إسرائيل – إيران – تركيا.. وصراع الهيمنة
خالد غزال
يبدو، في الشكل، أن سوء التفاهم الإسرائيلي – التركي الذي عرفه البلدان خلال الأسابيع الماضية قد انتهى، بعدما قدمت إسرائيل اعتذارا رسميا إلى الحكومة التركية، عن تصرف نائب وزير الخارجية الإسرائيلي غير اللائق، والبعيد عن الدبلوماسية، تجاه سفير تركيا في إسرائيل.
«الاضطراب» في العلاقات نجم، في الظاهر، عن انتقادات إسرائيلية لمسلسل تلفزيوني تركي بعنوان «وادي الذئاب»، يعرض لجرائم بحق الأطفال، تقوم بها عصابات إسرائيلية، ما رأت فيه إسرائيل، كعادتها تجاه أي نقد لسلوكياتها العدوانية، أن المسلسل يندرج في سياق المعاداة للسامية، وأضافت إليه اتهاما يعتبر تركيا تقوم بحماية قوى تهدد أمن إسرائيل. فهل تسببت الانتقادات التركية للسياسة الإسرائيلية في مثل هذه الأزمة، أم إن صراع مصالح ونفوذ أعمق يدور بين البلدين، مادته قضايا الشرق الأوسط، وفي رأسها الصراع العربي الإسرائيلي، والأوضاع في المنطقة العربية عموما؟ وأين تقف الدول العربية ومصالحها المحلية والإقليمية وسط هذا التناقض الجزئي بين قوتين إقليميتين تقع الدول العربية في سياق إستراتيجيتهما الراهنة والمقبلة؟
إذا كانت العلاقة التركية الإسرائيلية قد شهدت بعض التبدلات الجزئية في السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك لا ينفي كون تركيا كانت من أوائل البلدان التي اعترفت بإسرائيل منذ العام 1949، وأقامت معها علاقات إستراتيجية، وارتبط البلدان بمصالح اقتصادية وعسكرية. لم تكن تركيا في العقود السابقة مهتمة كثيرا بتحسين علاقاتها مع الدول العربية، بمقدار ما كان توجهها المركزي يطول انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وجعل تركيا ذات انتماء للغرب، وجزءا من منظومته العسكرية والسياسية والاقتصادية، وهي «معركة» لاتزال تركيا في صميمها، من دون أن تحقق فيها النجاح الحاسم، بسبب الاعتراضات الأوروبية على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
شكّل الرفض الأوروبي لعضوية تركيا، مضافا إليها طبيعة التبدلات العالمية بعد زوال الحرب الباردة، مضروبا بتحولات اقتصادية في الداخل التركي ومقتضيات وجود مدى حيوي، شكلت هذه العوامل فرصة لتوسيع تركيا لعلاقاتها أبعد من الصلات الإسرائيلية التي كانت تشكل الأساس. أفادت تركيا من كون التكوين الطائفي فيها متوافقا مع ما هو سائد في معظم البلدان العربية، وهو أمر يختلف عن التكوين الإيراني الذي يثير تحفظات ومخاوف في أكثر من قطر عربي. كما أفادت تركيا من الحكم الإسلامي المعتدل المنفتح على العالم العربي، وغير المتنكر للعلمانية في الآن نفسه، يضاف إلى هذا كله أن العلاقات التركية العربية تختزن تاريخا مشتركا، لا تنتقص من متانته العلاقات السلبية الجزئية التي وسمت هذه العلاقات زمن الامبراطورية العثمانية.
هكذا بدلت تركيا في نمط علاقتها بمنطقة الشرق الأوسط، في اتجاه انفتاح أكبر على العالم العربي، موظفة هذا الانفتاح ورقة ضغط على الأوروبيين لقبولها في ناديهم. لذا وجدنا تركيا تتوسط مع إسرائيل وسورية في مفاوضات غير مباشرة، وتتدخل لصالح المقاومة الفلسطينية في أكثر من مكان، وتثبت موقعها ودورها قوة إقليمية يصعب تجاهل دورها في أي ملف إقليمي.
في الجانب الإسرائيلي، كانت إسرائيل ترى في تركيا حليفا إستراتيجيا، قام في الأساس مع قيام الدولة العبرية، وتوطد أكثر مع زوال حكم الشاه في إيران منذ ثلاثة عقود.. فإسرائيل تحرص على العلاقة القوية مع تركيا اقتصاديا وعسكريا، وترغب في استخدام الموانئ التركية لخدمة غواصاتها الألمانية الصنع، والمزودة بصواريخ نووية، كما أنها وقعت منذ فترة اتفاقيات مع تركيا لشراء أعتدة عسكرية، وطائرات من دون طيار بمئات ملايين الدولار، ناهيك عن المناورات العسكرية المشتركة بين الجيشين، ونمط العلاقة القائمة بين المؤسستين العسكريتين التركية والإسرائيلية. تعرف إسرائيل أن الشراكة بين البلدين تحمل مصالح مشتركة لكل منهما، وتحرص على استمرارها.
لكن اسرائيل، في المقابل، لا تبدو مرتاحة كثيرا إلى التقارب العربي – التركي، والى التدخل التركي في شؤون المنطقة، ولعب دور مؤثر لما تملكه من موقع إيجابي تجاه العرب، كما أن إسرائيل تشعر عبر التدخل التركي في شؤون الصراع العربي الإسرائيلي بتجاوز للقوة الإسرائلية المهيمنة، وللشروط التي تتعاطى بموجبها مع العالم العربي. لذا، وخلافا للعنجهية والعنصرية الصهيونية تجاه غير اليهودي، اضطرت إسرائيل إلى الاستجابة للإنذار التركي، بتقديم اعتذار عن سلوك المسؤول الإسرائيلي غير اللائق مع السفير التركي، وهو ما بدا مفاجئا ومستهجنا لقوى كثيرة. لكن منطق المصلحة غلب عند الإسرائليين على العنجهية الصهيونية المعتادة. أبدى العرب ارتياحا وسرورا من الموقف التركي و«الخضوع» الإسرائيلي للإنذار التركي، وخرج الإعلام في تدبيج مقالات المديح. وعلى جاري العقلية السياسية العربية في عدم الدخول في جوهر القضايا، بالغ الكثير في التقويم الإيجابي للدور التركي، من دون رؤية أن ما حصل لم يكن له أن يعدل في نمط السياسة التركية تجاه اسرائيل، فلم يلغ صفقة الطائرات التي سارع وزير الدفاع الاسرائيلي الى زيارة تركيا وتأكيد العلاقة الإيجابية المشتركة، وتوقيع مزيد من الاتفاقات العسكرية بين البلدين، ما يعني أن العرب مطلوب منهم موقفا مستقلا وخاصا، انطلاقا من المصالح العربية أولا وأساسا. مع التسجيل الإيجابي لبعض التحولات التركية.. إلا أن وقائع منطقة الشرق الأوسط تظهر يوما بعد يوم أن المنطقة تقع ضمن مثلث إستراتيجي متكون من تركيا وإسرائيل وإيران، يرغب كل طرف من هذا المثلث بالهيمنة على المنطقة، واحتكار النفوذ والقوة فيها، وهو أمر يجري على حساب الدول العربية ومصالحها ومصادر ثروتها. يزيد من خطورة الموضوع أن الصراعات الإقليمية والمبارزات بين أطراف هذا المثلث، إنما تدور على الأراضي العربية نفسها، ما يجعل الموقف العربي المتضامن والمدرك لمصالح ومطامع القوى الأخرى حلقة مفقودة، ينجم عن غيابها مزيد من الضعف والخلل في الموقف العربي.
من المهم الإفادة من التبدلات التركية عربيا، ولكن الأهم تغليب المصالح العربية، واستخدام نقاط القوة غير البسيطة لدى العرب في إقامة موقع يجعل المثلث مربعا، بحيث يضع العالم العربي في موقع الفاعل والمقرر إقليميا ودوليا وعلى مختلف الجبهات.
كاتب من لبنان
أوان