صفحات ثقافية

دوار اللوائح” للايطالي أمبرتو إيكو: وسيلة منمقة جداً لمعارضة النظام

null
في خزانة توماس برنهاردت الأدبية قصة قصيرة بعنوان “بيزا والبندقية”. في كنف هذه الحكاية المختزلة الى حدها الاقصى، ذلك انها لا تزيد على سطور عشرة، يروي النمسوي المشاغب ان عمدتي مدينتي بيزا والبندقية الايطاليتين الأثيرتين، اتفقا على مباغتة السيّاح الذين درجوا لقرون على القدوم الى هذين الموقعين الإيطاليين، ليفتتنا بالقدر عينه. ارادا ان يزعزعا هذا الثبات في الانجذاب حيال المكانين، فصمما على نقل برج بيزا المنحني الى البندقية، فيما يزاح برج الساعة او “كامبانيلي” من ساحة سان ماركو في البندقية حيث يقوم، الى بيزا. غير ان الرجلين عجزا عن ابقاء مخطّطهما طيّ الكتمان، وفي الليلة التي عزما فيها على تحقيق مبتغاهما الفانتازي، أُدخلا الى المصحّة العقليّة. أُلقي بعمدة بيزا، في طبيعة الحال، في مشفى عقلي في البندقية، فيما جيء بعمدة البندقية الى مشفى عقلي في بيزا، تحقيقا لرغبتهما في المبادلة. والحال ان هذه الخصيصة لإعادة خلط الأمور ولمقايضة التاريخ بالجغرافيا، تكاد تكون ايطالية بحتة. وليس من مباغتات المصادفات تالياً ان يبيّن ايطالي آخر بهوية امبرتو ايكو في سن متأخرة من التجربة الكتابية عن ميل شخصي الى التفنيد قبيل اعادة الترتيب.
لأمبرتو إيكو الخبير بعلم دلالات الالفاظ ودراسة الاتصال الشفوي وغير الشفوي، شهية اصحاب المجموعات لا ريب، وهو لطالما شغف بالتكديس والتعداد والجردات. في شبابه استطاع قراءة اي شيء انطلاقا من هذا المُقترب، فصارت النصوص العائدة الى القرون الوسطى واعمال جيمس جويس المحشوّة بالقوائم موضع اهتمامه الأثير. وعلى ما يتراءى، فإن هذه النزعة في يومياته الكتابية الى تجذّر، على الاقل في الاستناد الى ما يظهره كتابه الأحدث. يحتفي إيكو باللوائح في “دوار اللوائح” (وفق النص الإيطالي) و”لا نهاية اللوائح” وفق النسخة الإنكليزية. والمؤلف، وفق المنطلق هذا، هو فهرست للفهارس. ثمة متعة حقيقية في مخر صفحات تنطوي على خصوبة وامتلاء وتلاعب وتقليد وغرابة وتعدد، وإن تكن احيانا منهكة، متسامحة وغير متجانسة او غافلة. يحتفي ايكو بـ”دليل” هوميروس ومجموعة فسيحة من اللوائح الاخرى المطبوعة في الثقافة الغربية. في منطق الباحث، منحنا هوميروس في فجر الأدب الأوروبي اسلوبين لرؤية العالم. وفّر لنا لائحة مفتوحة متغيّرة للقوى العسكرية، مع كل ما انطوت عليه من تشوّش وإلماحات الى الخواتيم، واتانا ايضا في “الالياذة” بوصف لدرع عظيمة صنعها الاله هيفايستوس لأخيليوس، وحيث ثمة توقّف عند وحدة الكون بدءا من النجوم في السماء وصولا الى الخراف في الحقول. الأخيرة كما يعتقد “شكل نهائي”، اي عالم مغلق ومحصور حيث لا شيء خارجه ولا إمكان للإضافة او التراكم. لا يتركنا ايكو بعدذاك في شك حيال الأسلوب التصويري الذي يفضله، وهو بلا ريب القائمة التي لا تدرك حدودا.
يملك “دوار اللوائح” غواية الجشع المتطرّف. ولأن البحث ينكر على القارئ رضا تفسير ختامي، ففي وسعه، على هذا النحو، رسم محيط الحياة الواقعية والمتوارية في آن واحد. ليس ايكو ممن يوفّرون الكلام في خصوص يوميات حياتنا التقنية، فهو يتوقّف عند الانترنت ليقاربها كدليل شاسع ومدخل الى الدوار الأكثر صوفية وافتراضية، بل الاكثر مأسوية واثارة للريبة. الانترنت هي الغيبوبة المثملة الأكيدة، كما يعرّف بها ايكو. وفيما يسمّونها الشبكة في التداول، يحددها هو تماما هكذا: شبكة عنكبوت ومتاهة، بنية مخالفة لهيئة الشجرة المنتظمة وفق غصن وغصين.
تبدو القائمة بالنسبة الى ايكو نقيض الترتيب. ربما تكون اسلوبا بدائيا للتقرب من المعرفة، غير انها المدخل الى الواقع في معظم الحالات. عندما يسأل المرء ما هي الشمس مثلا، لا يعمد الى التعريف العلمي، بل يقول عفويا انها شيء مضيء يبزغ صباحا من الشرق ويختفي مساء صوب الغرب. غير ان القائمة امست في زمننا المعاصر وسيلة تخريبية. صارت اللائحة وسيلة منمّقة جدا لمعارضة النظام، على ما فعل إيتالو كالفينو وجيمس جويس والسورياليون. هذه اللوائح انطلقت، على ما يتراءى، مع رامبو، وكان رابليه ايضا في عداد مبتكريها في هيئتها الأكثر اختلالا، بيد انها حافظت دوما على هدفها.
في “دوار اللوائح” لا نجد الكثير من ايكو بالصورة التي ظهّرتها روايته اللغزية من القرون الوسطى “إسم الوردة”. كما هي حال “في شأن الجمال” و”في شأن القباحة”، يتماهى البحث الطازج مع الانطولوجيا، حيث اضيفت الى اللوائح النصية والتصويرية التي تبدأ عند الاغريق وترسو عند سالفادور دالي، رزمة تعليقات بقلم ايكو. من الممكن ان يتراءى هذا الايطالي كديدرو معاصر، فيما يتأمّل نزعة الغرب الذهنية الى وضع اللوائح، ولا يخفي اعجابه بالشكل الموسوعي. في وسط نظريته، يكمن الالتصاق بين حب المراكمة والثقافة الغربية، بدءا من فهرست النبات والمجموعات الفنية، وكلها مسخّرة لإبراز “شاعرية الفهارس”.
لكن، ثمة على مرّ الكتاب، ما يقلق حماسة ايكو، وهو الإفراط في المعاني والمغالاة، الذي يصعب تحريك خيوطه، في حين يعتبره سمة اللائحة المحددة. ذلك ان اللوائح يمكنها، في رأيه، العمل على التنظيم والتحكم والاستبعاد. في وسط طلاب الآداب مثلا، ينظر الى اللائحة في معظم الاحيان على انها منتوج ثانوي للابتكار الكتابي، في حين تلازمها في الواقع القوانين والتقليد. على هذا المنوال، لا يمكن ثقافة معينة ان تنظر الى تاريخها بتحديد، سوى عندما يسعها تفنيد ملوكها. على هذا النحو، فإن لائحة بالمدن والاراضي والانهر التي يجدها ايكو “باعثة للدوار” عند جيمس جويس، هي في الوقت عينه، احدى اسس التحكّم الذي لا مفرّ منه. بغية الإحاطة بهذه الفكرة، يفرق ايكو بين اللوائح “العملية” وتلك “الشاعرية”. للوائح العملية، كالجردات وقوائم التبضع او لوائح الضيوف الى العشاء، وظيفة مختلفة عن الاخرى الشاعرية. لا يرغب احدهم في تأمل عدد غير محدد من الضيوف يقرعون على بابه للمشاركة في المأدبة. ولا نميل كذلك الى تصحف لائحة بمؤلفات مكتبة حيث ترد عناوين غير متوارة.
يتجاوز الكتاب البحثَ المقتضب، ليحضر كمنتج رمزي تماما لمفهوم النص الاستثنائي من حيث سمته التعريفية والاستفزازية وسطوته على معلومات مثيرة للاهتمام. لإيكو في كل حال، تعريف بليغ عن اللائحة. تركز اجزاء مختلفة من الانطولوجيا على مجموعات المتاحف والمكتبات. ذلك ان المتاحف تتقاسم مع اللوائح قابلية الانتهاء، ولأنها لا تنفك تضيف اغراضا جديدة، وتركز على مذلاّت الإفراط، ولرابليه في هذا الركن دور البطولة. يركز ايكو على الادب وعلى تمثيل الوفرة المفرطة في التشكيل، مفترضاً ان بعض الموسيقى كـ”بوليرو” لرافيل، ومن طريق ايقاعاتها الهجسية، “قد تستمر الى ما لا نهاية”، في حين يكتفي في القسط الاكبر من البحث بالشعراء والروائيين والرسامين، باحثا عن تأويل تبعات اللوائح والجردات، ساعيا الى رصد النهائي وما يبدو احيانا نهائيا، في حين أنه ليس كذلك فعلا.
في احد الفصول يصف الآليات البلاغية المستخدمة في اللوائح، كتفادي ادوات الربط. غير ان البحث، على ما اسلفنا، لا يكتفي بتأمّل ايكو. والحال ان الكتاب انطلق كحلقة في سلسلة من التعاون بين متحف اللوفر وبعض المؤلّفين، لينتج قسطا من اضاءات لا تنسى. يغرف هذا الكتاب من الصور الجميلة المحيطة بإيكو، الى جانب خياره للنصوص المكمّلة. البحث على هذا النحو، رفيق عمل بين جدران متحف اللوفر. وكنتيجة لهذه الأبعاد التفضيلية، وضّب في رسوم ضاجة بالألوان، معظمها لوحات تصوّر ساحات المعارك وحشودا وزهورا لا تحصى في الحقول او الاواني. هناك صفحة مزدوجة ايضا مليئة بمعلّبات الحساء من علامة “كامبل” غير المتسقة تبيّن درجة الجمع الهجسيّة عند اندي وارهول والتي يراها ايكو استكمالا لنسق بدأ مع ذخائر القرون الوسطى. يفصح ايكو في اسلوبه المغرق في الالهام كيف يسع الفهرسة ان تعكس روح الحقبة.
بغية اكمال هذه القوائم التصويرية يضمّن ايكو البحث فهرست العهد القديم ثم والت وايتمان وهوغو وكتّاباً آخرين. يتوقف ايضا عند قائمة “غريبة” وجدت في موسوعة صينية (في المبدأ) بعنوان “السوق السموية للمعلومات التطوعية” وبورخسيّة (في الواقع). في هذا النص فإن بورخيس جعل تعريفات الحيوانات في فئات. هناك اولا الحيوانات المملوكة من الامبراطور، وثانيا الحيوانات المحنطة، وثالثا الحيوانات المدربة، ورابعا الخنازير الرضيعة، وخامسا الحوريات، وسادسا الحيوانات الخرافية، وسابعا الكلاب الشاردة، وثامنا تلك المذكورة في هذا التصنيف. اما تاسعا فتلك التي كانت لترتجف فإذا غضبت، وعاشرا تلك التي لا تحصى، وفي المرتبة الحادية عشرة تلك التي تسرّح بفرشاة من وبر الجمل، وفي الثانية عشرة الاخرون، وفي الثالثة عشرة تلك التي كسرت للتو اناء زهور، وفي المرتبة الرابعة عشرة والاخيرة، تلك التي تبدو من مسافة وكأنها ذبابات. هذا التصنيف العجيب الذي يستعيده ايكو، سبق ان استخدمه كتاب آخرون واقتبسه علماء الانسان واختصاصيو علم الاعراق البشرية والاساتذة الالمان والنسويات ما بعد الحداثيات. لا شك ان هذا التصنيف الذي هشّم وفق ميشال فوكو “كل معالم التفكير المعتادة”، يجد مكانه الرحب في بحث يملك طبائع التباين في ابهى حلله.
نمرّ في “دوار اللوائح” ايضا بوصف جوريس كارل هوسمان المصمم في روايته من القرن التاسع عشر “في الوجهة المعاكسة” حيث دي ايسانت بطل سلبي لا يقوم بأي شيء يستحق الذكر تقريبا، باستثناء سرد ما يروقه وما لا يروقه. غير ان ايكو يختار ان يتمهّل عند المجوهرات التي تستخدمها تلك الشخصية لترصيع قوقعة سلحفاتها الأليفة، وإن كان سينتهي بالاخيرة الى ان تنفق تحت وزر الدُرر. يستدين ايكو هذا السرد التعدادي خلال عملية الترصيع حيث يرد “معدن البريل الاخضر كالهليون، الكريزولايت الاخضر كالكراث والزبرجد الزيتوني بلون الزيتون الاخضر”، في تفصيل من البديهيات.
يقرّ ايكو بإغفاله الكثير، ويعتبر في مقدمته ان هذا المزيج من البحث والمختارات والفهرست المصور “لا يمكنه سوى ان يقفل على الخ”. على رغم ذلك، وفيما يصعب وضع خاتمة للكتاب، يبدو عينة مذهلة تتضمن تحديدات تعليمية ومسلية في كل صفحة. وهناك ايضا مجموعة من الامثلة على السحر والصدمة الملازمين لكل لائحة منجزة بشكل جيد. من هذا المقترب، يقتنص ايكو ما تذكره الفتيات الريفيات البريئات في رواية ايتالو كالفينو “الفرس المفقودة” الضاجة بالعبث حيث نقرأ: “خلا المراسم الدينية والتساعيات والعمل في الحقول، وضرب الخدم بالسوط وسفاح القربى والحرائق والشنق والجيوش الغازية والاغتصاب والنهب والطاعون، لم نر اي شيء يستحق الذكر”!
يدرك متصفح “”دوار اللوائح” ان ثمة اضافة دوما خلف التفاصيل الاحصائية لأي لائحة وخلف الشكل المحدد وغير المناسب او المألوف، هي الوحيدة القادرة على ان تمدّ مجموعة الاشياء المبعثرة المتنافرة بوحدة يصعب تصديقها.
رلى راشد
النهار
مقتطف مــمــــر ضــيّـــق
تشبه ذاكرتي الدودة الشريطية، غير انها وعلى عكسها لا تملك رأسا، تجول في متاهة، ويمكن اي نقطة ان تشكل بداية رحلتها او نهايتها. يجب ان انتظر الذكريات لتطفو على السطح من تلقاء نفسها وبملء ارادتها، واتباعا لمنطقها الذاتي. لهذا السبب تقبع ذاكرتي في ما يشبه الضباب. تحت اشعة الشمس، يمكنك رؤية الامور من بعد ويسعك تبديل الوجهات على نحو متعمد بغية العثور على امر محدد. اما في كنف الضباب، فيمكن شخصا او شيئا ان يقترب منك، غير انك لن تدرك ما هو او من هو، الى حين يصير في جوارك تماما.
غير اني وعندما افكّر مليا في حياتي في اوراتوريو يسعني ان ارى كل شيء، كمثل شريط سينمائي. لا اراه كما يحصل مع الدودة الشريطية وانما في لقطات مرتبة بمنطق غريب.
تبدلت الحياة وانا في الحادية عشرة، بعدما تم ترحيلي في عام 1943 الى سولارا. في المدينة، كنت فتى كئيبا يتشارك ورفاقه اللعب في المدرسة لساعات عدة في اليوم. اما في ما تبقّى من الوقت، فكنت ملتصقا بأحد الكتب. في سولارا، حيث استطعت ان اقصد مدرسة البلدة مشيا، كنت انصرف الى المرح في الحقول والكروم، كنت اشعر اني طليق، وان اماكن مجهولة مفتوحة امامي. وكان لي اصدقاء كثيرون اهيم في رفقتهم. يوم قصف الحلفاء المدينة، استطعنا رؤية الوميض البعيد من نوافذ المنازل، والاستماع الى دويّ شيء ما كمثل الرعد. جعلتنا الحرب قدريين، وكان القصف صنو العاصفة. واصلنا اللعب بهدوء على مرّ مساء الثلثاء، وواصلناه ايضا الاربعاء والخميس والجمعة. لكن هل كنا حقا هادئين على ما تراءى لنا؟ ألم نكن نبدأ في الواقع نحمل علامات القلق والكآبة المذهلة والناتئة التي استحوذت على كل شخص كان عليه وهو على قيد الحياة، ان يجتاز حقلا متخما بالجثث؟
… في اوراتوريو حيث امضينا فترات الظهر بعيد اتمام متابعة الحصص في المدرسة، كنا عمليا احرارا. نجتمع عند السادسة فحسب بغية متابعة درس التعليم المسيحي والحصول على البركة، عدا ذلك كان لنا ان نفعل ما شئنا. كان ثمة ارجوحة دوامة قديمة وثلة ارجوحات ومسرح صغير اعتليته لتأدية دور في عمل “الفتاة الباريسية الصغيرة”. جاء فتيان آخرون الى اوراتوريو، وشباب حتى، كانوا يمارسون لعبة كرة الطاولة او الورق، وإن ليس بهدف المقامرة. لم يكن مدير اوراتوريو، دون كونياسو العجوز الطيب، يطلب منهم اي فعل ايمان، كان يكفيه ان يجيئوا الى هذا المكان عوضا من الهيام في انحاء المدينة على متن دراجاتهم الهوائية، وان يخاطروا بحيواتهم تحت القصف بهدف ان يبلغوا “كاسا روسا”، بيت البغاء الذائع الصيت في انحاء المقاطعة.
تناهت الى سمعي للمرة الأولى كلمة “المناصرون” في اوراتوريو، في اعقاب الثامن من ايلول من عام 1943. في المرحلة الأولى كانوا صبيانا يحاولون تفادي مسوّدة “ريبوبليكا سوتشيالي” الحديثة او موجزات النازيين التي عنت فعليا ان يرسلوا الى العمل في المانيا. بعدذاك راح الناس ينادونهم الثوار، لأنهم اعتُبروا كذلك في البيانات الرسمية. لم يبدأوا يطلقون عليهم اسم المناصرين او الوطنيين كما كانوا يفضلون، إلاّ عندما اكتشفوا ان العشرات من بينهم قد اعدموا وان احدهم متحدر من سولارا، وعندما سمعوا ايضا عبر اثير اذاعة “راديو لندن” ان رسائل خاصة كانت تُبَثّ من اجلهم فحسب. تعلّق سكان سولارا بالمناصرين لأهم نشأوا في هذه الأماكن. وعندما جاؤوا، وعلى الرغم من انهم اتخذوا اسماء مستعارة، من مثل هيدغيهوغ وفيروتشيو ولايتنينغ وبلوبيرد، واظب الناس على استخدام الاسماء التي لطالما عرفوهم بها. رأيت عددا كبيرا من المنتمين الى الجيل الشاب في اوراتوريو، اما الآن فها هم يظهرون مجددا يعتمرون القبعات ويضعون احزمة الخرطوش على اكتافهم، والرشاشات والأحزمة حيث توضع قنبلتان يدويتان او حتى المسدسات.
كانوا يرتدون القمصان الحمر او السترات التي انتشرت في اوساط الجيش الانكليزي، فضلا عن السراويل واغطية الرجلين التي لبسها ضباط الملك. كانوا وسيمين.
الى عام 1944، كان المناصرون الذين ارتادوا سولارا يقومون بتدخلات سريعة، في حين مكثت الألوية الفاشية السوداء في أماكن اخرى. كان ثمة انقسامات بين المناصرين حتى. في احيان معينة، كان أعضاء بادولياني يأتون وهم يضعون اوشحة باللون الأزرق، كان الناس يعلنون انهم يؤيدون الملكية وكانوا يصلون الى ارض المعركة وهم يصرخون “سافوي”. في مرّات اخرى، اتى أعضاء غاريبالديني الذين تميّزوا بأوشحتهم الحمراء، وهم ينشدون اغاني مناهضة للملك ولبادوليو يده اليمنى. كان  اعضاء بادولياني مدجّجين بالسلاح اكثر من سواهم، تردّد ان الانكليز ارسلوا اليهم المساعدات حصرا دون سواهم من المناصرين، لأنهم كانوا من الشيوعيين. كان اعضاء غاريبالديني يملكون مسدسات عالية الجودة تماما مثل الألوية السود، وقد صودرت خلال اشتباكات عرضية او في اطار هجمات فجائية على مخازن الاسلحة، في حين امتلك اعضاء بادولياني احدث انواع المسدسات الانكليزية من علامة “ستين” التجارية. سمح لي احد افراد مجموعة بادولياني في احدى المرّات بأن اجرّب حظي واطلق النار. كانوا في معظم الأحيان يطلقون الرصاص ليتمرّنوا او ربما ليؤثروا في الفتيات.
اما غرانيولا فاعتاد المجيء الى اوراتوريو. كان يصرّ على ان نلفظ اسمه “غراانيولا” بالتشديد على الالف، غير ان الجميع ناداه غرانيوللاّ بتضخيم الالف الثانية، وتلك كلمة كانت تذكّر بانهمار وابل الرصاص. كان يجيب بالقول انه رجل مسالم، وكان اصدقاؤه يردّون عليه بالقول: “توقف عن هذا الادعاء، ندرك تماما ما يجري”. كان يتردد انه كان على صلة بألوية غاريبالديني المختبئين في الجبال، وانه كان وفق قول احدهم قائدا عظيما، وانه كان يعرّض نفسه لخطر شديد من جراء العيش في البلدة، فيما كان ليكون في مأمن لو اعتمد الاختباء.
مثّل غرانيولا الى جانبي في مسرحية “الفتاة الباريسية الصغيرة”، وبعدذاك أظهر محبته لي. وفي حين كان يبدو منزعجا برفقة البالغين الآخرين في اوراتوريو، راق له ان يصرف ساعات عدة في تبادل اطراف الحديث معي. كان ربما يدرك انه ينطق بأمور شائنة، وانه إذا اصغى اليه الاخرون كانوا ليعتبروه المسيح الدجال، وكان لهذا السبب لا يسعه سوى الوثوق بطفل.
اراني اوراقا سرية كان يتم تداولها. لم يسمح لي بأن آخذ احداها، قال ان اي شخص يُلقى القبض عليه وهو يحمل احداها فمصيره القتل لا محالة. على هذا النحو عرفتُ في شأن احدى المجازر في روما. اعتاد غرانيولا ان يقول لي: “بات رفاقنا يقيمون في اعلى الجبال. لهذا السبب لن تتكرر امور مماثلة من الان فصاعدا”.
كان غرانيولا استاذا، لم اكن اعي ذلك. كان يدرّس في الثانوية واعتاد ان يقصدها عند كل صباح على متن دراجته الهوائية ليرجع عند الظهر. ثم اضطر بعدذاك الى التوقف عن التدريس، قال البعض ان السبب تفانيه قلبا وقالبا لقضية المناصرين، في حين ذكر البعض الآخر ان معاناته احد الامراض كانت السبب في تخليه عن هذه المهنة. في الواقع كان يبدو على غرانيولا المرض، كان وجهه رماديا في حين ان عظمتي وجنتيه المجوفتين كانتا زهريتين، فضلا عن انه كان يسعل باستمرار. اما اسنانه ففي حال يرثى لها، وكان ظهره منحنيا بعض الشيء، في حين ابتعدت قبة سترته عن رقبته الى درجة ان ثيابه بدت كأنها علقت عليه كالكيس. على خشبة المسرح كان ينبغي له دوما ان يلعب دور الشرير، او في احسن الاحوال دور المسؤول الأعرج عن فيلا غامضة.
كان، على ما قال الجميع، بئرا من المعرفة العلمية، ودعي في حالات كثيرة الى التعليم في الجامعة، غير انه رفض ذلك بداعٍ من حب لتلاميذه. قال لي بعدذاك “انه لأمر بلا معنى”، ليردف: “انا لا ادرّس سوى التلاميذ الفقراء، ودوما كبديل من استاذ آخر ذلك انه وفي ظل هذه الحرب المجنونة، لم اتمكن من ان اتخرج في الجامعة. عندما كنت في العشرين، ارسلوني لأقصم ظهر اليونان، وقد اصبت في ركبتي، ولم يزعجني ذلك مطلقا لأنك بالكاد امكنك لحظ ذلك. غير اني، وفي مكان ما في الوحل، اصابني مرض شرير ما، ورحت مذاك ابصق الدم. لو اني استطيع فقط ان اطبق بيدي على عنق فات هاد، وكان هذا هو الاسم الذي اعطاه الى موسوليني. ليردف: “لم اكن لأستطيع قتله لأني جبان ويا للأسف، لكني كنت لأركل قفاه الى حين ينهي الأيام القليلة التي كان سيعيشها، هذا اليهوذا”.
سألته مرة لماذا قدم الى اوراتوريو، ذلك ان الجميع قال انه ملحد. اخبرني انه المكان الوحيد حيث تسنى له ان يرى الناس. وانه من جهة ثانية، ليس ملحدا وانما فوضوي. آنذاك لم اكن اعلم ما هو الفوضوي، فشرح لي انهم اشخاص راغبون في الحرية وبعدم الخضوع لسيد او ملك او دولة او كاهن. ليضيف: “ولكن فوق هذا كله راغبون في عدم الخضوع لأي دولة. لا نريد ان نكون كأولئك الشيوعيين في روسيا، حيث تخبرهم السلطة متى ينبغي لهم ان يستخدموا المرحاض حتى”.
ترجمة ر. ر.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى