الذكرى الخامسة لرحيل ممدوح عدوان: دفاعاً عن الجنون
عبدالله الحلاق
أكتب عن ممدوح عدوان الكاتب والباحث لا الشاعر. ليس لأن سمة الشاعر التي لازمته إلى ان رحل ذات يوم دمشقي ممطر، قطرة ندى شفافة تتبخر إذ يجلوها الواقع ووضح النهار، بل لأنه بشاعريته حتى في البحث والكتابات النثرية، يقيم، على ما يبدو، ما أقام الجمال والفن والأدب في الروح والذاكرة الثقافية العربية، وبالضرورة، أي كتابة راقية. يتبين ذلك من استعراضنا لأبرز المحطات والآراء الفكرية في كتابه “حيْوَنة الإنسان” الذي يؤسس لعمله الأهم والأخير، “دفاع عن الجنون”، حيث لممدوح عدوان فيه ألقُ الكاتب والباحث والصحافي، وطبعاً الشاعر الذي كانه في دواوين “الدماء تدق النوافذ” و”أقبل الزمن المستحيل” و”الليل الذي يسكنني”. السطور الآتية تحية إلى ممدوح عدوان في الذكرى الخامسة لغيابه.
حين يستوي المجتمع العربي بفقره الاقتصادي والسياسي والثقافي، وتخلفه، والعلاقات الاستبدادية التي تحكمه، نموذجاً لموت المشاعر وانعدام الحس، تحت أقنعة تخفي خلفها ماهية وجوه أمست بائسة بؤس ذاك الواقع والمجتمع وتلك الأوطان، إذّاك يصير الاستثناء قاعدة، والثانية متماهية مع الأول الى درجة تخالف تقاليد الموروث الإنساني والعقلي للبشر وشرائحهم الاجتماعية وطبقاتهم السياسية والاقتصادية. الخلاّق أو المعارض يمسي مجنوناً شاذاً عن قاعدة العقل وفق منظور السائد المرخي بظلاله على كل شيء، حتى الفن. هنا بيت القصيد وطرف الخيط الذي يمسكه ممدوح عدوان ماضياً إلى نهاية الطريق في كشف زيف واقعنا، معرّياً إياه، جاعلاً من لؤي كيالي مركزاً تدور حوله الكتابة عن العقل والجنون، قالباً المفاهيم رأساً على عقب بغية تصحيح ما أمسى بديهياً ويقيناً محنطاً في ثقافتنا. وفي ذلك يقول:
“نحن أمّة خالية من المجانين الحقيقيين، وهذا أكبر عيوبنا، كل منا يريد أن يظهر قوياً وعاقلاً وحكيماً ومتفهماً، يدخل الجميع حالةً من الافتعال والبلادة وانعدام الحس تحت تلك الأقنعة، فيتحول الجميع نسخاً متشابهة مكررة ومملة”.
لا يبدو الوعي الجمعي والغالبية “الجماهيرية” مقياساً في أيامنا هذه، ولا في أيام وعقود خلَت، بل ربما كان من الأدق اعتبار الأقلية، وهي الموشومة غالباً بالجنون لخروجها على النسق، نموذجاً لمأسسة فكرة تجعل النخب من الفنانين والكتّاب وسائر الخلاّقين معزولين قسراً في برج عاجي، كما يعزل المجنون أو المصاب بمرض معد، في ما يشبه القبر. هنا يبدو من المفيد استعارة مثالين عن استثناء الجنون الذي لا يصب في خانة الإجماع عند العقل “الجماهيري”، الغرائزي غالباً، أولهما في مسرحية “نهر الجنون” لتوفيق الحكيم، حيث الشعب الذي شرب كله من نهر يصاب شارب مائه بالجنون، باستنثاء الملك والوزير اللذين فكرا ملياً قبل أن يتخليا عن العقل ويذوبا في بوتقة الجماعة، ويشربا من نهر الجنون ذاك، حفاظاً على حياتهما من هبّة أو انتفاضة غير محسوبة يقوم بها آلاف الشاربين من النهر ضد من يعتبرونهما مجنونين أي الملك ووزيره. هنا يبدو انقلاب المفهوم في أوضح تجلياته وأقساها. مثل ذلك نجده في أسطورة “الملك العاري”، التي ساقها ممدوح عدوان مثالاً فاقعاً على الانصياع بشكل حيواني، لا عقلي، للمشيئة العليا للملك (الطاغية)، إلا الطفل البريء الذي قال بصدق: “الملك عارٍ، إنه لا يلبس شيئاً”. يجدر الذهاب أيضاً إلى رواية “أعدائي” لعدوان إذ يقول فيها: “يا أبتِ، نحن لا نتعود إلا إذا مات شيء فينا. لنتخيل حجم ما مات فينا حتى اعتدنا على كل ما حولنا”. هذا الشيء الذي مات هو الإنسانية التي تولي الأدبار في حالات الانصياع والقطيعية واللاإنسانية في معاملة الآخر، جاعلة من “حيْوَنة الإنسان” عنواناً لعالمنا ومحيطنا الموغل في الشقاء.
في الشعر والسياسة وما بينهما
لا يؤمن ممدوح عدوان بالتبسيطية التي تلقي بالشعر في هاويتين، أحلاهما مرّ، الخطابية التي ازدهرت في مرحلة لا يزال البعض يقف على أطلالها حتى اليوم، والاستهلاك الذي يفرغ الشعر ويجوّف الشاعر والقارئ بدواعي البعد عن السياسة، لنخسر المعنى في كلتا الحالتين. يبدو المعنى عند عدوان في الاقتراب من الحقيقة المعيشة ومخاطبة الجماليات أيضاً، التي تبعد الشعر عن الخطابية والمباشرة، وتبقيه ملتزماً فكرة قوامها الإنسانية والفن في بناء النص الشعري النابع من صميم الروح والإحساس والفرح والمعاناة والحب وما إلى ذلك. في حين أن جل المدارس الإيديولوجية طالبت الفنان والشاعر بأن يقدما في إنتاجهما تعويضاً عن كل ما يفتقده الناس في واقعهم، إضافة إلى عبء البناء الذي لا يعرف كيف يحاور الفن، بل يعرف كيف يقوم “باستجواب أمني قمعي في زنزانات نقدية” كما يقول عدوان. وهنا نستعير رأياً مفصلاً له من “دفاع عن الجنون”، حيث يقول الشاعر: “لا مجال للحديث المنافق عن ضرورة عدم تدخل الشعر في السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع، فهذا الحديث ذاته يسعى إلى تكريس موقف سياسي واقتصادي واجتماعي للشعر… الشعر يناولكَ نفسك، قد يعتبرك الشعر إنساناً وحيداً في عالم موحش وضارٍ، فيقدم لك ابتسامة الحبيبة أو كتف الصديق أو تفهم الآلام، لكن الشعر قد يعتبركَ نذلاً، فيبصق في وجهك. الاهتمام بالناس لا يعني كتابة قصائد التعزية، هذه ليست وظيفة الشعر، للشعر وظيفة واحدة هي الدفاع عن إنسانية الإنسان في هذا العالم كما يقول فوزينسنسكي”.
ويسترسل في حديثه عن الشعر مستعيداً نزار قباني قائلاً معه: “حين أراد الله الاتصال بالإنسان، لجأ إلى الشعر، إلى النغم المسكوب والحرف الجميل والفاصلة الأنيقة، كان في وسعه أن يستعمل سلطته كربّ فيقول للإنسان “كن مؤمناً بي” فيكون، ولكنه اختار الشعر، افتحوا الأناجيل، اقرأوا المزامير لتروا كيف تشفُّ الكلمة حتى تكاد تطير، لتروا كيف يجلس الرب على مسند من حرف”.
الهزيمة إذ تستحيل وعياً جمعياً
هزيمة حزيران أفضت إلى فراغ قاتل في وعي سياسي ومجتمعي ذاق مرارة الهزيمة الأقسى في تاريخه الحافل بالهزائم. غير أنه، والحال تلك، لم يكن نقطة للمراجعة النقدية لما حصل في خمسة أيام اختصرت الهزيمة التاريخية للعقل العربي، إلا عند البعض وعلى نطاق ضيق. غير ان المرور بلؤي كيالي الذي فقد عقله من هول ما حدث ويحدث، من تكريس ومأسسة للخداع والكذب اللذين هلل لهما الكثيرون، ومن كارثة العبور على جسر الهزيمة، أو القفز فوقها، بحجج متهافتة بغية منع التحدث عن الهزيمة وإهمالها، وكأنها كانت “نكسة”، وليست تتويجاً لتاريخ مديد من الهزائم، الفكرية والثقافية والسياسية، قبل العسكرية، يدفع ممدوح عدوان الى القول في سياق حديثه عن لؤي كيالي: “لم تكن الهزيمة مفجعة لأنها هزيمة جيوش وحكومات… بل كانت مفجعة بدلالتها على حجم العجز في حياتنا والغبن اللاحق بنا، لم يكن حجم الخسارة هو ما يدفع إلى الجنون، بل أسلوب المعالجة”.
نتساءل عن معنى الجنون الذي ساقت إليه الأسئلة الكبرى وطرحها في المجتمع العربي المسلِّم بالكثير مما يلقن له، على نحو ما حدث في حزيران 1967، وما قبله، وبعده، والتوازن بين المحيط الخارجي والعوامل النفسية الداخلية لدى “الجماهير” المنسجمة مع نفسها في أسرها الفكري والسياسي الذي يبدو لها ببداهة وتسليم، استقراراً لا ينغصه إلا ما يحركه، ناهيك بالسلطات الاجتماعية والدينية والسياسية التي تعمل على تأبيد ذلك الموت السريري، المسمى مجازاً “استقراراً”.
ممدوح عدوان هزّه ما حصل في التاريخ الحديث، وكتب عنه وعن المجانين العقلاء الذين لم يقبلوا التسليم والسير قُدماً خلف ما يلقّن للجموع. دافع عن الجنون الجميل الذي تمثل في لؤي كيالي، معرجاً على السياسة والفكر الحر، والحب والشعر والأدب.
“تصوروا هذا المستحيل الذي صرنا نحلم به! المسألة بسيطة، دعونا نعرف ما هي الإنسانية التي نريدها مقابل تلك الحَيْوَنة التي كنا نقاربها: أن يستيقظ الإنسان فيحس بعذوبة الصباح، ثم ان يسمع أصوات صغاره، فيحس انه يحبهم، ثم أن يسير في الشارع فلا يخاف تطاول سلطة أو تهوّر سائق. أن يرى فتاة جميلة، فيحس بأنها جميلة، وأن تحس هي بالسعادة لأن عابراً يعجب بجمالها، ولا يضطهدها بعدوانيته الذكورية، فتسير كالفراشة وهي تقول: صباح الخير… أن يرى زهرة متفتحة، فينعشه أريجها، أن يذهب إلى موعد حب وهو مترعٌ بالفرح، ان يعمل ويحس بالسعادة لأنه أتقن ما يعمله، ولأن أحداً لن يسرق نتيجة جهده، أن يحس ان كرامته أمر مفروغ منه”.
بلوَرَ ممدوح عدوان فكرة الجنون والعقل وفق السائد، وصاغ نظرته الاجتماعية والفكرية، والشعرية بالضرورة، ناقداً من يريدون أدباً مخصياً مثلما يريدون شعباً مخصياً، من سدنة الفكر القمعي في عليائهم.
لا بد من الشعر ولا بد من الشاعر، فكيف إذا كان ذلك الشاعر “كوكباً يتشظى… مدافعاً عن جمال الوردة العفوي وحرية العشّاق في العناق على مرأى من كهّان الطهارة اللوطيين. عالياً على التعالي لكثرة ما انحنى بانضباط دوريٍّ أمام سنبلة”. هكذا رثى محمود درويش صديقه ممدوح عدوان قبل خمسة أعوام، في ذكرى أربعين يوماً على رحيله.
ممدوح عدوان… تلوِّح لك أيدينا المتعبة ¶
النهار الثقافي