احتكار الحقيقة ونفي الآخر محنة المجتمع العربي
ميشيل كيلو
هناك نمط من الناس يكون دائما على حق، حتى عندما يقول رأيين متناقضين في مسألة واحدة، أو تقوده حجج واحدة إلى الدفاع عن قضيتين متعارضتين أو مصلحتين متضاربتين. هذا النمط من البشر متوفر بكميات تجارية في وطننا العربي، ويكثر وجوده كلما ارتقيت في سلم المجتمع والسياسة والثقافة، وتجده بخاصة في صفوف من لا يتوقفون عن ارتكاب أخطاء هي خطايا، خاصة منها تلك التي تتجاوز أشخاصهم، ولها وقع وتأثير مدمران على مواطنيهم.
وهناك نمط من الجماعات يظن نفسه معصوما عن الخطأ، يعاديك إن أنت اختلفت معه، يوهم أن ما يقوله أو يعتقد به هو عين الصواب، وإن الحقيقة لا يمكن أن تتجلى إلا من خلاله وعبر ما يراه، فالخلاف معه يتخطى الاختلاف في الرأي الشخصي إلى الخروج على الحقيقة المقدسة، التي تكتسب في هذه الحالة سمات علوية تجعل جهلها جاهلية والاختلاف معها كفرا. هذا النمط موجود بدوره بوفرة تجارية في بلداننا، سواء أخذ صورة حزب سياسي أو هيئة نقابية أو ناد رياضي أو أي شيء من هذا القبيل. وهو يعبر عن نفسه في تعظيم ذاته وتحقير الآخرين، وتقسيم البشر إلى فئتين واحدة منهما تضم جماعتنا، والثانية من لا ينتمون إليها، فالخلق فئتان هما ‘نحن’ و’هم’، مع تزويد الـ’نحن’ بصفات الحق والخير والجمال، والهم’ بأوصاف شيطانية تجردهم من إنسانيتهم. قد يرتكب هذا النمط من الجماعات أخطاء قاتلة، وقد يعبر عن آراء متناقضة في كل أمر، مع ذلك، هو دوما على حق ولا يأتيه الباطل من بين يديه أو من أمامه وخلفه. وهو لا يراجع مواقفه، فإن أجبره ظرف أو موقف على الشك في ما يصنع أو يعتقد، انصب جهده على إعادة إنتاج وضعه وموقفه السابقين، فكأنه يقول: الخطأ، إن وقع، يكون في الواقع وليس عندي.
هناك أخيرا نمط من النظم السياسية والحكومية يرفض بدوره أن يكون على خطأ، حتى عندما يمارس هو نفسه النقد الذاتي ويقر باقتراف الأخطاء. كي يكون على حق، تراه يتبنى قوسا واسعا ومتناقضا من الآراء والمواقف، لاعتقاده أن هذا سيمكنه من احتواء أي رأي أو موقف يظهر أو قد يظهر لدى رعاياه، وسيقصي إمكانية أن يكون على خطأ، وسيجعل الحقيقة ملك يديه، لأنها لن تتمكن من الوجود خارج دائرة آرائه ومواقفه وأفكاره. إنها حبيسة ما يعتقد، فمن الضروري فرضه على مجتمعه باعتباره إمكانية وجودها الوحيدة، والصواب الوحيد الممكن، الذي تضع الرعية نفسها بمخالفته خارج الحقيقة وضدها، وتلتحق بالضالين والشاذين عقليا، فلا مفر من ردها إلى جادة الصواب، بالطرائق والوسائل المتاحة، بما فيها التخويف والقمع.
هناك عدوان لهذا النمط من الأفراد والجماعات والحكومات هما : الرأي الآخر، والذاكرة. يحيل الرأي الآخر إلى الحرية الشخصية والسياسية، وتحيل الذاكرة إلى الوعي الشعبي والضمير الجمعي المستقل عن الراهن، بغض النظر عن درجاتهما وطابعهما. بما أن الحرية تعني الحق في الاختلاف والحوار والمشاركة، والذاكرة تعني، في جملة ما تعنيه، قدرة الفرد والجماعة على مواجهة سوء الحاضر بألق الماضي، والوعي النخبوي بالوعي أو اللاوعي الجمعي، فإن هذين العدوين يظلان هدفا يسعى إلى تقويضه المعصومون من جميع الأصناف، الذين يدعون احتكار الحقيقة ويضعون عصمتهم فوق أي حق، فلا يبقى في حياتهم أو قيمهم أية فسحة للآخر، ولما يراه، وهم يعتدون دوما وبصورة كيفية ومفتوحة على حريته وذاكرته، باعتبارهما عدوا يجب التخلص منه والإجهاز عليه بأي ثمن. في هذه الحالة، نحن أمام حالة تتعدى التعصب والتسامح إلى نفي الآخر، وإنكار حتى حقه في الحياة، فهذا النمط من الأفراد والجماعات والحكومات يرى وجود الآخرين بدلالة آرائه دون غيرها، ويعتبر من يتفق معها خليقا بالحياة، ومن ينكرها أو يختلف معها فاقدا لحقه في أن يكون له أي حق، طبيعيا كان أم مدنيا. وللعلم، فإن خطورة موقف المعصومين، الذين يؤدلجون ويؤلهون أنفسهم، تنبع من ربطه الدائم بأحكام تطبق في المجال السياسي، مجال المصالح، التي غالبا ما تكون عابرة وشديدة التبدل، مع أنها تنتمي إلى مجال مختلف هو مجال القيم، المتصل بثوابت الحقيقة ومسائلها. بهذا الإبدال يحول المعصومون غيرهم إلى خونة أو أعداء أو ضالين أو كفرة، يجب أن تطبق عليهم معايير من خارج منظومة القيم الإيجابية لحياة ووجود الإنسان، وتجعل التخلص منهم مهمة نبيلة وواجبا مقدسا لا يجوز التهاون فيه.
يعيش أصحاب الرأي عامة والرأي الآخر خاصة محنة حقيقية في مجتمعاتنا العربية ونظمها السياسية، التي يقول علماء السياسة إنها لا تدار من بيروقراطيات تخطىء وتصيب، بل من آلهة يظنون أنفسهم فوق وخارج الخطأ والصواب، يقولون للأشياء كوني فتكون، فلا عجب أنها تنكر حق مواطنها في الرأي المختلف أو الآخر، وأن علاقتها مع أصحاب الرأي تتجاوز الحرية الشخصية، التي لا تمثل قضية في نظرها، إلى ضرب من العبودية يرى في الحرية التماثل التام بين معتقدات الخلق ورأي حكومتهم، ويعتقد أن حرية المواطن تبلغ الذروة، عندما يتبنى آراء ومواقف حكامه، مهما تعارضت مع آرائه ومواقفه، وتكتمل حين يفقد القدرة على إضافة لمسة شخصية إلى ما يقدم له من عقائد وآراء، ويتحول إلى خروف في قطيع يجتر ما ينزل عليه من علياء يجهل كنهها، يكرر ما تحشو رأسه به دون فهم أو تفكير.
يكمن هنا، كما أعتقد، أحد جذور مأساة أمتنا، التي جعلها دينها أمة حوار وتسامح وقواسم مشتركة وأفكار جامعة وموجهة في احترامها وتعايشها تجاوز اختلافها في الرأي والفكر، وتخطي الخطأ باعتباره أمرا بشريا طبيعيا. وكان واقعها التاريخي قد جعلها ساحة تتفاعل داخلها آراء وتوجهات وإرادات ومصالح من قيض له الدخول إلى رحابها أو الانتماء إليها، وحولها إلى فضاء داخلي مفتوح أتاح لكل من انتمى إلى دينها أو عاش في كنفها الصعود إلى أرقى مراتب المجتمع والدولة، فكان من قادتها عرب وكرد وسلاجقة وغزنويون وديلم وإخشيد وطولون ومماليك وألبان وترك وفرس… الخ، لعبوا بفضل انفتاحها وتسامح دينها دورا مقررا في وجودها ومصيرها. حدث هذا، حين كان هناك خلفاء يجالسون ويجادلون أهل الرأي ويتعلمون منهم، ويعون أن في اختلاف رعاياهم قوة دولتهم، ويؤمنون أن العقل ينمو بالحوار والاجتهاد ويموت بالكبت والتقييد، حتى قال كاتب بيان عصر النهضة بيك دو لا ميراندول وهو إفرنجي وليس عربيا – يقول: ‘علمني أجدادي العرب أن الإنسان أعظم قيمة في الوجود، وأن حرية الرأي هي أعظم مزاياه’.
يتطلب الإقرار بالخطأ الكثير من الحكمة والتواضع، ويقوم أساسا على حب الإنسان والتعلق بالحقيقة، وعلى وضعهما فوق أي شيء آخر، وبالأخص فوق نزعة الإنسان الذاتية، وهي نزعة طبيعية تتحول الى مرض عضال غير قابل للشفاء، إن أضفى المرء عليها صفات قدسية ليست لها بأي حال من الأحوال. بالمقابل، يتطلب ادعاء العصمة الكثير من الجهل والغرور، ويفضي إلى اقتراف ذلك الصنف الخطير من الأخطاء، السائد بيننا كأفراد وجماعات وحكومات، ويعتبر ضربا من الجريمة، بالمعنى الذي قصده تاليران، وزير خارجية نابليون بونابرت، الذي أجاب عندما سأله الأخير حول إقدامه على قتل وريث العرش الملكي دوق دانجون وما إذا كان جريمة: إنه أفظع من ذلك يا جلالة الإمبراطور. إنه خطأ.
إن من ينكر أخطاءه يرتكب جرائم كثيرة بينها تنكره للرحمة الإلهية، التي جعلت البشر خطائين، وأمرتهم بالاعتراف بأخطائهم، ورأت فيها جانبا حميدا يذكرهم بنقصهم كبشر وبكمال الله رب العالمين، ووعدتهم بغفرانها متى تابوا عنها، أي متى اعترفوا باقترافها وأبدوا الرغبة في أن لا يعودوا إليها من جديد.
إن عصمة الأفراد والجماعات والحكومات مرض قاتل، سرطان لا دواء له ولا شفاء منه، ينتشر في فترات الانحدار والهزائم القاتلة، حين لا يستطيع البشر وخاصة منهم الحكام – الدفاع عن أفعالهم، فيعلنون قدسية أشخاصهم وآرائهم، ويرفعون أنفسهم إلى مرتبة غير بشرية، غير إنسانية. بالمقابل، يصحب الاختلاف مراحل الازدهار، التي تؤسس بالحرية، رأسمال الإنسان الوحيد وسلاحه الرئيس في مواجهة نقصه. عندما ستعترف نظمنا بأنها تدار من بشر يخطئون ويصيبون، وأن الحاكم ليس إلها دنيويا، سنكون قد وضعنا قدمنا على الطريق الصحيحة. بغير ذلك: ليس أمامنا غير المزيد من التدهور والهزائم والبؤس، واكتشاف آلهة مقدسين يغرقون البشر والعالم في النجاسة!
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي