صفحات مختارةميشيل كيلو

التقنية والسياسة!

ميشيل كيلو
إذا كان صحيحا، على وجه التقريب، أن الصراع مع الدول الرأسمالية والمتقدمة هو شكل من ‘الثورة’ عليها، فإن ما سمي ‘الإرهاب’ يستحق أن يعد، بشيء من التساهل، جزءا من هذه الثورة، ليس لأنه موجه ضد بلدان رأسمالية وحسب، بل لأنه جهد عنيف يقوم به فقراء عالم إسلامي يطلب العدالة ويعد بإحيائها لدى شعوب كثيرا ما تاقت إليها وتمنتها، ويعلن أنه يقاتل ضد الظلم والتفاوت، وخاصة منه التفاوت بين مواطني الدول المتقدمة وبقية مواطني العالم. كما يعد بإحلال نظام محل آخر، ويتمسك بطوبى تأتي صورتها المثالية من ماض ذهبي، يعمل لإعادة إنتاجه في الحاضر والمستقبل، ويتعهد أن لا يعقد صفقات حولها مع أي جهة، وأن يحارب تحت راية أيديولوجيته الطهرانية / الزهدية فساد وخطايا الدنيا. أخيرا، إنه فعل خلاص يريد رد الإنسان إلى قيم ومثل يعني تبنيها نهاية ذنوبه ومشكلاته، فليس بإمكانه التخلي عنه، وإلا خان نفسه ومبادئه.
الإرهاب جزء من الثورة: هذا ما قاله الثوريون باعتزاز بين أواسط القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين، حتى إن ثوريا من طراز تروتسكي وضع كتابا جعل عنوانه ‘الإرهاب والثورة ‘، بينما لم تتخذ العقول الثورية الكبيرة موقفا مضادا للإرهاب، بل رأته بمنظار واسع جعله جزءا من العمل الثوري وأسلوبا من أساليبه، يكتسب شرعيته من الظرف الذي تجتازه الثورة، فإن حقق لها النجاح بالوسائل القانونية كان من الضروري قبوله، وإلا وجب البحث عن أساليب أخرى، لا ضير إن كان هو، الإرهاب، واحدا منها، شريطة أن يخدم العملية الثورية.
خلال هذه الفترة الطويلة، لم يكن للإرهاب معناه الراهن الواسع، ولم يكن مذهبيا أو دينيا بل كان أيديولوجيا. ولم يكن خط العمل الثوري الرئيس، بل كان خطا فرعيا أو مساعدا، تابعا وخاضعا لغيره فلا يحدد ما عداه، مثلما هو شأنه اليوم. إلى هذا، كانت ممارسته محصورة وضيقة، فغدا اليوم نشاطا يغطي الكرة الأرضية، تنخرط فيه قوى وحركات وتيارات دينية / سياسية تخوض حربا شاملة ضد مراكز الرأسمالية المتقدمة، وخاصة منها أمريكا التي ترد عليه بحرب عالمية لا ترحم، قد تكون أكثر الحروب التي عرفها العالم صعوبة وتعقيدا، ومن المؤكد أنها تستغرق وقتا أطول مما استغرقته الحروب العالمية السابقة.
كان الإرهاب جزءا من الثورة، فصار ثورة قائمة بذاتها، قد تستخدم أساليب ونهج، وتتبع آليات، الثورات السابقة، لكنها لا تتطابق معها. وبغض النظر عن تصنيفاتنا، فإن الأمريكيين وبقية المتقدمين يرون في الإرهاب حربا سرية / تحت أرضية، يكاد يكون مستحيلا كشفها بالوسائل التقليدية، التي أفلحت في محاربة الثورات السابقة، لاتصالها بعالم غامض يصعب اختراقه يعيش فيه بشر تقوقعوا على أنفسهم، تركبهم الريبة في كل ما هو غريب أو أجنبي، يعيشون على هامش التقدم ويعتبرون الفقر في وقت واحد ظلما وأمرا طبيعيا، وامتحانا إلهيا يختبر صدق إيمانهم، فهم يعيشون على هوامش سلطة تعجز عن التغلغل فيهم، ومعرفة مكنوناتهم الحقيقية، مع أن ما يتعرضون له من إفقار وإذلال يتكفل بتعبئتهم وبجعلهم خارجين فعليا على القانون والنظام، فلا تنضبط علاقتهم معهما بأي عرف أو قاعدة، ولا يقرون بشرعية الأمر السياسي القائم ومؤسساته الرسمية.
بسبب طابعه الخفي، وقدرته على اجتذاب الناس، وتوطنه في مناطق بعيدة عن السلطة، وتغلغله داخل أوساط ومجالات ليس للدولة فيها حضور هيكلي / بنيوي قوي. وبسبب رسوخ مطالبه ورهاناته في الوعي الشائع لعوام المواطنين، توطد الإرهاب وشكل تحديا يتطلع إلى إلغاء أسس النظام الرأسمالي، بينما كانت ثورة القرنين التاسع عشر والعشرين تريد إلغاء النظام وحده والحفاظ على أسسه، التي رأت فيها حامل نظام بديل هو النظام الاشتراكي.
بسبب طابعه الخفي، يعتقد العسكر الأمريكي أن كسب الحرب يتوقف على إخراج الإرهاب من سريته ومكامنه تحت الأرض، وكشفه بوسائل التقنية فائقة الحداثة، التي تطور وتطبق في كل ميدان، وتقوم على تكنولوجيا ‘النينو’: الأحجام فائقة الصغر، اللامتناهية في الصغر، التي تستخدم لإعادة إنتاج الواقع ومنتجات البشر وموجودات الطبيعة، ولتوسيع سيطرة الإنسان على عالمه توسيعا من شأنه إحداث تبدل جذري في الوجود، حتى ليصعب تخيل ما سيؤول إليه العالم خلال العقود القليلة المقبلة، وإن وجد إجماع بين العلماء يؤكد أنه سيتغير بطريقة ستؤسس لطور جديد من الحياة.
لنأخذ الآن جانبا واحدا من هذه التقنية، نسمع يوميا عنه في نشرات الأخبار، هو الطائرة بلا طيار: وهي آلة صغيرة مزودة بتجهيزات عالية التقدم تمكنها من الاستماع، والكشف، والتدخل والضرب في وقت واحد. هذه الآلة يمكنها مواكبة الأحدث لحظة بلحظة، والتدخل فيها دون خسائر بشرية على جانب من يسيرونها. كان الإرهاب خفيا لا تراه العين، فأخذ ينكشف أكثر فأكثر بفضلها، وسينكشف مستقبلا إلى درجة الافتضاح، حين ستستخدم أدوات تنصت وقتل طائرة متناهية الصغر، بوسعها التسلل من مدخنة منزل أو ثقب في جدار، والاختباء تحت وسادة أو كرسي، لأن حجمها لا يتعدى حجم دبور أو نحلة كبيرة.
لكل حرب وسائلها. في الحرب الحالية، الدائرة بين التنظيمات الأصولية والغرب، بدأت التقنية تحارب نيابة عن البشر. وهناك تجارب تجرى لجعل كائنات الكترونية شبيهة بمخلوقات لعبة ‘النين تندو’ تقاتل وتقتل، دون أن تصاب أو تموت. لقد هزم الغرب السوفييت بفارق التقدم وهوة التقنية، وهو يضع اليوم آماله في تحقيق قدر من التقدم يعمق تعميقا غير مسبوق الفارق الذي يفصله عن العوالم الأخرى. لنتصور بعد سنوات قليلة أن هناك حاكما أو زعيما قررت أمربكا تصفيته والقضاء على أعوانه: بالطائرات أو الدبابير. هل سيفيده الاختباء في قصره، وأين سيعمل هو وحاشيته؟ وماذا سيفعلون كي يحموا أنفسهم ونظامهم؟ وكيف سيدير وأعوانه الدولة والسلطة ويتحكمون بالمجتمع، وكيف يضمنون سطوتهم وسيطرتهم عليه، إن كانوا سريين ومختبئين لا تراهم أعين مواطنيهم أو تسمع أقوالهم وتطيعها؟ ومن الذي سينجح منهم في حماية نفسه، وإلى متى؟ ألن تحول التقنية هذا الحاكم وبطانته إلى تنظيم سري مطارد يجهل إن كان مراقبا، ومتى يتلقى لسعة دبور قاتلة؟.
لم يعد بوسع الإرهاب البقاء خفيا، إنه ينكشف. أما سريته، التي لطالما حمت مناصريه وحجبتهم عن الأعين، فإنها تفقد أكثر فأكثر وظيفتها كوسيلة حماية ناجعة. من الآن فصاعدا، لن يعود هناك غير العلنية طريقة في العمل العام والسياسي، في الداخل وحتى ضد الخارج. ولن يكون هناك جدوى من أي طريقة في العمل لا توسع العلنية وتوطدها بصور شرعية: بالحوار الحر والمفتوح والسلمي والمتسامح، وهي أساليب لا يملك الغرب ولن يملك ردا عليه، بالتقنية أو بغيرها، لأنه لا ولن يستطيع استبعاد أي شعب من العمل العام أو حرمانه من ثماره، إذا ما اعتمدته الكتل البشرية الكبرى في العالمين الإسلامي والعربي. إن مراقبة ما يحدث على الحدود بين باكستان وأفغانستان من مجازر ترتكبها أمريكا بالتقنية، ومن يتأمل كيف تصفى خصومها عن بعد، يجد نفسه مكرها على التفكير في السنوات المقبلة، لتخيل حجم الكارثة التي ستحل بسلطة حاكمة أو بحركة مقاومة، إذا ما تسلطت عليها الدبابير والطائرات بلا طيار، وسكنت أجواء أوطانها، وشرعت تعرضها لهلاك ليس لديها من رد عليه غير رد جزئي وفاشل هو لامركزية القيادة والتخفيف من ربط مصير الدولة بحاكم فرد، ورد جدي وفاعل هو مشاركة الشعب الواسعة والحرة في الشأن العام، التي ستبدل معطيات السياسة وستفضي إلى تعزيز النزوع إلى الديموقراطية ليس فقط كطريقة حكم، وإنما أيضا كوسيلة إنقاذ!.
لا رد على تقنية القتل الانتقائي والشامل غير فتح عملية تجديد وتوسيع النخب، الحاكمة والمثقفة والمالكة، وديموقراطية القيادة والاحتماء بالشعب، لتوحيد قدرات وعقول المواطنين وجعلها درعا يحمي الأوطان وحكوماتها الشعبية وتاليا الشرعية. أما الاختباء والتخندق والاختفاء في القصور وتحت الأرض، والتسلط على البشر بالكبت والقهر، فإنها ستكون أكثر فأكثر طريق الهلاك الأكيد.
لا أهوّل على ممارسي الأعمال السرية من حكام وثوار. إنني أبين لهم نتائج ما يحدث عندما أجزم أن التقنية تتحول إلى عدو لن يقدروا على مجابهته إن ظلوا على ما هم عليه، وإنه لا خيار آخر لهم غير الرضوخ الذليل لأميركا حفاظا على حياتهم، أو الاحتماء بشعوبهم. والحكيم من اتعظ بغيره، وباكستان درس لمن يريد أن يفهم. فهلا اتعظتم، يا أولي الألباب!.

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى