الياس مرقص وتعريب الماركسية
محمد درويش
يوم 26 / 1 / 1991 غيب الموت واحداً من أبرز المثقفين العرب وهو الكاتب العربي السوري الياس مرقص، عن سنوات لم تزد عن 62 عاماً (1929 – 1991) أمضى أكثر من نصفها في التأليف والكتابة مخلفاً مجموعة فكرية وثقافية تأليفاً وترجمة، وعدداً كبيراً من الأبحاث والدراسات اقرب في مجموعها إلى المنظومة الفكرية التي اختلفت في اتجاهاتها ومناحيها، وتنوعت في توجهاتها، وامتدت منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي حتى ما بعد وفاته (صدر له بعد وفاته كتابه الضخم والهام – نقد العقلانية العربية – في 900 صفحة عن دار الحصاد بدمشق). وتميزت منظومته بتسسلسلها التاريخي بحسب المرحلة وتقدم وعيه، وبقيت مترابطة من حيث تواصلها وعمقها وتنوعها.
كثيرون كتبوا عن الياس وتناولوا انتاجه خلال السنوات التي مضت على وفاته، إما مؤيداً، أو ناقداً، أو معارضاً. بعضهم قرأه قراءة متمعنة والبعض الآخر كانت قراءته له سطحية ، لكن هناك من وجه إليه بعض النقد دون أن يقرأ هذا الانتاج أو يلمسه. وقد سبق أن قدمنا في ذكرى وفاته الثامنة ملخصاً سريعاً وعاماً عن كتاباته ومنهجه (انظر جريدة السفير تاريخ 4 شباط 1999).
ونحن نحيي ذكرى وفاته الـ19 لا بد أن نلقي ضوءاً على بعض جوانبه الشخصية ليس كبطل لقصة انتهت بموته، بل لأنني على قناعة أن معرفة شخصية الياس تشكل مدخلاً مهماً لفهم منهجه وتوجهاته الفكرية والثقافية والسياسية نظراً للترابط التام بين وعيه وممارسته، هذا الترابط الذي يفتقد إليه بعض المثقفين العرب، وهم كثيرون. ويأتي هذا الضوء من خلال معرفتنا به والتي امتدت متقطعة منذ ستينيات القرن الماضي وحتى وفاته.
تعرفنا إلى الياس عندما جاء إلى الحسكة مدرساً لمادة الفلسفة في بداية الستينيات من القرن الماضي (وأقول تعرفنا، لأن الغالبية من الطلاب في الثانوية انذاك ارتبطوا معه بصداقة أو معرفة). كانت مادة الفلسفة لا تحظى باهتمامهم وأشبه بالطلاسم بالنسبة لهم. لكن الياس حولها منذ الدروس الأولى باسلوبه السهل والمبسط والعميق، إلى مادة سهلة التداول، بعد أن اكتسب ثقة الطلاب وأهلهم، وشعروا أنهم أمام موسوعة فلسفية متنقلة، وقادر على أيصال الأفكار والإجابة على أسئلتهم بطريقة نمطية واضحة. تلك ليست مبالغة بل حقيقة يشهد عليها جميع الطلاب الذين عايشوه في تلك الفترة. وكان في شروحاته لا ينسى أن يضيف إليها أفكاره عن الاشتراكية والقومية والوحدة، فتحول الصف إلى ندوة حوارية اكثر منها قاعة لإلقاء الدرس، واستطاع أن يفرض احترامه حتى على الذين اختلفوا معه قبل أن يعرفوه أو يتعرفوا إليه، بتأثير الهجوم الذي وجه إليه من الحزب الشيوعي السوري بسبب كتابه تاريخ الحزب الشيوعي السوري في سوريا ولبنان. ولم يمض وقت طويل حتى أصبحنا بخلاف أكثر المعلمين، نلتف حوله على شكل حلقات نتناقش ونتحاور، في الشارع والمدرسة وفي غرفته المستأجرة عند الجيران التي تحولت إلى ما يشبه المنتدى، وكان سعيداً بذلك.
إضافة لمادة الفلسفة كلف بتدريس مادة الفرنسية التي كان يجيدها باتقان وحل بذلك محل الأب المطران يوسف شهرستان الذي كان بارعاً فيها لكن انشغاله بالكنيسة منعه من الاستمرار.
عندما دخل الياس إلى الصف لأول مرة لإلقاء الدرس الفرنسي، احضر معه الأب المطران، وطلب من الطلاب تقديم الشكر له وتوديعه الوداع الذي يستحقه.
ورغم انتقالنا للجامعة بقينا على تواصل متقطع معه حتى منتصف الستينيات إذ عادت العلاقة من جديد وخاصة بعد السبعينيات وكنا نحتاجه في الدراسات الفكرية والتحليلات السياسية أو في كتابة مقالات أو تصحيحها. ولم يتردد مرة واحدة أو يتذمر. وفي كل مرة يأخذك إلى كورنيش البحر في اللاذقية متأبطاً ذراعك من بداية المساء وحتى الفجر، وهو يتحدث في كل شيء، بالتفاصيل الدقيقة دون أن يترك لك مجالاً للحديث، وإذا قاطعته بكلمة يقول لك بتهذيب «اسمح لي دقيقة لأوضح رأياً» وتمتد الدقيقة إلى ما لا نهاية دون أن تشعربأي ملل، بل وتشعر بالسعادة لأنك تسير مع قاموس سياسي واجتماعي وتاريخي متنقل وقادر على تفسير الأشياء بثقة عالية وتواضع بلا حدود، متجاوزاً العنجهية والغرور التي تطبع الذين يجعلون من ثقافتهم وسيلة للتعالي على الغير.
إن أكثر ما يميز الياس هي براءته، لا يعرف الكذب أو المراوغة او التزلف، يقول ما يريد وهو على ثقة بما يقول ودون أن يحتاج لإعادة التفكيربه، ويكتب دون أن يرجع لمصادره لأنه حفظها عن ظهر قلب. لذلك كان من الصعب على فرد أو مجموعة أن تدعي لنفسها استيعاب كل ما أنتجه الياس من فكر أو تعميمه بالسهولة التي يدعيها البعض.
تدخل بيته فيشعرك أنك في بيتك، ويدخل بيتك فيصبح صديقاً لكل أفراد العائلة صغاراً وكباراً، يحاورهم بتواضع وكل حسب مستواه. ويثني على أي طعام أو شراب يقدم له بأنه «عظيم ومجهول». وقلة من رواد الثقافة والفكر يتحلون بجلادته وصبره، وكثيراً ما كان يردد «لماذا يستشهد الناس بكبار المفكرين ونحن نمتلك العقل والقوة وبإمكاننا أن نمتلك أيضاً الوعي والمقدرة الفكرية والثقافية التي تجعلهم يستشهدون بنا»؟
كان الياس يفرح لأي نقد يوجه إليه ويتقبله بكل رحابة صدر ويرد عليه بروحه الديموقراطية، يعتز بتاريخه وبكل ما كتبه ولا يهرب منه كما يفعل البعض الذين يتهربون من تاريخهم حتى لا يضطرون لنقد أنفسهم. وأكثر ما يعزز مكانته هو انه جلد في الحوار ومرن في الاختلاف، وفي مجادلاته لا يساوم على الخطأ ويتوقف عنده، وكثيراً ما يتوقف عند الكلمات مردداً «إن من لايفهم الكلمات لا يعرف الواقع».
تعرض لكثير من النقد لكنه كان صبوراً لأن هدفه النهائي هو التأسيس للوعي وليس الدخول في مناكفات لا جدوى منها. واستطاع أن يؤسس له شبكة من الأصدقاء والمحبين، بينهم من يختلفون معه. ويكفي أن تسأل عن بيته المتواضع حتى يسارع الكثيرون ليدلوك إليه. (انتقل للسكن في منطقة تعج بالضوضاء لم يستطع تحملها، ثم سكن في عيادة طبيب قريب لزوجته قبل أن ينتقل إلى بيته الذي توفي فيه).
التزام شخصي
بعد أن تخلى عن الحزب الشيوعي أصبح الياس متحرراً من قيود الالتزام إلا التزامه بالوطن والشعب والأمة، وأصبح حراً فيما يكتب دون إملاء عليه، وكل ما فكر به كتبه منطلقاً من خدمة المجتمعات العربية لجعل الوعي مطابقاً لهذا الواقع كي يمكن تغييره.
تبنيه للماركسية ودفاعه عنها جاء من خلال رؤيته لها كنظرية منفتحة على الحياة، ومنهجاً في التحليل بعد أن نزع عنها ما أحاط بها من ممارسات ستالينية حاولت أن تجعلها وسيلة لخدمة سياسة معينة عبر عدد من الكتاب الماركسيين الذين سخرتهم الستالينية لهذا الغرض، وانبرى الياس بتوجيه النقد لهم وتفنيد آراءهم. وهو يرى في الماركسية انها استطاعت أن تعالج موضوع العلاقات الاجتماعية والسياسية الاقتصادية من منظور إنساني متقدم، ومن خلال نظرتها للكون والطبيعة والإنسان عبر الصراعات المتنوعة. ومن خلال موقفها من الظلم والاستغلال والاستبداد، ودعوتها لبناء عالم أساسه العدل والمساواة. وقد ادرك أن ماركس كان على حق في نقده للاقتصاد البرجوازي الذي قاد العالم إلى أزمات حادة (تظهر نتائج هذه الأزمة في الأزمة المالية الراهنة والتي لم تعد مالية فحسب بل أزمة اقتصادية عميقة). ويرى الياس أن «هذا الاقتصاد ومع معدلات النمو والتطور الصناعي وتكديس رأس المال لم يعم الثراء والراحة، بل خلق البطالة والتعطل، وهو يطال الفقر وأهل البطر على حد سواء».
برؤيته الماركسية هذه سعى مع ياسين الحافظ وجمال الأتاسي وعدد من المفكرين العرب الآخرين الذين حاولوا أن يجعلوا من الماركسية إحدى النظريات التي تلائم الواقع العربي عبر ما سمي بتعريب الماركسية، لكن هذا المشروع لم يلق الدعم الكافي نظراً لعمق التأخر، والمعوقات التي فرضتها تجربة التيار القومي التقليدي، والاتجاهات الستالينية التي أنزلتها إلى مستوى التكتيك اليومي، أو المستوى الاقتصادي البحت.
وقد رأى في بيروسترويكا غورباتشوف عناصر إيجابية عديدة يمكن أن تساهم في خدمة الثورة العالمية، لكنه كان يخشى أيضاً من مخاطرها ليس على الاتحاد السوفياتي فقط بل على العالم نظراً للأوضاع المتردية في هذه الدولة. وهو ما حصل بعد وفاته بقليل.
إلى جانب الماركسية شكل التيار القومي والوحدة العربية والأمة أهم القضايا التي برزت في منظومته والتي أعطاها جهداً كبيراً بدا واضحاً في كل ما كتب.
وإذا كان الياس لم يول التراث نفس الأهمية التي أولاها للماركسية في كتاباته الأولى، فإنه منذ بداية ثمانييات القرن الماضي شكل هذا الموضوع شغله الشاغل من خلال مجلة الواقع التي أشرف على إصدارها في بيروت، وأصدرمنها عشرة أعداد رغم الظروف المادية الصعبة، وظروف الاحتلال الإسرائيلي لبيروت آنذاك. وأيضاً من خلال مجلة الوحدة الصادرة عن المجلس القومي للثقافة والعلوم التي كان رئيساً لتحريرها. و بالتعاون مع اعداد كبيرة من المثقفين استطاع أن يعطي هذا الموضوع كامل الأهمية من منطلق خدمة التراث للمستقبل وليس بارتداده للماضي، وهذا ما جعله يلتفت على نحو مكثف لنقد العقلانية العربية التي تجسدت في كتابه الضخم (نقد العقلانية العربية أنف الذكر).
لم نخطئ عندما قلنا عنه إنه ابن رشد القرن العشرين. فهل ستتبرع جهة أو مجموعة ما لإحياء ذكرى وفاته العشرين عام 2011 بندوة عامة وشاملة في اللاذقية أو في دمشق تكون مجالاً لتقويم أعماله؟
لا زال الوقت مبكراً لكننا نطرحها للتفكير.