صفحات مختارةياسين الحاج صالح

في تفقد الواقع وتفاصيل أخرى

null
ياسين الحاج صالح
برزت في العقد الأخير مقاربات للشأن العربي العام تمنح قيمة تفسيرية كبيرة للثقافة، مقلَّصةً عموما إلى الدين. وكنت تناولت هذه الظاهرة التي كان من روّادها مثقفون سوريون مكرّسون في مادتين نُشرتا في “ملحق النهار”، “نظرية الحتمية الثقافية في الثقافة السورية، مقالة صد العناد” (24/5/2009)، و”الثقافوية العربية المعاصرة: خصائص منهجية ومحددات أساسية” (13/12/12/2009). والمقالة الأخيرة حظيت بتعليق من الأستاذ عبد الهادي عيد بعنوان “النقد الثقافوي للثقافوية” (“النهار”، 6/1/2009). يأخذ عليّ فيها أشياء متنوعة، من أبرزها غموض مفهوم الواقع الذي قابلته مع مفهوم التغيير بالمعنى التاريخاني للكلمة، وقد بدا لي مشحونا ببعد خلاصي كثيف، ومع مفهوم الهوية، أو رد الواقع إلى الهوية (عربية، إسلامية…). من هذا الباب كنت في مقالتي المنقودة، “الثقافوية العربية المعاصرة” تحفظت عن النسبة العربية لأوجه الواقع التي يتناولها أكثرنا. فما يقارب بين العرب هو الثقافة أو أوجه متعددة لها، لكن الدولة والسياسة والدين والعشيرة والطائفة والاقتصاد الريعي والليبيرالي، تبقى كلها خارج المقاربة العربية التي تمسي أكثر وأكثر بلا موضوع.
أردت في المقالة القول إن تفسير شؤوننا (وإطار إحالتي الواقعي، سوري دوما) بالثقافة العربية أو بالدين الإسلامي يفوّت أشياء كثيرة. وفي “نظرية الحتمية الثقافية” كنت قلت إن الثقافوية هي سياسة وموقف سياسي متعيّن جدا ضمن شروط متعيّنة. لكني بالفعل لم أتناول بالتحليل بنية الواقع الذي “يفرز” تحليلات ثقافوية وفيرة، وكان جديرا بي أن أتساءل عن الشروط التاريخية والاجتماعية والمعرفية الكامنة وراء صعود الثقافوية. في السياق السوري على الأقل، حيث يبدو لي أنه لا يصعب تبين تلك الشروط.
لكن الأيام آتية وقد أفعل. وأصارح الأستاذ عيد أني كتبت مقالة الثقافوية على هامش مادة أطول قليلا تتفقّد مفهوم الواقع في ثقافتنا المعاصرة، وتنتقد تاريخانية عبدالله العروي بخاصة. عسى أعود إليها قريبا.
عدا ذلك يبدو لي أن الواقع الذي أنكرت ردّه إلى الهوية، وانتقدت النظر إليه من زاوية التغيير (بالحرف الكبير أو بالمعنى التاريخاني) يُعرف بلغة العلوم الاجتماعية، السوسيولوجيا والاقتصاد والسياسة والجغرافية السياسية، وبالطبع التاريخ. أنا كاتب هاوٍ، لكني حبّرت مواد متنوعة في هذا المجالات جميعا، موضوعها الواقع السوري أساسا. وإن لم تحل دون الاستمرار في هذا العمل حوائل لا تطاق، فإني مداوم عليه. هذا فوق الانخراط العملي في ما يستطاع من مشكلاته. قد لا يكون الأستاذ عيد مطلعا على مجمل عملي، لكني لا أستطيع اقتراح تعريف للواقع غير هذا المجمل. والانشغال بالواقع هو ما حدا بي إلى تجنب التعميم والكتابة عن سوريا تحديدا، على عسر معلوم لذلك. ليس لذلك صلة بانفعال سلبي حيال العروبة. أنا أقرب إلى العكس. لكنه جهد لتمثيل سوريا والانضباط بواقعها وكسر تطابقها المزعوم مع سردية فقيرة تطابقها مع حاكميها.
هذا من باب التعليق على النقطة التي بدت لي الأهم في مقالة ناقدي.
هناك نقاط أخرى، تفصيلية بعض الشيء.
في خصوص تعريف الثقافوية، قدّمت لها تعريفا إجرائيا: تفسير المجتمع والسياسية بالثقافة، لكن المقالة ككل تعريف لها. وكذلك المقالة الأخرى، “نظرية الحتمية الثقافية”. الأستاذ مطلع على مواد متنوعة لي، وقد أدرج اطلاعه على بعضها في نقده لمقالتي، لكن من الذاكرة وبصورة غير موفقة في رأيي. نسب إليَّ مثلا أني ميزت بين ثقافوية عالمة ممثلة بعبد الله العروي وياسين الحافظ وثقافوية أمية يمثلها جورج طرابيشي. لا شيء من ذلك في مقالتي المنقودة، ولا في المقالة التي يبدو أن الأخ عيد تذكرها، وكان عنوانها “العلمانية الأمية: في المحصلات المحتملة للفصل بين العلمانية والدولة” (“المستقبل”، 20/12/2009). والواقع أني لم أقل إن العروي والحافظ ثقافويان أصلا. حاولت إرجاع أصول الثقافوية المعاصرة إلى مفهوم التأخر التاريخي الذي يجعل الواقع بلا قوام ذاتي فيقلل من شأن معرفته وسياسته والوجود فيه، وإلى المذهب التاريخاني للعروي؛ وكان الحافظ شريكا في هذه الرؤية. هذا شيء، والقول إنهما ثقافويان شيء آخر. أما وصف جورج طرابيشي بأنه ثقافوي أمي، فلم يصدر عني قط. في المقالة موضع النقاش، وصفت طرابيشي بأنه ثقافوي خالص أو يكاد. وفي “العلمانية الأمية” قلت إنه علماني عالم، لكن في علمانيته (وعلمانية آخرين معه) خيوط أمية تسهّل، إذ تعرف العلمانية بدلالة الدين حصرا (عمليا الإسلام السني في سوريا)، اعتبار كثيرين أنفسهم علمانيين بينما هم يحملون كل عتادهم الديني أو المذهبي معهم. الواقع أني ميزت في المقالة المنقودة نفسها بين ثقافوية عالمة قلما تكون خالصة، وثقافوية أمية خالصة غالبا، فكان أن تأوّل الأستاذ أن المعني هو جورج طرابيشي. هذا غير صحيح. ذكرت أن الثقافوية العامية الخالصة تأسف لتغير السياسة الأميركية وتدرج نفسها في سياق “صراع الحضارات”، وتجد في شبكة الانترنت مراحا واسعا تصول فيه وتجول. في سوريا غير ممثل صادح النبرة لهذه الثقافوية الأمية، ليس بينهم الأستاذ طرابيشي.
الأستاذ عيد على حق حين يأخذ عليَّ أن لم أذكر اسم ممثل واحد للثقافوية الإسلامية. بدا لي أن الأمر واضح جدا. ولا أكاد أعرف إسلاميا واحدا لا ينطبق عليه ذلك. كنت تناولت القرضاوي في بعض موادي، وأرجو أن يكون مناسبا التمثيل به على الثقافوية الإسلامية.
لكني لا أرى الأستاذ محقا في مساءلته لي عن ضرب العلمانية الذي نسبت الثقافوية العلمانية إليه، فرنسية أم أنكلوسكسوينة. هذا تزيّد لا لزوم له في مقالي.
ولعل ضربا من التزيّد أيضا يكمن وراء قوله إن كلامي على مشروعَي سيطرة موافقين لتنويعتي الثقافوية لا يشير إلى طبيعة المشروعين، قبل أن يجعل إغفالي المفترض هذا غيابا، ثم يجعل الغياب تغييبا لا ينجح في إخفاء حضور يصفه بالكثيف لعناصر المشروعين، قبل أن يمضي ايضا إلى مطالبتي بفضح هذا التغييب وعدم الاكتفاء بالإشارة إلى غياب لا أثر له. إذا لم يحصِّل القارئ شيئا من هذه الجملة الطويلة فلأني لم أحصل شيئا مثله. لكن يبدو أن الرجل يفترض شيئا (عدم إشارتي إلى طبيعة المشروعين)، ثم يبني عليه شيئا آخر (ليس غيابا بل تغييب)، ثم يلومني على أني لم أعتن بتوضيح طبيعة هذا الشيء الآخر. كان الله في عوننا جميعا.
من النقاط التفصيلية أيضا التي تستدعي تعليقا، وصف الكاتب لي أني لا أحب كلمة “حل”، وأني أدعو إلى الكف عن التفتيش عن الحلول. واضح من مقالة الأستاذ عيد أنه مثقف واسع الاطلاع وذو ذائقة. لكن يدق على فهمي أن يسمح مثقف مثله لنفسه بصوغ جملة كهذه التي أوردتها للتو. انتقدت مفهوم “الحل” مرةً وأكثر. انتقدت شحنته الخلاصية، المهدوية إن شاء ناقدي، في عبارات من نوع “الإسلام هو الحل” و”الحل الاشتراكي” ومعادلاتهما. “الحل” يعدم الواقع ولا يحل شيئا. لا علاقة لذلك بحب كلمات ومقت غيرها. لا أخوض حروبا ضد كلمات ولا أتعبد لكلمات. وبالقطع لم أدع الأستاذ عيد ومن يدرج نفسه معهم، إلى الكف عن البحث عن حلول.
في مكان آخر يشعر ناقدي أن من واجبه تذكير القارئ “بأن الكاتب (أنا) من أكثر منتقدي مصطلح الممانعة بالمعنى السياسي الذي درج في السنوات الماضية”. ليس واضحا لي إن كان ما دفعه إلى هذا التذكير كلمة “الممانعة” التي وردت في جملة لي كان اقتبسها لتوه (“الاشتباك مع الواقع والتمرس بثقله وممانعته”)، أم هو ما أضفته في الجملة نفسها من وجوب “الانخراط في صراعات اليوم”. أيا يكن، يبدو لي التذكير أعراضيا جدا.
بلى، أنا من نقاد الممانعة. ولا ريب أن الأستاذ قرأ مقالتين لي أو ثلاثاً في نقدها ما دام نفحني بصفة “من أكثر منتقدي الممانعة”. وسبب نقدي بسيط: إنه لا لزوم لي ولأمثالي في سياسات الممانعة وهياكلها وعقيدتها وخطبها وكرنفالاتها ومنابرها وأعلامها وشبكاتها وريوعها، ولا لزوم للجمهور السوري العام إلا كركيزة غفل لسياسات اقترنت على الدوام بنسيانه كيلا نقول أكثر. وأشك في أن يكون الأستاذ عيد أكثر لزوما لأهل الممانعة. فإذا لم يكن تداعي الألفاظ بل عبارة “الانخراط في صراعات اليوم”، هو ما أورد على بال الأستاذ عيد الممانعة وانتقادي لها، فالأمر يغدو ناطقا أكثر. هناك صراعات كثيرة يمكن المرء الانخراط فيها في بلده وفي إطار أوسع يتجاوزه، لا تقتضي فقط عدم المرور بالممانعة بل ربما تستوجب نقدها ومقاومة علاقات السلطة التي تصدر عنها. وأقدّر أن مدرك الممانعة ربما يحوز صدقية وتشريفا لو جرى تحري مدى انطباقه على علاقات المحكومين في مجتمعاتنا بحاكميهم الموسرين والراضين عن أنفسهم.
تبقى نقطة أخيرة تتصل بما لاحظه الناقد من وضعي مدرك الإسلام بين قوسين. الأمر متصل بكل بساطة في التباس المدرك وتنوع الظواهر التي قد تندرج ضمنه، وبتحوّط من توظيفه الدوغمائي، أي اعتباره شيئا واضحا بذاته، بديهيا، علما. لا شأن لذلك بتشككي في نسبة الإسلامية المعاصرة إلى “الإسلام” على ما بدا للأستاذ عيد، ولا بتشكك في الإسلام ذاته. أما الإسلامية التي سجّل الأستاذ عيد بحق “صمتا مطبقا” من طرفي عن تعريفها، فهي الشكل التاريخي الراهن للإسلام. وعند اللزوم قد يمكن تمييز وجوه ووجوه فيها، أبرزها اليوم سياسي ¶
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى