صفحات ثقافية

الآثار الشعرية الألمانية لصاحب امراثي دوينوب: ريلكه العربي خارجاً من عزلته على يد كاظم جهاد

null
ناظم السيد
تتأتى أهمية الآثار الشعرية لريلكه (1875- 1926) والتي نقلها كاظم جهاد إلى العربية في ثلاثة مجلدات، صدرت عن ز كلمةس وس منشورات الجملس من كونها أول ترجمة عربية شاملة لنتاج الشاعر بالألمانية بعد ترجمات مختارة ومتفرقة له قام بها شعراء ومترجمون آخرون ولا سيما ز مراثي دوينوس التي ترجمها الشاعر فؤاد رفقة مطلع السبعينات. وتأتي هذه الآثار بعد ترجمة الشاعر كاظم جهاد الأعمال الشعرية الكاملة بالفرنسية لريلكه عن ز منشورات الجملس أيضاً. وفي حين كان المترجم نقل مجموعات ريلكه الشعرية بالفرنسية عن الفرنسية مباشرة، فإن الآثار الشعرية التي كتبها بالألمانية نقلها المترجم عن الألمانية مباشرة، بالتوازي مع الأعمال الشعرية الكاملة التي نشرت للشاعر بالفرنسية عن منشورات زلا بليادس. لقد عمل المترجم على الأصل الألماني مستعيناً بالترجمة الفرنسية، وذلك بسبب اتقانه الفرنسية ودراسته الألمانية حين عاش سنة واحدة في ألمانيا الغربية مطلع الثمانينات قبل أن يكمل دراسات في اللغة الألمانية في معاهد خاصة أثناء إقامته في باريس على ما ذكر المترجم نفسه. وبهذه المجلدات الثلاثة معطوفة على المجلد الضخم للأعمال المكتوبة مباشرة بالفرنسية يكون النتاج الشعري لريلكه، أحد أبرز الشعراء الألمان بعد غوته، نقل في غالبيته الكبرى إلى العربية، على يد مترجم واحد، إذا استثنينا الأعمال النثرية التي نقلت للشاعر إلى العربية. وهذا النقل الشامل الممهور بتوقيع مترجم واحد بقدر ما يتيح للقارئ العربي، خالي الذهن من الألمانية، تتبع أعمال شاعر كبير وفق مناخ لغوي واحد وحساسية واحدة وذائقة واحدة ومنهج واحد، بقدر ما ترهن ترجمة ز واحدةس كهذه الأصل اللغوي للغة المنقول إليها، حاجبة عن القارئ العربي الفرصة في الاختيار بين الترجمات والمفاضلة في ما بينها، أي بعكس اللغة الفرنسية التي استوعبت ما يزيد على ست ترجمات لريلكه.
مفاتيح القراءة
صدّر كاظم جهاد ترجمته هذه بمقدمة أضاءت على عالم ريلكه الشعري، وقدّمت مفاتيح مهمة للدخول إلى قصائده. وتبرز أهمية هذه المقدمة من كون الشاعر المترجم إلى العربية شاعراً عصيّـاً على القراءة السهلة، المسطحة، البرانية، ذلك أن شعرية ريلكه حصيلة تجارب لغوية وتبصّر وتأمل ومعاينات ومراكمة ثقافية، وهي شعرية تستفيد من وسائط أخرى كالنحت والرسم والفلسفة واللاهوت، إضافة إلى التراكيب اللغوية ودلالة المفردات المزدوجة التي غالباً ما لجأ إليها. شعرية ريلكه مغلقة على القارئ العابر، إذ لا تبدي نفسها إلا إلى قارئ أعلى يستهدف قراءة الشاعر وتتبعه إلى تلك المناطق المظلمة والعميقة والصعبة. من هنا بدت مقدمة جهاد هذه، خريطة لقراءة ريلكه ودليلاً إلى شعره. على أن المترجم لم يكتفِ بهذه الممقدمة بل أتبعها بمقدمة أخرى كتبها غيرالد شتيغ للأعمال الشعرية للشاعر والصادرة بالفرنسية في سلسلة زلا بلايادس في دار زغاليمارس سنة 1997. وقد عمل المترجم على نقل هذه المقدمة بشكل مكثف (تبلغ نحو 100 صفحة بعد اختزالها)، وفيها عمل شتيغ على تقديم قراءة عميقة لأعمال ريلكه، كتاباً كتاباً، جامعاً ما بين النقد والتأويل من جهة وما بين إيجاد تقاطعات حياتية مع بعض القصائد بالاعتماد على رسائل للشاعر إلى صديقاته أو أصدقائه أو ناشريه وسواهم أو على نصوص نثرية ولا سيما روايته الوحيدة التي كتبها في باريس بعنوان ز دفاتر مالته لوريدس بريغةس. وبهاتين المقدمتين اللتين تعدان دراستين شبه مفصّلتين عن شعر صاحب ز مراثي دوينوس يكون القارئ استحوذ على عوالم ريلكه ومصادره الشعرية ومرجعياته ورؤيته وتقنيات الجملة لديه وتراكيبه، معطوفة على سيرته الحياتية التي لا تنفصل عن شعره بدءاً بسكنه في قصر دوينو في إيطاليا ( وهبته هذه الإقامة صديقته الأميرة ماري فون تورن أوند تاكسيس)، وصولاً إلى سكنه في قصر ميزو في منطقة الفاليه السويسرية حيث توفي ودفن في مقبرة رارون، وما بينهما من أسفار وإقامات مديدة أو قصيرة شملت مدناً عديدة في النمسا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا وروسيا وإسبانيا والدنمارك والسويد وبوهيميا ومصر وسويسرا. وإذا أضفنا إلى هاتين المقدمتين العربيتين لأعمال ريلكه بالألمانية إلى المقدمتين اللتين تصدرتا ز الأشعار الفرنسية الكاملةس التي نقلها المترجم نفسه، واحدة للمترجم وأخرى لفيليب جاكوتيه المنقولة عن طبعة غاليمار سنة 1978، بعنوان ز بساتين وقصائد فرنسية أخرىس يكون كاظم جهاد قد كتب وحرر في العربية ما يوازي كتاباً نقدياً مستقلاً عن راينر ماريا ريلكه. وإلى هذه المقدمات، ذيّل المترجم ترجمته بحواش كثيرة نقلها عن ترجمة غيرالد شتيغ بالفرنسية سالفة الذكر، مضيفاً إليها أو حاذفاً منها. وقد عملت هذه الحواشي على تقديم شروحات نقدية لبعض القصائد وعلى تقديم خلفيات حياتية أو مرجعيات واقعية أو مناسباتية لبعض القصائد الأخرى. على أن الارتهان لهذه الحواشي كلياً شكـّل نوعاً من الأسر لبعض القصائد، إذ بدت عائقاً أمام القراءة الحرة من جهة، أو عملت على توجيه القارئ نحو قراءة واحدة للنص الشعري بدل إخلاء القصيدة للقراءة المتعددة، جاعلة هذه القصيدة أو تلك نصاً ذهنياً مكتفياً بذاته أو بتأويل المترجمين ( كاظم جهاد وغيرالد شتيغ).
عمل بانورامي
شملت ترجمة كاظم جهاد للأعمال الشعرية شبه الكاملة التي كتبها ريلكه بالألمانية جميع الكتب التي نُشرت للشاعر بلغته الأم. وقد أخضع المترجم ترجمته هذه لتسلسل زمني شمل أشعار الشاعر الأولى قبل أن يختم بآخر أعماله ز سونيتات إلى أورفيوسس. وفي حين اقتصرت الترجمة على بعض أشعار الصبا ( الأشعار التي تبدو رخوة وساذجة والتي تجاوزها الشاعر نفسه لاحقاً، تلك الأشعار التي وقعها باسم رنيه ماريا ريلكه أو رنيه ماريا سيزار ريلكه)، فإنها- أي الترجمة – شملت جميع الكتب اللاحقة بشكل كامل. وتضم الترجمة الكتب ز تاج من أحلامس ز ما قبل عيد الميلادس ز من أجل الاحتفاء بنفسيس ز صلوات الصبايا إلى مريمس ز أغنية عشق حامل الراية كريستوف ريلكه ومصرعهس ز كتاب الساعاتس ( يضم ثلاثة كتب هي ز كتاب الحياة الرهبانيةس ز كتاب الحجس وس كتاب الفقر والموتس) ز كتاب الصورس ز قصائد جديدةس ز جنّازس ز حياة مريمس ز خمسة أناشيدس ز مراثي دوينوس وس سونيتات إلى أورفيوسس. هذه الشمولية وهذا التسلسل الزمني يتيحان للقارئ تتبع نتاج ريلكه من البدايات إلى النضج، كما يتيحان له عقد المقارنات بين تلك البدايات والنهايات وبين كتاب وآخر. إن قراءة أعمال كاملة لشاعر تجعل نتاج هذا الشاعر مرئياً من جوانبه كافة، مضاءً على مسيرته في حركتها البيانية، أي في صعودها وهبوطها وتعرجاتها. وقد وفرت هذه الترجمة منعطفات ريلكه بدءاً بالقصائد التي كانت محاكاة سطحية لشعراء آخرين، مروراً بالشعر الباروكي وشعر السونيتات، وصولاً إلى تطوير أشكال شعرية بعينها مثل فن الرثاء وفن المناحة، مع رصد الأثر الديني الكبير في شعر ريلكه كما في ز صلوات الصبايا إلى مريمس وس حياة مريمس وس جنازس وس كتاب الساعاتس مع تسليط الضوء على نقد هذه المرجعية الدينية وتحويرها عبر الشهوانية والتشكيك. مرجعية أخرى تكشفها هذه الترجمة وهي تأثر ريلكه بالنحت والرسم وذلك بعد إقامته لدى رودان وكتابته في النقد التشكيلي ولا سيما عن رودان وسيزان. هذا التأثر سيظهر في معنيين كبيرين في شعره وهما المعاينة والرؤية، واللذان أخذهما عن الرسامين (كان أقام سنة 1898 مع عدد من الرسامين في فوربسيفدة من بينهم باولا بيكر، هاينريش فوغلر، أتو مودرزون وكلارا فيستهوف التي أصبحت زوجته لاحقاً). لقد استطاع الشاعر من خلال المعاينة الانطلاق من سطح الشيء إلى عمقه، من وجهه إلى باطنه. بتعبير آخر لقد عمل على تحويل ز جوانية الإنسان إلى بعد شاسعس على حد تعبير أودو ك. ميزون. التحويل والقلب أيضاً يشكلان الركيزة الكبرى التي يقوم عليها شعره. لقد عمل ريلكه عبر التحويل على جعل المرئي لامرئياً، أي الوصول إلى الفضاء الجواني للعالم، بينما عمل عبر القلب على مبادلة الأدوار بين كائنين أو شيئين أو كائن وشيء، كما في قصيدته التي يتحدث فيها عن هرٍّ يختزن النظرات التي ينظرها الشاعر إليه قبل أن يعيد هذه النظرات معكوسة إلى الشاعر. لنقل إن ريلكه تعلم من خلال رسامين كبار أمثال رودان وسيزان كيف يجلس مكان الشيء وينظر منه إلى العالم. هذا ربما أسهم في إيجاد الشاعر ما يُسمى ز القصيدة- الشيءس. وفي كل هذا كان الشاعر ينتقل من قصيدة المشاعر إلى قصيدة التجارب. إن هذه الترجمة ترينا المسافة الواسعة التي قطعها الشاعر وهو يطور رؤيته ولغته الشعريتين، مقدّماً إلى العالم قصيدة مخـــادعة مؤلفة من سطح وعمق. وبهذا المعنى فإن شعر ريلكه ليس شعراً للاستمتاع فحسب وإنما هو شعر للتعلم أيضاً. هذا من غير أن نغفل موضوعات كثيرة عـــمل عليها صاحب ز سونيتات إلى أورفيوسس من الحيوان إلى النبات إلى الكواكب والأفلاك والفلسفة، مستلهماً الأساليب الشعرية لشعراء سبقوه أمثال غوته وشيلر وهولدرلن، مطوّراً في هذه الأساليب ولا سيما في شغله الأساسي على فني المناحة أو الرثاء.
في الترجمة
لا شك في أن ترجمة كاظم جهاد لهذه الأعمال الشعرية حوّلت ريلكه إلى شاعر عربي، إذ أن الترجمة تهدف إلى وضع نتاج كاتب ما في لغة أخرى، أي جعله مقبولاً في اللغة الوافد إليها. إذا لم تذلل الترجمة العوامل التي تلفظ الكاتب خارج اللغة المترجم إليها فإن هذه الترجمة ستضرُّ بالكاتب قبل المترجم. لقد جهد كاظم جهاد، هو المترجم الدؤوب على نقل أعمال ضخمة إلى العربية مثل ز الكوميديا الإلهيةس لدانتي والأعمال الشعرية الكاملة لرامبو وغيرها من الكتب الشعرية والفلسفية والفكرية، وهو أسبغ على هذه الترجمات، ومنها الآثار الشعرية لريلكه، لغته العربية الأقرب إلى النحت، جهد في نقل ريلكه بلغة رفيعة تشكل مرادفاً أو موازياً للأصل. مع ذلك أحسب أن الكثير من ريلكه سقط وهو يعبر لغته إلى لغة أخرى، لأسباب عديدة منها ما يتعلق بالمترجم وحساسيته ومنها ما يتعلق بالترجمة نفسها، ولا سيما أن ريلكه كتب أشعاراً موزونة مثل السوناتا (Sonnet)، ومنها ما يتعلق بالسياقات اللغوية والتراكيب والأبعاد اللاواعية للغة.
لكن ثلاث مسائل أساسية أفقدت الترجمة بعض الحيوية وهي أولاً غياب الإيقاعات – ولا أقصد بالطبع الأوزان بل توقيع الكلام باللغة المنقول إليها- والهوس بالدقة. أظن أن قليلاً من التصرف في التقديم والتأخير ( لقد عمد المترجم إلى إكمال معنى جملة ما على سطر جديد، وأحياناً كان يفصل بين الفعل والمفعول به ليس بسطر جديد فحسب وإنما ببياض يشير إلى مقطع جديد.
وذلك إخلاصاً من قبل المترجم لمبدأ السوناتا. لكن هذا الإخلاص يغدو بلا جدوى بعد’ترجمة نثرية للسوناتا، إذ لا يعقل أن تنسف ترجمة ما الوزن والشكل من جهة وتحافــــظ على توزيع الأبيات على السطور من جهــــة أخرى)، وثانياً تجنب بعض الألفاظ الجـــزلة ( متطامن مثلاً) وثالثاً بعض الصياغات البطـــيئة ( مع ملاحـــــظة أن جمل ريلكه بالألمانيــــة طويلة عموماً)، أظن أن قليلاً من هذا وذاك كان يمكن أن يجعل الترجمة أكثر حرارة وأكثر تداخلاً باللغة العربية.
يبقى أن عملاً كهذا، استغرق طويلاً من قبل مترجم وهب نفسه لنقل نتاج الآخرين، ولا سيما أن كاظم جهاد كان بدأ بترجمة أشعار ريلكه بالألمانية مطلع الثمانينات حين نشر تلك الترجمات في مجلة ز الكرملس ليعاود ترجمة أشعار ريلكه بالفرنسية منتصف التسعينات حين نشر تلك الترجمات في مجلة ز نزوىس العمانية وفي صحيفة ز القدس العربيس هذا العمل يستحق الشكر والثناء والتحية.
وتتبعها زسونيتات إلى أورفيوسس.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى