صفحات مختارة

من هو الأوروبيّ؟ الاستشراق والمنظور الإمبريالي

العادل خضر
تأمّلات في كتاب”الاستشراق: الشّرق وقد ابتدعه الغرب” لإدوارد سعيد
إذا كان العلم في نزاع مع القصص فلأنّ القصص الكبرى Les grands récitsالّتي كانت تؤسّس مشروعيّته، وتبيح لنا أن نحكم على هذا القانون أنّه صحيح وأنّ ذاك الملفوظ صادق لا كاذب، قد تحوّلت بتغيّر قواعد اللّعب الّتي كانت تنظّم العلم والأدب والفنون منذ نهاية القرن التّاسع عشر. ولهذه التّحوّلات جميعا صلة، في نظر جون فرنسوا ليوتارJean-François Lyotard، بأزمة القصص (1). غير أنّ للقصص الكبرى في رأي الفيلسوف الألماني بيتر زلوترداك Peter Sloterdijk وظائف أخرى، فهي عنده وسيلة قد استخدمها لرسم ملامح نظريّة عن الزّمن الحاضر تعتني أساسا بكتابة تاريخ العولمة والنّظام الرّأسماليّ الكوكبيّ capitalisme planétaire. ويطمح هذا النّوع من القصص إلى تشكيل بانوراما واسعة النّطاق تتعلّق بمجرى التّاريخ. فالقصص الكبرى الّتي عرفت إلى حدّ الآن في صيغها المختلفة، المسيحيّة، أو اللّيبراليّة التّقدّميّة، أو الهيغليّة، أو الماركسيّة، أو الفاشيّة… إنّما هي محاولات غير متكافئة للسّيطرة على تعقّد العالم. ورغم ما يتخلّل هذه القصص من سمات محلّيّة وإسقاطات وآراء مسبقة تفضح تمركزها الأوروبيّ وتضامنها التّاريخيّ مع النّهب الاستعماريّ للعالم، فإنّ هذه الانتقادات لا تنقص من قيمة هذه القصص. فهي تُرغم الفكر على بذل جهد يرمي إلى إنتاج منظور قادر على الإحاطة بكلّ التّفاصيل الّتي يمكن بواسطتها القبض على هذا الكلّ الّذي مافتئ يراوغنا. إنّ مشروع هذه القصص الكبرى هو أن يُرغم الفكر على أن يستجيب للتّحدّي المتمثّل في إبانة هذا الّذي غدا في الأزمنة الحديثة عالميّا معولما، وكونيّا كوكبيّا planétaire، وجليلا عظيما بالغ العظمة حدّ الإفراط démesure، وجعله ماثلا أمامنا على نحو موضوعيّ. ويرى بيتر زلوترداك أنّ بؤس القصص الكبرى في نسخها التّقليديّة لا يعود إلى كونها كبيرة جدّا، وإنّما لكونها غير كبيرة بالقدر الكافي. وإن كان ينبغي أن نحدّد حجم الكبر في لفظ “الكبير”، فإنّه في هذا السّياق الكونيّ الكوكبيّ يعني أنّه قريب من قطب الجليل المفرط في العظمة démesure (2).
ويبدو أنّ هذا التّحدّي يستجيب تماما لجوهر التّفكير في تصوّر دولوز Deleuze وغواتاريGuattari على الأقلّ لمّا تساءلا: “وما الّذي يمكن أن يكون التّفكير إن لم يكن يقيس نفسه دون هوادة بالفوضى” (3)؟
إذا سلّمنا بهذا التّعريف للقصص الكبرى بوصفها إحدى الوسائل الّتي تعتمد في كتابة تاريخ الحضارات والأفكار والأزمنة والدّول والفلسفات والجغرافيّات… جاز لنا من هذا المنظور أن نعتبر «الاستشراق» قصّة من القصص الكبرى لسببين على الأقلّ:
* أوّلهما أنّ موضوع هذه القصّة الكبرى عظيم يشمل هذه القطعة الجغرافيّة الرّحيبة من العالم الّتي أطلق عليها الغربُ اسم «الشّرق».
* ثانيهما أنّ هذه القصّة الكبرى لم يؤلّفها كاتب واحد، فقد تضافر على كتابتها أطراف كثيرة كرجال السّياسة والإداريّين والأدباء والرّحّالين ورجال الأعمال وغيرهم.
ولا يُوجد في كتاب إدوارد سعيد الرّائع “الاستشراق: الشّرق وقد ابتدعه الغرب” من القرائن ما يدلّ على أنّه كان واعيا بأنّه بصدد كتابة قصّة «الاستشراق» الكبرى (4). فـ«الاستشراق» عند هذا المفكّر الفذّ هو مجرّد تخييل من تخييلات الغرب لابتداع الشّرق. ونقترح في هذا السّياق أن يكون «التّخييل» اللّفظ العربيّ الّذي يكافئ لفظ fiction. ويرجع بيار لوجندر Legendre Pierre أصول هذا اللّفظ إلى الفعل اللاّتينيّ “fingere: façonner pour représenter” بمعنى سوّاه ليمثّل (5).
ولا يمكن في نظر إدوارد سعيد تغيير هذه التّخييلات، ذلك “أنّ للتّخّييلات بالفعل منطقا وجدليّة خاصّين بها تتحكّم في نموّها وأفولها” (الاستشراق، ص79). وهو في موضع آخر يرى أنّه من المشروع تماما أن نتحدّث عن «الاستشراق» بصفته جنسا أدبيّا ممثّلا في أعمال فيكتور هيغوHugo ، ونرفالNerval ، وغوته Goethe، وفلوبيرFlaubert ، وفيتزجرالد Fitzgerald وآخرين (الاستشراق، ص69). وإذا كان بعض كبار المؤرّخين على غرار ميشلي Michelet، وتوكفيل Tocqueville، ورنكه Ranke، وبوركهارد Burckhard “قد كتبوا تاريخا من نوع خاصّ”، وجعلوا لقصصهم حبكة، فإنّ الأمر نفسه يصدق على “المستشرقين الّذين حبكوا في قصصهم التّاريخ والأشخاص ومصير الشّرق طيلة مئات من السّنين” (الاستشراق، ص114).
وهذه الأمثلة وغيرها ممّا لم نذكر، كافية لتبيّن أنّ إدوارد سعيد قد نظر إلى «الاستشراق» على أنّه تخييل. فما كتبه إدوارد سعيد ليس قصّة كبرى وإنّما بويطيقا هذا التّخييل، هذا إذا فهمنا من لفظ البويطيقا معنى الصّناعة والفنّ، أي كلّ القواعد والطّرائق المستخدمة في هذا المقام لإنتاج تخييل «الاستشراق». وقد صُرف نصيب كبير من كتاب “الاستشراق: الشّرق وقد ابتدعه الغرب” لتحليل التّقنيات المتنوّعة الّتي استخدمها المستشرقون على اختلاف أصنافهم وتنوع اختصاصاتهم في إنشاء صورة «الشّرق» والإنسان «الشّرقيّ»، وصناعتها. فقد حاول إدوارد سعيد طيلة هذا الكتاب أن يكشف كيف نشأ هذا التّخييل، وبأيّ الوسائل والطّرق صنع. فخطاب «الاستشراق» بهذا الاعتبار، إنّما هو هذا التّخييل الّذي صنع به الغربُ الشّرقَ وأعاد ابتداعه وفق مواصفات ومعايير خاصّة بالإنسان الأوروبيّ.
وإذا كانت كلّ الوثائق الّتي اطّلع عليها إدوارد سعيد، أدبيّة كانت أو فلسفيّة، سياسيّة أو إداريّة… تكشف طبيعة «الاستشراق» التّخييليّة على مستوى الملفوظات أو الخطاب، فإنّها على مستوى التّلفّظ تكشف الموقع الّذي يتكلّم منه المتلفّظ ويمثّله في الآن نفسه. وهو موقع (العلم/المعرفة والسّلطانsavoir/pouvoir) الّذي تكلّم منه كلّ من ساهم في صناعة تخييل «الاستشراق» وابتداع قصّته الكبرى. هذا المتلفّظ هو الإنسان الأوروبيّ. وليس المستشرق سوى صورة من هذا الإنسان. فمن هو الأوروبيّ؟
قبل أن نجيب عن هذا السّؤال الصّعب الّذي هيكل اليوم دراسات كثيرة عن أوروبا، تلك الّتي استقطبها خطاب “عودة أوروبا” إثر سقوط الاتّحاد السّوفياتي وإسقاط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة، وظهور الاتّحاد الأوروبيّ، وجب أن نشير إلى أنّ «الاستشراق» بما هو خطاب موضوعه منطقة «الشّرق» والإنسان «الشّرقيّ»، إنّما هو شكل من أشكال “الإكسوتيزمexotisme “. وهو لفظ قد ظهر في القرن التّاسع عشر (6)، في فترة قد وسمت في تقدير مارك قيوم Marc Guillaume بنهاية السّفر والرّحيل وبداية السّياحة (7). ويمكن أن نعتبر رواية جول فارن Jules Verne “جولة حول العالم في ثمانين يوماLa tour du monde en quatre- vingt jours ” قرينة من قرائن ذاك التّحوّل. فبطل الرّواية فيلياس فوغ Phileas Fogg هو نقيض أسلافه من الرّحّالة النّمطيّين من ملاّحي وجغرافيّي القرون 16م و17م و18م. فقد اقترن مسار هؤلاء بما كانوا يحملونه من آمال الاكتشاف والاستعمار والثّراء. ومنذ القرن 19م حلّ محلّ هؤلاء المسافرين الحقيقيّين نمط جديد هو نمط السّيّاح الّذين يفضّلون السّفر في القطار أو السّفن والنّوافذ مغلقة، لأنّ ما يعرض أمامهم غير جدير بأن يُرى ماداموا يفضّلون عبور الأمكنة بدل التّوقّف عندها واستكشافها بأنفسهم (8). ويمكن تفسير هذا التّحوّل من السّفر إلى السّياحة بأنّ معرفة العالم في تلك الفترة قد اكتملت، فلم يعد يوجد فيه ما يمكن أن يستكشف أو يكتشف. وقد بدأ نسق تلك المعرفة يتسارع منذ القرن 18م ويكتمل بالتّصنيع الّذي ظهرت معه إيديولوجيّة النّدرة في الثّروات، خاصّة ندرة الآخر الّذي أصبح في تلك الفترة نادرا بدوره. وقد ترجمت هذه النّدرة، أي ندرة الآخر، بقرينة مضادّة هي الصّيغة الإكزوتيكيّة. فظهور لفظ “الإكسوتيزم” هو قرينة على نهاية حضور الآخر. فقد قلّص الرّجل الغربيّ من حقيقة الآخر بالاستعمار والاحتواء الثّقافيّ، وألغى ما فيه من اختلاف على نحو جذريّ، واختزل كلّ ما لا ينقاس l’incommensurable عنده في جملة من السّمات السّلبيّة هي قطْعا السّمات المشكّلة لصورة الإنسان «اللاّ أوروبيّ». فخطاب «الاستشراق» يشتغل دوما بتقليص اختلاف «الشّرق» والإنسان «الشّرقيّ» إلى مجموعة من السّمات محدودة العدد موزّعة على قطبين هما: «نحن» و«هم» (انظر مثلا الفصل الأوّل “معرفة الشّرقيّ” : الاستشراق، ص.ص45-90). وهو تقليص ضروريّ، لأنّ الإفراط في الاختلاف يجعل تجربة المغايرة مستحيلة. فالمغايرة لا تكون إلاّ بتقليص الآخر على نحو قد يفضي إلى ندرته. بل إنّ هذا التّقليص وهذا الاختزال قد كانا من أسباب ندرة الآخر. فالنّدرة الحقيقيّة هي المغايرة. ولعلّ أفضل طريقة لمقاومة هذه النّدرة هي ابتداع تخييل الآخر (9).
إذا سلّمنا بأنّ «الاستشراق» هو شكل من أشكال “الإكسوتيزم” بما هو قرينة على ندرة الآخر أو نهايته، أفلا يكون «الاستشراق» هذا الخطاب المتأرجح بين هذه النّدرة الحقيقيّة للمغايرة وبين التّعويض التّخييليّ (القصصيّ) compensation fictiveللآخر بوصفه حامل السّمات الّتي تكوّن «اللاّ أوروبيّ»؟
إنّ ما ابتدعه خطاب «الاستشراق» من تخييلات هو ما يسمّيه مارك قيوم “التّخييلات المختلطةfictions mixtes “، وهي عبارة عن خطاب تكوّن من عناصر من الواقع أو التّاريخ قد شحنت بعناصر خياليّة وتخييليّة. فعندما نفتقد المغايرة الموضوعيّة نتغذّى بهذه التّخييلات المختلطة بما هي سياحة تاريخيّة في الماضي تلبّي حاجة إكزوتيكيّة (10).
وعلى هذا النّحو يكون الاستشراق تخييلا مختلطا ذا أصل جغرافيّ، قد بُني بما وفّرته الجغرافيا والثّقافات وشعوب الأرض من معارف. وهو في النّهاية تخييل يُشيد بالمغايرة، إلاّ أنّه يظلّ تخييلا يناسب ذاك الّذي ابتدعه. وهو لا محالة «المستشرق» بما هو اسم من أسماء «الإنسان الأوروبيّ». فمن هو «الأوروبيّ»؟
***
يعيننا هذا السّؤال على طرح سؤال المغايرة والاختلاف بأسلوب مختلف، وييسّر علينا طَرْق خطاب «الاستشراق» من زاوية «المستشرق». فإن تَساءلنا على سبيل المثال: “كيف ينظر إلينا (نحن) المستشرق (الآخر)؟” فإنّ هذا السّؤال في جوهره بويطيقيّ وإن كان ينزّل دوما في مستوى العلاقة بين (نحن والآخر) وفي مدار الاختلاف وإشكال المغايرة. فسؤال “كيف ينظر إلينا (نحن) المستشرق (الآخر)؟” يكافئ سؤالا آخر هو: “كيف يصنع المستشرق خطابه عن «الشّرق» والإنسان «الشّرقيّ»؟”، ففي جميع الأحوال حين يتحدّث المستشرق عن الآخر الشّرقيّ أو المشرقيّ إنّما ينشئ صورة portrait أو تخييلا fiction عن ذاته بما هي آخر je comme un autre محكوما بمقولات النّظر الأوروبيّة إلى الآخر الغريب أو البعيد النّائي، أو المجاور أو المحتلّ. فهو عموما:
“(لا) ينظر إلينا (نحن) على أنّنا أوروبيّون، وإنّما ينظر إلينا على أنّنا (لا) أوروبيّون”.
ولنلاحظ في هذه العبارة أنّنا قد نقلنا النّفي من فعل النّظر إلى موضوع النّظر. فإن كان «المستشرق» (لا) ينظر إلينا على أنّنا أوروبيّون فذلك يقتضي أن ينظر إلينا على أنّنا آخر واقعيّ يمكن أن يمثّله الغيرl’autrui كالصّينيّ أو الأمريكيّ أو اليابانيّ… أمّا إذا كان ينظر إلينا على أنّنا (لا) أوروبيّون فإنّ الآخر الّذي ينفيه «المستشرق» هو آخر خياليّ لا وجود له إلاّ بالتّخييل. فهو آخر خياليّ وتخييليّ أيضا. إنّه هذا «اللاّ أوروبيّ» الّذي لا تصبح صورته، أي صورة أناه، متماسكة إلاّ إذا اتّخذت من «الشّرق» والإنسان «الشّرقيّ» مرآتها. وإنّنا لنتعمّد استعمال كلمة “مرآة” لأداء لفظ psyché الّذي يعني المرآة العظيمة المتحرّكة، وهو يعني كذلك الظّواهر النّفسيّة المكوّنة للوحدة الشّخصيّة. فالمرآة تعكس صورة الأنا، سواء أكانت صورة هذه الأنا هي صورة الأنا المثاليّ le moi idéal، أم الأنا الخياليّ، أم صورتها مهلوسة وقد تخلّصت ممّا يسمّيه فرويد بـ”مبدإ الواقع” principe de réalité.
يدفعنا ذلك كلّه إلى أن نتساءل: ألا يكون «الشّرق» والإنسان «الشّرقيّ»، هذه المرآةُ العظيمة الّتي ابتدع بفضلها «الأوروبيّ» آخره «اللاّ أوروبيّ»، إنّما هو ذاك الآخر الّذي ابتدع بدوره، وبوجه من الوجوه، «الأوروبيّ» وعثر عليه ووجده، وكشفه واكتشفه، وسوّاه واخترعه (11)؟ فالمرآة ليست هذه المساحة الصّقيلة الشّفّافة الّتي تعكس صورة الأنا فحسب، وإنّما هي هذا الفضاء الّذي يعاد فيه ابتداع صورة الأنا، بما يؤسّس اختلاف الأنا عن ذاته. هذا النّوع من الاختلاف، الّذي يكون فيه الأنا مختلفا عن ذاته يسمّى “الاختلاف الأدنى” la différence minimale (12). وهو اختلاف، إن جرّدناه من كلّ ما فيه من أبعاد النّزاع والصّراع والهيمنة، صار دالاّ على اختلاف الأنا عن المحلّ والموضع الّذي كان من المفروض أن يوجد فيه. فـ”الاختلاف الأدنى” هو اختلاف الأنا عن المكان الّذي سُجّل فيه، أو اختلافه عن الموضع الّذي نزل فيه وحلّ. فإذا كان التّسجيل في المكان يثبّت الوجود في مكان، “لأنّ المكان هو الّذي يمنح الوجود” وكان المكانُ ضامنا لهويّة الأنا أضحى الموضعُ والمحلُّ والموْجِدُ (بمعنى مكان الوجود) هاهنا هو المتسبّبَ في زعزعة مرتكزِ الهويّة وأساسِها المكين. فـ«الأوروبيّ» في «الشّرق» وأمام آخره الإنسان «الشّرقيّ» إنّما هو في غير مكانه. ونجد هذا التّصوّر عند إدوارد سعيد حين يقول: “فأن يكون المرء أوروبيّا في الشّرق يتضمّن دوما أنّه على وعي بكونه متميّزا عن محيطه، وأنّه يعقد معه علاقة لا مساواة.” (الاستشراق، ص184). هذا المحيط الّذي يتميّز عنه الأوروبيّ ويعقد معه علاقة لا مساواة هو فضاء الإنسان «الشّرقيّ» بما هو إنسان «لا أوروبيّ».
إنّ علاقة اللاّمساواة الّتي يعقدها «الأوروبيّ» مع مكان «اللاّ أوروبيّ» تمثّل هذا الضّرب من الاختلاف الّذي أطلقنا عليه تسمية “الاختلاف الأدنى”. وقد نشأ “الاختلاف الأدنى” في حالة «الاستشراق» على نحو تلازميّ بين إرادتي المعرفة والقوّة وموضوعها مكان «اللاّ أوروبيّ». ونؤوّل هذا الاختلاف بوصفه انتقال الموضوع بتبدّل موضعه في إطار محدّد، وقد تسبّب فيه تغيُّرٌ في زاوية العيان، ممّا أنشأ زاوية جديدة في النّظر. ينبغي أن نضيف أنّ هذا التّغيّر ليس ذاتيّا بحيث أنّ نفس الموضوع الموجود هنا يمكن عيانه من موقعين وزاويتي نظر مختلفتين. فالذّات والموضوع متلازمين بحيث أنّ أدنى تغيّر “إبستمولوجيّ” في زاوية نظر الذّات يُترجم فورا ودائما بتغيّر “أنطولوجيّ” في الموضوع (13). وبناء على هذا التّأويل نرى أنّ خطاب «الاستشراق» لم تصبح شروط وجوده ممكنة إلاّ حين اكتملت معرفة «الأوروبيّ» بموضوعه، اكتمالا انجرّ عنه تغيّر “إبستمولوجيّ” في نظرة «الأوروبيّ» إلى «الشّرق» والإنسان «الشّرقيّ» الّذي انقلب “أنطولوجيّا” إلى مكان هو مكان «اللاّ أوروبيّ».
وقد حدّد إدوارد سعيد تاريخ هذا التّغيّر في علاقة الذّات بموضوعها في خطاب «الاستشراق» خلال القرن التّاسع عشر والقرن العشرين لمّا “كفّ اعتبار المستشرقين جمعا لا يُعتدّ به، ذلك أنّ مجال الجغرافيا الخياليّة والواقعيّة قد تقلّص، ثمّ لأنّ العلاقات بين الشّرقيّين والأوروبيّين قد تحدّدت بمدّ أوروبيّ لا يقاوم، بحثا عن الأسواق والموارد والمستعمرات، وأخيرا لأنّ الاستشراق قد اكتمل انقلابه الخاصّ من خطاب عالِم إلى مؤسّسة إمبرياليّة.” (الاستشراق، ص114).
وهذا الانقلاب في خطاب «الاستشراق» “من خطاب عالِم إلى مؤسّسة إمبرياليّة” لا يمكن للسّؤال البويطيقيّ الشّعريّ “كيف ينظر إلينا (نحن) المستشرق (الآخر)؟” أن يفسّره. فهو سؤال لم يعد كافيا بمفرده في فهم ظاهرة الاستشراق إن لم نعضده (أو نستبدله) بسؤال مختلف: “لماذا ينظر إلينا (نحن) المستشرق (الآخر) على ذلك النّحو، وبتلك الصّيغة والصّورة؟”. ويمكن أن نجيب، لتفسير تلك النّظرة، بألفاظ كالتّمركز الأوروبيّ والنّظرة الاستعماريّة، وإرادة القوّة… وهي في الواقع ألفاظ تصف الظّاهرة ولا تفسّرها، بل هي اليوم ألفاظ قد فقدت من شدّة ابتذالها نجاعتها الرّمزيّة وطاقتها التّفسيريّة. فمن يكون هذا الآخر الّذي ينظر إلينا (الأنا) على ذلك النّحو من النّظر؟ إنّه لا محالة «المستشرق»؟ ولكن من هو «المستشرق»؟ إنّه «الأوروبيّ»؟ فمن هو «الأوروبيّ» إذن؟ وما حاجته إلى الشّرق والثّقافات الشّرقيّة الّتي أضحت موضوع «الاستشراق»؟
***
إذا افترضنا أنّ «المستشرق» هو إنسان إمبرياليّ، فإنّ موضوع مساهمتنا هو محاولة تروم أن تحدّد موضع التّلفّظ الّذي تكلّم منه المستشرقون وأنشؤوا خطاب «الاستشراق»، وصنعوا قصّته الكبرى. هذا الموضع هو موضع العلم والمعرفة. وقد تعرّض هذا الموضع منذ القرن التّاسع عشر لتحوّل جذريّ لمّا كفّ التّصوّر التّقليديّ الإيروسيّ للمعرفة بوصفه محبّة للحقيقة عن الوجود، وحلّ محلّه تصوّر آخر مختلف شعاره “العلم/المعرفة هو السّلطان savoir c’est pouvoir”. وهو شعار قد حفر، في رأي بعض الفلاسفة، قبر الفلسفة، ومن جثّتها “نجمت في القرن التّاسع عشر العلوم الحديثة ونظريّات السّلطان كعلم السّياسة، ونظريّة صراع الطّبقات، والتّكنقراطيّة، والمذهب الإحيائيّ، بجميع أشكالها مدجّجة. “العلم/المعرفة هو السّلطان savoir c’est pouvoir”. ذاك ما أفضى حتما إلى تسييس الفكر.” (14).
يمكن أن نعتبر شعار (العلم/المعرفة والسّلطان) قد مثّل أنموذجا أو براديغم paradigme في المعرفة قد هيكل برامج البحث في كامل العلوم والاختصاصات الحديثة منذ القرن التّاسع عشر. فالمعرفة الخالصة النّقيّة من شوائب السّياسة قد باتت غير ممكنة بما في ذلك خطاب «الاستشراق». فلا يمكن على سبيل المثال لانجليزيّ من القرن التّاسع عشر قد صرف عنايته للهند أو لمصر أن يلتبس عليه الأمر، ذلك أنّ اهتمامه بهذه البلدان ليس معرفيّا خالصا، وإنّما هو اهتمام يتعلّق بالمستعمرات البريطانيّة. ولقد كان التّمييز بين المعرفة الخالصة والمعرفة السّياسيّة أحد المشاغل الّتي دعت إدوارد سعيد إلى تسويغ موضوع «الاستشراق»، بدحض كلّ ادّعاءات الإجماع اللّيبرالي الّذي يرى أنّ العلم الحقّ هو ما كان غير مسيّس أو غير سياسيّ، وهو إجماع يحجب الشّروط السّياسيّة المنظّمة لإنتاج المعرفة. فـ«الاستشراق» يجعلنا نجابه مباشرة سؤال الإمبرياليّة والثّقافة، كأن نتبيّن كيف “تتحكّم الإمبرياليّة السّياسيّة في مجال كامل من الدّراسات والخيال والمؤسّسات العالمة تحكّما يغدو تجنّبه مستحيلا استحالة فكريّة وتاريخيّة”. وقد طرح في المقدّمة سلسلة من الأسئلة ضبط بواسطتها نوع الأسئلة السّياسيّة الّتي يطرحها «الاستشراق» من قبيل: “ما هي الأصناف الأخرى للطّاقات الفكريّة والجماليّة والعالِمة والثّقافيّة الّتي ساهمت في تكوين تقليد إمبرياليّ كالتّقليد الاستشراقيّ؟ وكيف خدمت الفيلولوجيا، والقاموسيّة، والتّاريخ، والبيولوجيا، والنّظريّات السّياسيّة والاقتصاديّة، ونظم الرّوايات والشّعر الغنائيّ، تصوّر الاستشراق الإمبرياليّ قطْعا للعالم؟ …” (الاستشراق، ص26و28).
تبيّن هذه الأمثلة أنّ «الاستشراق» ظاهرة خاضعة لمقولات النّظر الأوروبيّة/الإمبرياليّة. وهي المقولات نفسها الّتي فكّر بها «المستشرق» في إنشاء خطابه، ونظر بواسطتها إلى «الشّرق» والإنسان «الشّرقيّ»؟ وهي ذاتها المقولات الّتي أنشأت صورة «المستشرق» نفسه بما هو إنسان أوروبيّ. فـ”من هو الأوربيّ؟”
إذا افترضنا أنّ الإنسان الأوروبيّ Homo Europæus هو إنسان إمبرياليّ فإنّ سؤال “من هو الأوربيّ؟” يقتضي إجابة تبرز ملامحه الإمبرياليّة.
وقد انطلق البعض من الفلاسفة للإجابة عن هذا السّؤال من مقالة بول فاليري “أزمة الرّوح La crise de l’esprit”. وهي مقالة اكتنز فيها بعض الشّروط الّتي تعرّف بالإنسان الأوروبيّ.
ونجد في خاتمة هذه المقالة فقرة تبدو صالحة لوصف ديناميكيّة التّحديث الأوروبيّة، وهي تصوغ في الآن نفسه نظريّة فاليري الّتي عرض فيها تعريفه لأوروبا بما هي حدثان وكثافة. وهو تعريف ذو منحى نفسيّ سياسيّ ورياضيّ جاء فيه:
“في كلّ مكان، أينما هيمنت الرّوح الأوروبيّة نشهد ظهور الحدّ الأقصى من الحاجات، والحدّ الأقصى من العمل، والحدّ الأقصى من رأس المال، والحدّ الأقصى من المحصول، والحدّ الأقصى من الطّموح، والحدّ الأقصى من تحوير الطّبيعة الخارجيّة، والحدّ الأقصى من العلاقات والمبادلات. هذه المجموعة من الحدود القصوى هي أوروبا، أو صورة من أوروبا. وتتوقّف من جهة أخرى شروط هذا التّكوين، وهذا التّفاوت المثير للعجب، بطبيعة الحال، على مزايا الأفراد، وخصال الإنسان الأوروبيّ l’Homo europæus المتوسّطة. واللاّفت للانتباه أنّ الإنسان الأوروبيّ لم يعرّف بالعرق، ولا باللّغة، ولا بالعادات، وإنّما بالأشواق واتّساع الإرادة… إلخ” (15).
ينبغي أن نشير إلى أنّ مقالة “أزمة الرّوح” قد كانت منطلقا عند بعض الفلاسفة لتأمّلات قد استقطبها سؤال “من هو الأوروبيّ؟” ولم تخرج الأجوبة المقترحة في منحاها العامّ عمّا سطّره فاليري في مقالته. فالأوروبيّ إنسان إمبرياليّ. وقد تجلّى ذلك بوضوح في أسلوب معاملته للمكان. فـ«الشّرق» مثلا هو فضاء قد عامله «الأوروبيّ» بصيغتين متكاملتين بل متلازمتين:
*فهو مكان «اللاّ أوروبيّ» الّذي يرفض ما يوجد فيه لأنّه غير أوروبيّ.
*وهو أيضا مكان «اللاّ أوروبيّ» الّذي يريد أن يجد فيه ما ليس بأوروبيّ.
يؤكّد هذا التّلازم أنّ الأوروبيّ إنسان إمبرياليّ لا على نحو ماهويّ، كأن يكون بالطّبع والجِبلّة إمبرياليّا، وإنّما بسبب الشّكل الإمبراطوريّ الرّومانيّ، أو ما يدعوه الفيلسوف الفرنسي ريمي براغ Brague Rémi بـ”السّبيل الرّومانيّة” (16). وقد حدّد هذا الشّكل الوظيفة الجوهريّة في تكوين أوروبا، وهي تخصّ آلية انتقال الإمبراطوريّة. فأوروبا هي مسرح لتحوّلات الشّكل الإمبراطوريّ. والفكرة الموجّهة للمخيال السّياسيّ الأوروبيّ هي ضرب من التّقمّص للإمبراطوريّة الرّومانيّة من خلال الشّعوب الأوروبيّة الّتي يفترض أنّها قادرة على صنع التّاريخ.
إنّ القوى الأوروبيّة الكبرى هي محاولات متجدّدة لاستعادة الشّكل الإمبراطوريّ، بحيث يمكن القول حرفيّا إنّ الأوروبيّ هو كلّ من تورّط في عمليّة نقل الإمبراطوريّة (17). وقد احتاجت عمليّة نقل الإمبراطوريّة في الأزمنة الحديثة إلى وسائل جديدة أبرزها هذا التّضامن التّاريخيّ بين العلم والاستعمار. والأمثلة على ذلك كثيرة. فالصّهر الأوروبيّ للعلم والاستعمار قد أنشأ في البداية صورة سياسيّة وجغرافيّة عن الأرض. وقد اضطلع علم الخرائط بأوروبا، وهو من ثمار الأزمنة الحديثة، بدور مهيمن حين وفّر، للسّياسيّين والتّجّار والبرجوازيّين المثقّفين في القلاع الغربيّة، نظرة شاملة ومجرّدة من كلّ عجيب عن كوكب الأرض الّّذي أضحى من الممكن اكتشاف شكله الواقعيّ بقارّاته ومحيطاته (18).
بيد أنّ كلّ هذه المعطيات على ما فيها من طرافة لا تعنينا إلاّ في علاقتها بـ«الاستشراق». فإذا كان الإنسان الأوروبيّ هو ذاك الّذي يستعيد الشّكل الإمبراطوريّ باكتساح الفضاء واستعماره وإخضاعه لهيمنته (19)، فإنّ «المستشرق» هو ذاك الّذي تولّى القيام بعمليّة نقل الإمبراطوريّة أو ذاك الشّكل الإمبراطوريّ بواسطة الاستحواذ، لا الاحتواء، الثّقافيّ الّذي فسّر ريمي براغ ديناميّته بما سمّاه “«رومانيّة» أوروبا de l’Europe «romanité»la ” (20). و«الرّومانيّة» عند هذا الفيلسوف مفهوم مبنيّ، وليس ظاهرة تاريخيّة. ومنطلقه في تصوّر هذا المفهوم هو المعطى التّاريخيّ المتمثّل في طريقة الرّومان في احتواء الثّقافة اليونانيّة ونقلها إلى العالم الّذي غزته. فالرّومانيّ عند براغ كلّ شخص انحصر بين كلاسيكيّة يشعر حيالها شعورا مؤلما بالدّينونة، وبربريّة يعلم أنّه مضطرّ إلى أن يغتسل منها بالهلّينيّة حتّى يكون لائقا. إنّ تفوّق الرّومانيّ متأتّ مبدئيّا من كونه قد قبِل بأنّه أتى متأخّرا، وتاليا، وثانيا وهجينا. فهو باختصار يتحمّل “ثانويّتهsecondarité “. وهذه العلاقة الّتي عقدتها روما مع أصولها هي ذاتها العلاقة الّتي عقدتها مع أثينا والقدس. فالأوروبيّون رومانيّون في علاقتهم بالإغريق واليهود. فـ”ثانويّة” الثّقافة الأوروبيّة في علاقتها بالإغريق واليهوديّة لا تحتاج إلى بيان. من ذلك أنّ اليهوديّة لم تتدخّل في تكوين أوروبا إلاّ من خلال القراءة المسيحيّة للعهد القديم. وفي هذا النّطاق لا تدّعي أوروبا أنّها قد امتصّت بمفردها كلّ ما احتواه التّراث الهلّيني أو العهد القديم. فحضور ديناميكيّة “الثّانويّةla secondarité ” في أعلى مستوى الدّين هو ما زوّد أوروبا بطابع الثّانويّة الثّقافيّة الأوروبيّة. فهي الّتي جعلت التّاريخ الثّقافي الأوروبيّ ممكنا بوصفه سلسلة من “النّهضات”. وليست النّهضة عند براغ سوى عودة إلى المنابع. فكلّ نهضة هي صنف خاصّ من العودة. فالأمر يتعلّق بالاتّجاه نحو منبع يعلم الأوروبيّ جيّدا أنّه قد عفا واندثر، ويعي بصفة خاصّة أنّه ليس منبعه لأنّه يقع خارج الثّقافة الأوروبيّة، وتحديدا في القدامة l’antiquité الإغريقيّة اللاّتينيّة. فأن يكون المرء رومانيّا هو أن يخوض تجربة القديم على أنّه جديد، أو يتجدّد بازدراعه في أرض جديدة ازدراعا يجعل ما كان قديما مبدأ لتطوّرت جديدة. فالرّومانيّ هو ذاك الّذي خاض تجربة البداية بوصفها إعادة (بداية)recommencement . ويقتضي هذا العمل التّاريخيّ تحوّلا في الذّات تجلّى دوما في إعادة تأويل الثّقافات السّابقة والغريبة. وقد مثّل ذلك العمل طريقة وجود أوروبا وخصوبتها في آن واحد، وهو ما صنع على نحو لا يخلو من مفارقة فرادة أوروبا بوصفها هويّة خارج كلّ تمركز excentrique ومنحرفة عن مركزهاdécentré . فالثّقافة عند الأوروبيّ لا يمكن أن تكون شيئا يستحوذ عليه ويكوّن هويّته، وإنّما هي شيء غريب ممّا يجعل من جهد تملّكه أمرا ضروريّا. فبوساطة السّابق والغريب أمكن لأوروبا أن تبلغ ما هو خاصّ بها. لقد تشكّلت أوروبا بما ليست هي. فهي تتميّز بطابعها اللاّتينيّ الرّومانيّ، طابع الثّانويّة الثّقافيّة الأوروبيّة، أي بعلاقتها الخاصّة بالمنابع الّتي تنهل منها. فما هو خاصّ بأوروبا منحدر من روما. ولمّا كانت الثّقافة الأوروبيّة ثقافة نقل كان الأوروبيّون نقلة. فهم يعتقدون أنّهم لم يحملوا شيئا جديدا، أو هم يحملون القديم بوصفه جديدا. فما يعرّف بهم ويحدّدهم دوما هو عنايتهم بثقافة ليست في حدّ ذاتها بثقافتهم. فنهجهم في النّقل يتمثّل في تملّك ما هو غريب، والنّظر إليه على أنّه غريب. فإذا كان الهضم الثّقافي يتمثّل بصفة عامّة في استحواذ شعب على مكتسبات شعب آخر الثّقافيّة، فإنّ الأمر يختلف مع الرّومانيّ. فما يميّز موقفه من ثقافة الإغريقيّ، هذا المنهزم الظّافر، هو أنّه موقف أستطيقيّ متمثّل في احترام الأشكال. فالرّومانيّ يصون الغريب بوصفه غريبا، محافظا بذلك على غيريّته. فالاستحواذ لا يعني الاحتواء. ذاك هو المبدأ الأوروبيّ الخالص الّذي وسم ما أطلق عليه اسم “النّهضة”. فقد اعتبرت المنابع القديمة منابع لا تنضب ويتجدّد اكتشافها باستمرار.
وإذا كان الأوروبيّ قد اتّبع السّبيل الرّومانيّة في التّعامل مع الينابيع القديمة، وهي حتما سبيل تأويليّة وأستطيقيّة، أفلا يكون المستشرق بوصفه أوروبيّا، وممثّلا لمؤسّسة الاستشراق، قد اتّبع هذه السّبيل في معاملته وتعامله مع «الشّرق» والإنسان «الشّرقيّ»؟
من اليسير أن نجد السّمات الّتي تحدّد الشّكل الإمبراطوريّ في مشروع «الاستشراق». وهو في الأصل مشروع ذو أصول رومنطيقيّة. ففكرة بعث أوروبا وإعادة إحيائها بواسطة آسيا إنّما هي فكرة منتشرة عند الرّومنطيقيّين مثل فريديريك شليغل ونوفاليس. فقد كانا يحثّان مواطنيهما والأوروبيّين بصفة عامّة على دراسة الهند بتفصيل، ذلك أنّه بإمكان الثّقافة والدّيانة الهنديّتين التّغلّب على ما في الثّقافة الغربيّة من نزعات مادّيّة وميكانيكيّة. ومن هذه الهزيمة ستولد أوروبا الجديدة منتعشة. وليس المشروع الرّومنطيقيّ سوى مثال نوعيّ من نزعة عامّة، عرضها ريموند شواب بحجج مقنعة ومدعّمة في كتابه “النّهضة الشّرقيّة”. وتمثّل فكرة البعث إطار الأبنية الحديثة «للاستشراق» الّذي أضحى في نهاية المطاف اختصاصا من الاعتقادات العلمانيّة وشبه الدّينيّة ميّزت الفكر الأوروبيّ في القرن التّاسع عشر. وقد استقرأها إدوارد سعيد وحصرها في أربعة عناصر تاريخيّة هي: اتّساع أوروبا، والمجابهة التّاريخيّة، والتّعاطف، والتّصنيف. وهي تمثّل تيّارات الفكر في القرن الثّامن عشر. وقد كيّف حضورُها أبنية «الاستشراق» النّوعيّة على صعيد الفكر والمؤسّسة. ومن دونها ما كان بالإمكان الحديث عن «الاستشراق». وقد خلّصت هذه العناصر الأربعة الشّرق بصفة عامّة والإسلام بصفة خاصّة من الفحص الدّينيّ الضّيّق الّذي أجراه عليه الغرب المسيحيّ. فـ«الاستشراق» منحدر من عناصر معلمنة ومن ثقافة الأوروبيّين في القرن الثّامن عشر.
إنّ هذه العناصر التّاريخيّة الأربعة تبيّن من ناحية حاجة الغرب إلى الشّرق والثّقافات الشّرقيّة الّتي أضحت موضوع «الاستشراق»، وتظهر من ناحية أخرى طرائق «المستشرق» بما هو «إنسان أوروبيّ» في معاملة تلك الثّقافات بوصفها سلسلة من “النّهضات”، أو عودة إلى المنابع القديمة أو الغريبة. وليست “النّهضات” سوى ضروب من الاستحضار présentifications للحضارات القديمة في هيئة جديدة. “وإنّنا لنخطئ خطأ ذريعا لو اعتقدنا في وجود قدامات. إنّه لَلآن فحسب بدأت القدامة في الظّهور.” كما يقول نوفاليس. فكلّ نهضة تثبت عبقريتها بأن تجد القوّة لأن تتقدّم نحو شيء لم يوجد بعد. فعندما يتماهى الغرب في شرق قد عفا وانقرض، ويجتهد في استحضار قدامة شرقيّة أو آسيويّة بوصفها منوالا للجدّة أو للجديد الّذي لم يفصح بعد عن اسمه، إنّما هو في واقع الأمر يبحث في ماض غريب أو قديم عن إمكانات أخرى لمستقبله الخاصّ.

الهوامش:

1- انظر: Lyotard, Jean-François: (1979-1994) La condition postmoderne. Cérès Éditions, Tunis, p.p5-6.
2- انظر: Sloterdijk, Peter: (2006) Le palais de cristal. À l’intérieur du capitalisme planétaire. Traduit de l’allemand par Olivier Mannoni, Maren Sell Éditeurs, p.p11-13.
3- انظر: Deleuze, Gilles et Guattari, Félix: (1980) Qu’est-ce que la philosophie? Éditions de Minuit, p196. والعبارة هي: “Et que serait penser s’il ne se mesurait sans cesse au chaos?”
4- انظر: Said, Edward.W: (1978-2005) L’orientalisme. L’Orient créé par l’Occident. Traduit de l’américain par Catherine Malmoud. Éditions du Seuil. والإحالات ستكون عليه في المتن.
5- انظر: ( Legendre, Pierre: (1994) Dieu au miroir. Étude sur l’institution des images, Fayard, p42) الّذي يرجع أصل كلمة fiction إلى الفعل اللاّطينيّ ” fingere = façonner pour représenter ” أو سوّاه ليمثّل.
6- ظهر لفظ “الإكزوتيزم exotisme” سنة 1845، وهو نسبة من لفظ “إكزوتيك exotique”، المنحدر من اللّفظ الإغريقي exôtikos الّذي يعني “الغريب”، ويقصد منه في الاستعمال الحديث كلّ ما لا ينتمي إلى حضارات الغرب، وأُتِيَ به من بلدان نائية.
7- انظر: Baudrillard, Jean & Guillaume, Marc : (1994) Figures de l’altérité. Descartes &Cie, p47.
8- Sloterdijk, Peter: Le palais de cristal, op.cit, p60
9- انظر: Baudrillard, Jean & Guillaume, Marc : (1994) Figures de l’altérité. Descartes &Cie, p.p48-49.
10- انظر: Baudrillard, Jean & Guillaume, Marc : Figures de l’altérité, op.cit, p49.
11- انظر: Derrida , Jacques: (1987-1998) Psyché. Invention de l’autre. Éditions Galilée, p10.
12- انظر في التّعريف بمتصوّر “الاختلاف الأدنى” فقرة Hegel 3 :la différence minimale»» من كتاب:Žižek, Slavoj : (2008) Organes sans corps. Deleuze et conséquences. Éditions Amsterdam, p.p81-96.
13- انظر:Žižek, Slavoj : (2008) La parallaxe. Fayard, coll ouvertures, p.p21-22.
14- انظر كتاب: Sloterdijk, Peter: (1987) Critique de la raison cynique. Traduit de l’allemand par Hans Hildenbrand, Christian Bourgeois Éditeur, p8.
15- انظر: Valéry, Paul: (1924-1967) Variété I, éd Gallimard, p.p54-55.
16- لقد صاغ ريمي براغ أطروحة تبدو مقنعة تعرّف بأوروبا بوصفها شكلا هو “الشّكل الأوروبيّ” في مقالته: Brague, Rémi : «Europe : tous les chemins passent par Rome», Esprit, Février, 1993, p.p33-4O، وانظر في نفس الموضوع كتابه: Brague, Rémi : (1992) Europe : la voie romaine, Éditions Critérion et « Folio Essais », 1999.
17- انظر: Sloterdijk, Peter: Si l’Europe s’éveille, op.cit, p52.
18- انظر: Sloterdijk, Peter: Si l’Europe s’éveille, op.cit, p12. وانظر كذلك الفصل 18 من كتاب: Sloterdijk, Peter: Le palais de crystal, op.cit, p.p144-160.
19- انظر: Sloterdijk, Peter: Si l’Europe s’éveille, op.cit, p.p14.حيث بيّن أنّ الشّعار الأوروبيّ اللاّفت للانتباه في الأزمنة الحديثة هو “إلى الأبعد دائما” «toujours plus loin». ومن ثمّة اعتبر أوروبيّا كلّ من ساهم بطريقة من الطّرق في تجسيم هذا الشّعار “إلى الأبعد دائما”. إنّه الصّيغة المركزيّة لحركيّة الأزمنة الحديثة. وفي نفس الوقت كانت الحكمة المؤسّسة لاقتناع الإمبرياليّة الرّاسخ هي الفكرة الّتي ترى أنّ المكتشف ينبغي أن يصبح سيّد ما يكتشفه. فلا شيء أشدّ أوروبيّة من الفرضيّة الّتي تجعل من المكتشف صاحب حقّ بإمكانه أن يطالب بحقوقه تماما كحقوق المخترع أو حتّى المبدع أو المؤلّف. وعلى ذلك النّحو غدا الفضول ذاته قوّة عالميّة. وقد تعلّم الأوروبيّون أن يعتقدوا أنّ من يرى ويضرب بعيدا لا بدّ أن يكون النّجاح حليفه.
20- انظر: Brague, Rémi : «Europe : tous les chemins passent par Rome», op.cit.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى