام 1912 ، ولم تحرك ساكنا تجاه حملة نابليون عل مصر …الخ . كما تحالفت مع بريطانيا ضد روسيا ومع بروسيا ضد فرنسا ، وفي كل هذه التحالفات كانت الدولة العثمانية تبحث عن مصالها التي تأتي أحياناً على حساب مصلحة الشعوب الخاضعة لها أو تتناقض معها . وهو من الناحية السياسية أمر طبيعي وحق من حقوقها ، لكن على الاخرين أن يبحثوا عن مصالحهم . في المستوى الإيديولوجي فإن التحالف تحكمه موازين القوى بين المتحالفين ، ولا بد للعنصر الأضعف أن يفع ثمن تحالف للقوى مهما حاول تجاهل هذه القضية فلا شيء دون ثمن ، وإذا كان عرب مؤتمر باريس هم الأضعف في تحالفهم مع الدول الغربية وترتب عليهم دفع ثمنه ، باتفاقية سايكس بيكو وتجاهل حقوقنا ثم احتلال أرضنا إلا أنهم واجهوا هذا التحول بمواجهة الخديعة ومقاومة الاحتلال . كذلك فإن الدولة العثمانية التي لم تكترث لمطالب الشعوب الخاضعة لها ، عندما تحالفت مع الدول الغربية لم تكن أيضاً في موقع القوة وكان يطلق عليها الرجل المريض . فترتب عليها دفع الثمن بتقطيع أجزائها وانفصال هذه الشعوب عنها . م تكن أيضاً في موقع القوة ةت مع الدول الغربية لم تكن أيضاً في موقع القوة ةترتب عليها قية سايكس بيكو وتجاهل حقوقهم ثم احتلا
2 – بخصوص الشهداء الذين أعدمتهم السلطة العثمانية في 6 أيار / 1916 أو الذين أعدمتهم في 21 أب 1915 في بيروت . يجد الكاتب “أن ( بعضهم وليس كلهم ) كانوا مجرد متعاملين مع السفارات الغربية . ويكرر أن بعضهم وليس كلهم ” .
إذن بعد قرن من الزمن والتكريم والاحتفالات السنوية وتمجيدهم ، وهم يستحقون هذا التمجيد . نكتشف أن ( بعضهم وليس كلهم ) كانوا ( مجرد متعاملين ) مع السفارات الغربية ، ونحن نجهل أونتجاهل كم هو هذا البعض ، هل هو 1 % أم 50 % أم 90 % منهم ؟ وهل توفرت لنا أو لغيرنا الوثائق التي تؤكد مثل هذا التعامل و أهدافه ؟ هل هو بقصد المال أو الوجاهة أو الحماية بعد أن أسقط عنهم هذا الاتهام العامل السياسي الوطني ؟ وهل جرت لهم محاكمات عادلة ونزيهة في قضاء مستقل ونزيه احتكم إلى القانون والقرائن والأدلة ؟ . وإذا كان البعض له مثل هذا التعامل ، لماذا اعدم البعض الآخر الذي نفترض أنهم بعيدون عنه وما هي الأسباب التي دفعت لإعدامهم ؟
نحن نعلم أن الوالي العثماني ساق هذه التهم لتبرير الحكم بالإعدام بعد التهديدات التي وجهها لكل من يعادي الدولة العثمانية . وتشهد على ذلك حادثة القنديل وملخصها : أن قيصر المانيا أراد أن يكرم صلاح الدين الأيوبي بتعليق قنديل هدية منه على ضريحه ، وبحضور الوالي جمال باشا والقنصل الألماني ، القى الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وكان الطبيب الخاص للوالي ، كلمة أشاد بها بتسامح صلاح الدين ودعى جمال باشا أن يحذو حذوه في هذا المجال ، فما كان من الوالي إلا أن هب من مكانه مخترقاً البروتوكول وانطلق للمنصة معلناً ” أنه ليس صلاح الدين وحده الذي يستحق الثناء بل السلطان سليم مع أنه فتك بإخوته وأهله ورجال دولته لأنه وجدهم قد تآمروا عليه وهددوا الدولة الإسلامية ، وسيأخذ القانون بمعاقبة الذين يتجرأون على معاداة الدولة والتآمر على سلامتها . جرت هذه الحادثة في أيلول 1915 أي بعد إعدام شهداء بيروت بأيام ( 21 آب 1915 ) وقبل إعدام شهداء أيار بأشهر .وكان حينها قد مضى على مؤتمر باريس أكثر من سنتين تغيرت فيها معطيات كثيرة . هذه الواقعة لا تدل على النية المبيتة للإعدام فقط ، بل على محاولة طمس الهوية العربية التي مثلها آنذاك صلاح الدين بالنسبة للتاريخ العربي .
جميعنا نعلم أن الأنظمة الاستبدادية في العالم اعتمدت تهمة العمالة والتجسس والخيانة كابسط وسيلة لتصفية المعارضة وفرض العقوبات عليها وتشويه سمعتها ، وتاريخنا العربي مليء بالامثلة ، وهذا الاسلوب لا زال سائداً ويعرفه الكاتب جيداً ، إذ ما أن تقف أمام المحقق بسبب تهمة سياسية حتى تسمع كلمة العميل والجاسوس والخائن حتى لو تعلق الأمر بكلمة معارضة زلت منك بالخطأ . ولماذا لا نصدق مثلاً ما قيل بان الشبكة الجاسوسية البريطانية التي كشفت آنذاك كان لها دور في اختلاق وتسريب هذه التهمة لتصفية الحسابات مع الذين أيدوا فرنسا التي اتهم هؤلاء بالارتباط بسفارتها ؟ .
هذا في الجانب الحقوقي أما في الجانب المعنوي فإن هؤلاء ينتمون إلى عائلات وطنية كان لها دور في النضال ضد أصحاب السفارات المزعومة عندما تكشفت اتفاقية سايكس – بيكو وإحتلال فرنسا لسورية 1920 ، أي لم يمضي أكثر من أربع سنوات على عملية الإعدام حتى سقطت التحالفات التي قامت مع الدول الغربية واشتعل النضال ضد الاحتلال حتى الاستقلال .
3 – بين ثنائية الاستبداد والتخلف ، والاستقواء بالخارج أو دعم الاحتلال يضيع المثقف العربي . هذه الثنائية التي تحكم وعينا تدل عل فقداننا للبرنامج السياسي والفكري الذي يحمي مصالحنا الوطنية والذي يكون بديلاً للاستبداد ، ويرفض رفضاً قاطعاً أي استقواء بالخارج أو الدخول في تحالفات تضر بمصلحتنا الوطنية سواء كانت بالاستقواء أو تأييد الاحتلال أو دعم وجوده أو السكوت عنه مهما كانت المبررات والحجج .وكما قلنا إن أي تحالف له ثمن سيدفعه الضعفاء للأقوياء مهما كانت طبيعة هذا التحالف وأهدافه . مع الأخذ بالاعتبار أن الدولة العثمانية ليست دولة عربية والحكم فيها ليس عربيا ولم يعد العرب ، والأتراك أيضاً حريصون على استمرارها ، وكانت لها مصالحها التي تناقضت في كثير من الأحيان مع المصالح العربية . وقد شهدنا كيف وقفت مع الدول الغربية في مواجهة مشروع محمد علي . وسكتت عن الاحتلال الغربي وغيرها من المصالح .ار أن الدولة العثمانية ليست دودة النظر بها حفاظاً على خاصة بعد أن اشتدت النزعة الطورانية ونزعة التتريك التي دعت هنا نتوقف عند ثنائية من نوع آخر ، بعد كل ما قاله الكاتب عن الدولة العثمانية وعلاقتها مع العرب أو عن الدول الغربية ، وهو قول صحيح بكل تاكيد ، يخلص إلى نتيجة هي “أن الهوية العربية كانت محفوظة ضمن الدولة العثمانية ولا خطر عليها من التذويب بينما يتعرض العرب تحت الاحتلال الغربي لتذويب منهجي … وإذا رتبنا الأولويات نتساءل أيهما اخطر على العنصر العربي في ذلك الوقت الدولة العثمانية وتخلفها واستبدادها ؟ أم الاستعمار الغربي وهمجيته التي تريد اقتلاع الحضارة العربية من جذورها ؟ “.
لقد مارس الاستعمار الغربي ( المتقدم ) أسوأ أنواع الاستبداد والقتل والتشريد ضد شعوبنا العربية في الأقطار التي احتلها إلى جانب محاولته تذويب الهوية العربية هذه حقيقة لا تقبل النقاش ، لكن لماذا مارست الدولة العثمانية ( تخلفها واستبدادها ) ضد العرب ؟ هل لأنهم طالبوا بإصلاحات سياسية واجتماعية فقط ام بسبب مطالبتهم الاعتراف بالهوية العربية التي يعتزون بها في الدولة التي كانوا ضمن رابطتها خاصة بعد أن اشتدت النزعة الطورانية ونزعة التتريك التي دعت لتتريك الشعوب الخاضعة لها ومنهم العرب ؟ .إن أخطر ما يطرح علينا هذه الثنائية ، فلا الدولة العثمانية رحمتنا ، ولا الدول الغربية أنصفتنا ولكل منها مصالحها ونحن تضيع مصالحنا .
وإذا كان ” العرب قد انكفاوا للرابطة القومية بفعل ” الأبطال ” وأن العطب والزيف كان موجودا ً في مشروعهم القومي منذ اللحظة الأولى “؟ حسب قول الكاتب . لماذا لم نسعى نحن ورثة هذا المشروع والكاتب معنا بحكم انتمائه لهذا المشروع ، على الأقل من خلال عضويته في المؤتمر القومي العربي أحد المؤسسات الحديثة لهذا المشروع ، من تصحيح العطب وإزالة الزيف كي يصبح مشروعاً يحقق طموحات الأمة . ؟
علينا أن نعيد قراءة التاريخ من جديد و على علماء التاريخ والمؤرخين توضيح هذه القضايا كي لا تضيع الحقيقة بين سهولة الاتهام وصعوبة إثباته . وكل شيء قابل للنقاش

كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى