إسرائيل والمانيا: ضحية مقدّسة واخرى رجيمة
صبحي حديدي
ألقى الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس خطبة أمام البرلمان الألماني، وُصفت بـ’التاريخية’ لأسباب في طليعتها أنّ هذه الممارسة هي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات الألمانية ـ الإسرائيلية، من جانب الدولة العبرية في الواقع، لأنّ المستشارة الألمانية أنغلا ميركل تحدّثت من سدّة الكنيست الإسرائيلي، أواخر آذار (مارس) 2007، وسبقها إلى هذا الرئيس الألماني السابق يوهانس راو، سنة 2000، حين طلب العفو والمغفرة عن الجرائم التي ارتكبتها ألمانيا النازية بحقّ اليهود. لكنّ خطبة بيريس ‘تاريخية’ لسبب آخر، لغوي وثقافي صرف هذه المرّة، هو أنه تحدّث بالعبرية فلم ينسحب من قاعة البرلمان أيّ نائب ألماني، من باب الإحتجاج، كما فعل حفنة نوّاب إسرائيليين رفضوا الإصغاء إلى ميركل باللغة الألمانية، وطالبوها باستخدام اللغة العبرية!
ورغم أنّ ميركل ذهبت في أقوالها إلى ما لم يتجاسر على الذهاب إليه أيّ صديق غربي لإسرائيل، بما في ذلك ساسة الولايات المتحدة الأمريكية، حين اعتبرت أنّ تهديد وجود إسرائيل يُعدّ تهديداً لوجود ألمانيا، فإنّ عضو الكنيست أرييه إلداد صرّح بأنّ ‘الألمانية كانت آخر لغة استمع إليها جدّي وجدّتي قبل مقتلهما، وأمر الإعدام صدر باللغة الألمانية، ولست مستعداً لسماعها داخل قاعة الكنيست’. كذلك لم يشفع للمستشارة الألمانية أنها، خلال الزيارة ذاتها، ألحقت الإهانة تلو الإهانة بالفلسطينيين، شعباً وحكومة، وجعلت اجتماعها مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتمحور حول البند الأهمّ في نظرها: إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليت.
ولأنّ خطبته أمام البرلمان الألماني كانت تصادف اليوم العالمي لاستذكار الهولوكوست، فقد شاء بيريس التشديد على ضرورة قيام الألمان بواجبهم في مطاردة جميع ‘المجرمين النازيين’ الذين ما يزالون طلقاء، هنا وهناك في العالم، لأنّ الذكرى لا تخصّ الضحايا فحسب، بل يتوجب أن تكون ‘نذيراً’ للعواقب المأساوية التي تنجم عن عدم التحرّك ضدّ ارتكاب الفظائع. وتقديم أولئك المجرمين إلى العدالة ليس فعل انتقام، في نظره، بل هو ‘درس تربوي’ للأجيال الراهنة من الشباب: ‘لكي يتذكروا، ولا ينسوا أبداً، أنّ عليهم معرفة ما جرى، وأن لا يساورهم، أبداً أبداً، أدنى شكّ بعدم وجود خيار آخر سوى السلام والمصالحة والحبّ’…
أنظروا مَنْ الناطق بهذه الدعوة، الرقيقة الحانية العطوفة: رئيس الدولة ذاتها التي ارتكبت، قبل عام واحد فقط، عشرات المجازر البربرية في غزّة، مستخدمة أسلحة دمار وحشية يندى لها جبين أشدّ عتاة النازية تعطشاً للدماء! ليس هذا فحسب، بل إنّ بيريس نفسه كان رئيس وزراء الدولة العبرية حين ارتكبت البربرية الإسرائيلية مجزرة بلدة قانا اللبنانية الجنوبية، سنة 1996، وأسفرت عن 106 شهداء مدنيين، بين شيخ وامرأة وطفل، و350 جريحاً، رغم أنّ الضحايا كانوا في ملجأ مدني رسمي تابع للأمم المتحدة. وتلك كانت مجزرة مكشوفة صريحة نُفّذت عن سابق عمد وتصميم، كما برهنت تحقيقات الهيئة الدولية ومنظمة العفو الدولية والتقارير الشجاعة التي كتبها الصحافي البريطاني روبرت فيسك.
هذا الآمر بجريمة الحرب في قانا، شمعون بيريس، ظلّ بمنجى عن أية مُساءلة داخلية (أمام ‘الديمقراطية’ الإسرائيلية إياها)، أو مساءلة دولية (أمام الهيئات التي تستفيق من رقادها بين حين وآخر للمحاسبة على جرائم الحرب)؛ بل لقد تقلّب في المناصب، وبدّل الولاءات الحزبية، وذرف الكثير من دموع التماسيح، وها هو اليوم يتباكى على الخير، ويطلب استئصال الشرّ. ليست هذه الحال، الأقرب إلى بورنوغرافيا الشفقة في صيغتها الأشدّ ابتذالاً، جديدة على الرجل نفسه، او الدولة التي يترأسها، أو ثقافة صناعة الهولوكوست بأسرها في الواقع، سواء جرى تصنيعها في المؤسسة الرسمية الإسرائيلية، أو في هذه أو تلك من مؤسسات ومجموعات الضغط الصهيونية واليهودية في العالم بأسره.
وما دام الأمر يخصّ ألمانيا اليوم، فلنتذكر حملة الترهيب الفكري التي شنّها أحد أبرز المنخرطين في صناعة الهولوكوست، ضدّ نورمان فنكلشتاين (المؤرخ، والأكاديمي الأمريكي المرموق، واليهودي سليل أسرة ناجية من المحرقة)؛ وروث بتينا بيرن (المؤرخة الكندية، والباحثة المسؤولة عن ملفات الجرائم بحقّ الإنسانية في وزارة العدل الكندية). قائد الحملة تلك كان دانييل جوناه غولدهاغن، وهو ـ لمَنْ لا يعرفونه ـ صاحب مجلد في 619 صفحة، عنوانه ‘جلاّدو هتلر المتطوّعون: الألمان العاديون والهولوكوست’، وتنهض أطروحته الوحيدة على هذا الجزم الرهيب القاطع: ألمانيا بأسرها، بلداً وشعباً وثقافة، مسؤولة عن الهولوكوست، و’ما يُقال عن الألمان لا يمكن أن يُقال عن جميع الأمم الأخرى مجتمعة. الأمّة الألمانية هي الهولوكوست، ولولا هذه الأمّة لما كان الهولوكوست’. جريمة فنكلشتاين وبيرن كانت تفنيد أطروحة غولدهاغن، على نحو علمي هادىء، وفي دورية فكرية رصينة هي ‘المجلة التاريخية’ التي تصدر عن جامعة كامبرج، التي كانت قد اتصلت به لكي يردّ، فاختار أن يفعل عن طريق مكتب محاماة!
أو، في مثال ثانٍ يخصّ ألمانيا: ما الذي يضير في قيام الأمّة الألمانية بتكريم ضحاياها (من المدنيين، العزّل، الأبرياء) الذين سقطوا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية؟ وأيّ إثم في تأسيس مركز توثيق ومتحف تاريخي، لحفظ تفاصيل تلك الوقائع الرهيبة، وجعلها في متناول الذاكرة الجَمْعية؟ ألا يندرج إنجاز مشروع كهذا في صلب الحقوق الوطنية لأيّ شعب من شعوب العالم، بل يتوجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من واجبات الشعوب تجاه تاريخها؟ لم يكن هذا رأي الأوساط الصهيونية العالمية، التي أطلقت حملة أخرى شعواء ضدّ المشروع، استهدفت بصفة خاصة السيدة إريكا شتاينباخ، السياسية الألمانية البارزة ورئيسة ‘رابطة المطرودين’ التي تُعنى بشؤون ملايين المطرودين من ديارهم، ليس في ألمانيا وحدها بل في مختلف أرجاء العالم.
ولم يكن عسيراً أن يتكهن المرء بأنّ السبب في الغضبة الصهيونية تلك ليس أيّ اعتبار آخر سوى الحكاية القديمة إياها: احتكار عقدة الضحية الكونية، والإنفراد بها تماماً، وتهميش وتقزيم كلّ وأيّ ضحية أخرى، بل الحطّ من عذاباتها إنْ أمكن. قرأنا، على سبيل المثال، ما كتبه المؤرّخ الإسرائيلي جلعاد مرغاليت: ‘إنّ هدف الأوساط الألمانية المحافظة هو صياغة يوم ذكرى لإحياء الفترة النازية، ولكنها ذكرى منعتقة من الرأي الإتهامي الذي تحمله الضحية اليهودية. ورغم أنّ الإجراء لا يرقى إلى مصافّ إنكار الهولوكوست، إلا أنه بلا ريب يساوي بين الهولوكوست وعمليات الإضطهاد التي تعرّض لها الألمان’. ومرغاليت هذا (وهو في عداد المؤرّخين المعتدلين!) يختار لمقاله عنواناً استفزازياً هو ‘ازدياد عذابات الألمان’، ويضع كلمة عذابات بين أهلّة، على سبيل التشكيك في صحّة معنى العذاب، وربما صحّة وجود عذابات ألمانية في الأساس!
والحال أنّ الوقائع التاريخية تقول إنّ الأعداد التالية من المواطنين ذوي الأصول الألمانية طُردوا، بعد الحرب العالمية الثانية، من البلدان التي كانوا يقيمون فيها ويتمتعون بجنسيتها: 2 ـ 3.5 مليون من بولندا، 2.3 من تشيكوسلوفاكيا، قرابة مليون من الإتحاد السوفييتي، 400 ألف من هنغاريا، 300 ألف من رومانيا، إضافة إلى قرابة مليون من مختلف مناطق أوروبا الشرقية. هذه هي الأعداد في تقديراتها المخفّضة، وأمّا العدد الذي تسوقه رابطة المبعدين فهو 15 مليون ألماني.
ألا يستحقّ هؤلاء الذكرى، لكي لا نتحدّث عن التعويضات وردّ الاعتبار، كما هي حال اليهود؟ لا يبدو مرغاليت وكأنه يوافق على هذه البديهة البسيطة، لأنه يرتاب دائماً في نوايا السيدة شتاينباخ، وفي أنها تستهدف إضعاف ذاكرة الهولوكوست أكثر من تقوية ذاكرة الضحية الألمانية، وذلك رغم أنّ مشروع مركز مناهضة الطرد يضع اليهود في رأس ضحايا هذه الممارسة غير الإنسانية. ومرغاليت يتوقف، بصفة خاصة، عند موقف شتاينباخ ‘المتطرّف’، حسب تعبيره، القائل إنّ عمليات طرد الألمان جرى التخطيط لها قبل الحرب، ولا يمكن النظر إليها كجرائم ناجمة عن ضرورات محاربة النازية، بل كجرائم في حدّ ذاتها. أكثر من هذا، تزعم شتاينباخ امتلاك أدلة قاطعة على أنّ 2.5 مليون من الألمان المطرودين من ديارهم، ‘قضوا تحت التعذيب أو التشغيل الإجباري أو الاغتصاب’… فكيف تجاسرت على سوق أرقام تداني نصف أرقام ضحايا الهولوكوست من اليهود!
جانب آخر من المأساة كان يخصّ القصف الوحشي الذي مارسه الحلفاء ضدّ المدن والبلدات والبنى التحتية الألمانية، وكأنهم كانوا ينزلون العقاب بالشعب الألماني نفسه، بعد انهيار الرايخ الثالث. وهذه معركة لا تنفرد بإثارتها ‘رابطة المبعدين’، ومن حلفها الأوساط المحافظة الألمانية كما زعم مرغاليت، بل ينخرط في حملاتها رجال يساريون من أمثال الروئي الكبير وحامل جائزة نوبل غونتر غراس، وساسة ليبراليون من أمثال هانز ديتريش غينشر، وكتّاب من أمثال يورغي فردريش الذي وضع كتاباً مصوّراً عن قصف ألمانيا، اعتبر فيه أنه لا يوجد فارق أخلاقي بين ونستون تشرشل وأدولف هتلر.
وموقف مرغاليت يذكّر بموقف آخر أكثر شهرة، لا لشيء إلا لأنّ صاحب الموقف رجل ـ مؤسسة، وحائز على جائزة نوبل للسلام، ووصيّ شبه أوحد على ذاكرة الهولوكوست. إنه إيلي فيزل، الصحافي والروائي والأستاذ الجامعي الذي لا يفضّل لقباً آخر على ذاك الأثير الفريد الذي ليس في وسع أحد أن ينافسه عليه: عميد ضحايا الهولوكوست. ولد في رومانيا عام 1928، وتمّ ترحيله مع أسر يهودية أخرى إلى أوشفيتز في عام 1944، وكان بين قلائل بقوا على قيد الحياة، فعاش في باريس ونيويورك، وعمل مراسلاً لصحيفة ‘يديعوت أحرونوت’ الاسرائيلية، ثمّ حصل على الجنسية الأمريكية وانخرط في التدريس الجامعي، ونال جائزة نوبل للسلام في عام 1986.
وفي سياق وظيفته كحامل أوحد لأختام مأساة الهولوكوست، رفض فيزل أي وجه للمقارنة بين الجثث التي كانت تتهاوى وتحترق في سراييفو، وتلك التي تهاوت واحترقت في أوشفيتز، كما رفض الإستخدام المجازي لتعبير ‘الهولوكوست الجديد’ أو ‘أوشفيتز الجديدة’ في وصف فظائع الصرب في البوسنة والهرسك. ولكي يقطع الشك باليقين، سافر إلى سراييفو ليناشد الصحافيين الكفّ عن هذه ‘الميوعة’ في ابتذال ما هبّ ودبّ من ‘مصطلحات مقدّسة’. وكما فعل غولدهاغن ضدّ فنكلشتاين، أنحى فيزل باللائمة الشديدة على لائحة طويلة من اليهود الذين تعاطفوا مع عذابات الفلسطينيين، تحت الإحتلال وبعد أوسلو الأولى والثانية، وليس قبلئذ كما يمكن للمرء أن يتخيّل. وبين ضحاياه كان جان دانييل، الصحافي الفرنسي اليهودي المعروف ورئيس تحرير أسبوعية ‘لونوفيل أوبسرفاتور’، لأنّه يواصل انتقاد الدولة العبرية ‘حتى في هذه الأيام العصيبة’، وهذا ارتكاب للإثم الأكبر في يقين فيزل.
وهكذا أيضاً، قبل أن يتلو صلاة الـ’كاديش’ العبرية ويتباكى مجدداً على المحبة والوئام بين الشعوب، أعاد بيريس التشديد على تنويعات تلك الثقافة الهولوكوستية التي عبّر عنها أمثال غولدهاغن ومرغاليت وفيزل، وسيواصل انتهاجها عشرات الكتّاب والمنظّرين والساسة الصهاينة: لا شبيه، البتة، لضحية الهولوكوست، ومحظور أن يكون لها شبيه، حتى إذا انقلب بعض أبنائها وأحفادها إلى… قَتَلة ومجرمي حرب!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –