بعيدا جدّا مع شارل بوكوفسكي…
سعيد الباز
ترجمة وتقديم سعيد الباز: الحوار التالي أجراه الكاتب و الصحفي السويسري جان فرانسوا دوفال J. F. Duval مع الشاعر والكاتب الأمريكي الشهير بوكوفسكي الذي يعدّ آخر كتاب الجيل الغاضب الأمريكي (بيت جينريشن) نتعرّف من خلاله على رؤاه الأدبية و الفكرية وغرابة أطواره، والتي جعلت منه محطّ اهتمام القراء من جهة، ومن جهة تالية نموذجا لكاتب خاض مغامرة الكتابة مستقلّا عن المؤسسة الثقافية والفنية والإعلامية الأمريكية التي يكنّ لها العداء، منتصرا دائما لعوالمه الهامشية (الشارع، الحانات، الأعمال الشاقة والمتعبة…) كان دائما يردّد بأنّه إنسان عادي يكتب لناس عاديين. هو إذا، صعلوك أمريكي يذكرنا بصعاليك الشعر العربي، ومثلهم مازالت قراءة كتبه تفيض بالمتعة وطراوتها الخالدة. من أشهرها: يوميات عجوز قذر، مذكرات شخص تافه، الحب كلب من الجحيم، الأيام تمضي مثل أحصنة متوحشة…
جان فرانسوا دوفال: قلت لي أمس مساء في التليفون، بانّك تفضل حضوري على الساعة الثامنة بدلا من بداية الظهيرة، كما جرى الاتفاق في الأوّل، هل لذلك معنى ما؟
شارل بوكوفسكي:آه…نعم، لذلك معنى. لست حيّا تماما طوال النّهار. أثناء النهار، أمشي كما لو كنت شيئا ميّتا. كنت هكذا دائما، أكون مغتمّا،رؤيتي غير واضحة حتّى غروب الشمس.وأنا طفل كانت أمّي تقول لي: ما هذا الذي يحدث لك؟ لا تفعل شيئا إلى أن يظلم الليل، عندها تبدأ في الحركة…لهذا إذا، لديّ قرابة مع الليل. هو بالنسبة لي أكثر حياة، أكثر رومانسية، وأكثر واقعية من النهار. النهار من شدّة بياضه يصيبني بالدوار، و لاأحبّه. لذلك كان من الأفضل أن تأتي في المساء. لو كنت قد أتيت نهارا، لوجدتني ببساطة جالسا هنا مغمغما أمامك: نعم… أوكي… وربّما هذا ما سأفعله الآن(ضحك).
جان فرانسوا دوفال: ولا ليل بدون نبيذ؟ من الآن فصاعدا، صرت تفضّله على البيرة.
شارل بوكوفسكي: النبيذ دم الآلهة. بوسعك أن تشرب منه الكثير، وأن تبقى في نفس الآن محافظا على يقظة نسبية. كنت أشرب قدرا هائلا من البيرة، لكنّ النبيذ أفضل. بإمكانك أن تكتب ثلاث، أربع ساعات. بينما الويسكي مصدر للمشاكل. لن أشربه طالما أنت هنا، لأنّي ساعتها أحسّ بنفسي قد صرت عنيفا، وحين أحسّ بنفسي قد صرت عنيفا، فإنّه يتحتّم عليّ إثبات ذلك.
جان فرانسوا دوفال:(ضاحكا) هل ما زلت تشعر بضرورة إثبات ذلك؟
شارل بوكوفسكي:(غاضبا) فقط، عندما أحسّ بأنّ ذلك قد صار ضروريا. دائما كان الأمر على هذا النحو.
جان فرانسوا دوفال: هل كتبت اليوم؟
شارل بوكوفسكي: لا، كنت في حلبة السباق، سباق الخيول. كان من المحتمل أن أكتب هذا المساء، لكن أنت هنا…
جان فرانسوا دوفال: إنّي آسف.
شارل بوكوفسكي:(ضاحكا) لقد أفسدت عليّ أمسيتي…
جان فرانسوا دوفال: لديّ كما ترى الكثير من الأسئلة.
شارل بوكوفسكي:(معتذرا) أوه،أنا فقط قلق من هذه المسألة: إذا لم هناك نبيذ، فسأتوقف عن الكلام. وليس لدينا سوى قنينتين.
جان فرانسوا دوفال: هل الكحول و النبيذ حجاب تخفي به الواقع، أو على العكس هو الأمل في رؤية الأشياء بصفاء أكبر؟
شارل بوكوفسكي: طيّب. بالنسبة لي، ذلك يسمح لي بالخروج من الشخص الذي أنا عليه في العادة. ليس لي أن أواجه نفس الشخص يوما بعد يوم، سنة بعد سنة… ذلك الشخص الذي يذهب إلى دورة المياه… و الذي ينظف أسنانه بالفرشاة يوما بعد يوم، و الذي يقود سيارته عبر الطريق السيّار، و الذي يبقى أبدا قنوعا، وليست له سوى حياة واحدة. أفهمت؟ بينما الشراب شكل من أشكال الانتحار يسمح لك بالعودة ثانية إلى الحياة، وبدايتها من جديد في اليوم الموالي. كنت ملزما على أن أعيش عشرة أو خمسة عشرة ألف حياة بهذه الطريقة… بإمكان من يشرب أن يصبح شخصا آخر، والحصول على حياة جديدة بالكامل. و لا أقول بأنّها ستكون الأفضل أو الأسوأ. يصبح شخصا مختلفا.وهذا سيمنحه حياتان. وأنا في العادة أثناء هذه الحياة الثانية ما أقوم بعملي في الكتابة…لهذا منذ أن نجحت معي الكتابة، قررت أنّ الشرب كان جيّدا بالنسبة لي…هذا يجيب بعض الشيء على سؤالك.
جان فرانسوا دوفال:أنت تشرب إذن من أجل الكتابة؟
شارل بوكوفسكي:أجل، ذلك يساعدني.
جان فرانسوا دوفال: مع أفضلية للنبيذ؟
شارل بوكفسكي: النبيذ يساعد في المحافظة على نوع من الحالة السوية. كانت لي عادة شرب البيرة والسكوتش معا. لكن، لم يكن بالإمكان الكتابة أكثر من ساعة، أو ساعة ونصف، بهذه الطريقة. بعد ذلك، الأمر لا يحتمل. مع النبيذ يمكنك الثبات لثلاث أو أربع ساعات…
ميكي رورك بدور هنري بوكفسكي في فيلم barfly
جان فرانسوا دوفال: ومع البيرة؟
شارل بوكوفسكي: البيرة؟ تفرض عليك الذهاب إلى دورة المياه في كلّ عشر دقائق، وهذا يقطع حبل التركيز…
جان فرانسوا دوفال: كلّ هذا يشعرك بالقرب من الكتاب؟
شارل بوكوفسكي: طيلة حياتي كانت لي مشاكل في العثور على شيء للقراءة… الحرب والسلام…تولستوي… شكسبير… إنّي أفهم جيّدا لماذا يضجر الأولاد في حصّة الأدب. المعدّات هي الرديئة.
جان فرانسوا دوفال: و الأسلوب؟ ما هو الأسلوب بالنسبة إليك؟
شارل بوكوفسكي: الأسلوب هو أن تقوم بعملك أفضل ما يمكن لك أن تقوم به، وتحت ظلّ أيّ شروط معيّنة. و لا شيء آخر.
جان فرانسوا دوفال: أقصد أسلوب الكتابة.
شارل بوكوفسكي: الأمر أشبه بأن تجد نفسك أمام بيضة، تريد أن تكسّر غلافها كي تكشف عن محتواها، ثمّ هوووب… وداعا للكتكوت…
جان فرانسوا دوفال: هل تعتقد، أيضا أنّنا في الحياة لا نغامر كفاية، و أنّنا دائما حذرون جدّا؟
شارل بوكوفسكي: ليس لدينا تقريبا الخيار، إمّا أن تقوم بعملك ذي الثماني الساعات، أو أن تموت جوعا في الشارع. و المجتمع يفرض ذلك على الناس، و عن خوف يمتثلون لذلك…ترى من يتوصّل إلى كسر هذا الطوق؟
ينبغي أن يكون بداخلك شيء استثنائي لكي تتخلّص من الساعات الثمانية لعملك كلّ يوم.
جان فرانسوا دوفال: هل لديك أنت نفسك، الشعور بأنّك كنت تملك الخيار؟
شارل بوكوفسكي: لا،لقد تهيّأ لي بأنّني سأقوم بساعاتي الثمانية طيلة حياتي. الطريقة الوحيدة التي كنت قد خلتها للخلاص، كانت في تغيير عملي على الدوام. كيفما كانت حقارة هذه الأعمال، والسفر من مدينة إلى أخرى، على الأقلّ كان في ذلك بعض التنوّع.وهذا ما كان بإمكاني عمله.مخرجي الوحيد في تغيير عملي، و القيام بأقلّ ما يمكن منه، و الانتقال من مدينة إلى أخرى.هذا ما قمت به لسنوات… وذات يوم ابتسم لي الحظ: فأنا الآن أمام آلتي للكتابة، أتردّد على حلبات سباق الخيل، و أعطي مقابلات صحفية…(ضحك)
جان فرانسوا دوفال: في كلّ مرّة تكون المناسبة للاحتفاء بك، و تستدعى لتقديم قراءات، تفسد الاحتفال…
شارل بوكوفسكي: القراءات التي قمت بها، كانت فقط من أجل المال. كانت لتسديد واجب الكراء، ومن أجل مصاريف الأكل و الشراب. لكن لم أكن أحبّ الناس الذين كانوا يأتون لسماع قراءاتي. لا أعتقد بأنّ للكتابة صلة ما بالصعود إلى منصة و قراءة ما كتبناه أمام حشد من الناس. أعتقد بأنّه شكل من الغرور، ولعب دور مسرحي. ولاعلاقة لذلك بالإبداع. أنا كنت أقرأ شعري، فقط لأنّي كنت في حاجة إلى المال.
جان فرانسوا دوفال: هذا ماحدث أثناء مرورك الشهير في البرنامج الفرنسي ” أبستروف ” سنة 1978
حين غادرت في وسط الحلقة و مباشرة أمام الضيوف و المشاهدين البرنامج و أنت سكران تماما.
شارل بوكوفسكي: ها..ها.. إنّي أضع نفسي دائما في مواقف مستحيلة. لكن، يالها من شرذمة متصنّعة ومتعالية…حقّا لا يمكنني تحمّلها. كان عليّ معرفة ذلك. كنت أعتقد بأنّ حاجز اللغة سيجعل الأمور أكثر سهولة. لكن، العكس. كان ذلك في غاية التصنّع. الأسئلة أدبية شديدة التنميق، و لم يكن هناك من متنفّس، الجوّ خانق، ولا يمكنك الشعور بأدنى حسّ من الطيبة… كان هناك فقط أناس جالسون ومتحلقّون يتحدّثون عن كتبهم. لقد كان شيئا فظيعا… أصابني بالجنون. أناس أيضا، أرادوا مقابلتي بسارتر في باريس.
جان فرانسوا دوفال: هل قابلته؟
شارل بوكوفسكي: لا، لقد رفضت.
جان فرانسوا دوفال: لكن، لماذا؟
شارل بوكوفسكي: طيّب… أنت تعتقد بأنّه كان من واجبي أن أقابله. في الواقع، يجب ألّا تتمّ دعوتي أبدا لأيّ مكان… فقط، عليّ أن أبقى هنا… و أن أشرب نبيذي…
جان فرانسوا دوفال: (ضحكات) أنت تبذل جهدا في التعبير من خلال كتابتك بالطريقة الأكثر خشونة
وعنفا ممكنيين. هل يصدر شعر ما من هذا الجانب المباشر، و اليائس أحيانا…
شارل بوكوفسكي: أفضل عبارة ” البساطة “. أحاول دائما أن أكتب بوضوح، بالشكل الذي يجعل الناس يعرفون ماذا أقول، و أن أعرف ذلك أيضا… لذلك لا أحاول استعمال العبارات الكبيرة. أحاول دائما استعمال الكلمة الأكثر صغرا، الأكثر بساطة، لاألتجئ إلى المعجم. أحبّ الكلمة عندما تكون في حالتها الطبيعية، بسيطة، سهلة. بهذه الطريقة لا أكذب على نفسي. لأنّ كلّ ما قرأته من خلال الأدب الكلاسيكي لم يكن حقيقة طبيعيا، بسيطا، وسهلا. لقد كان مضلّلا، متكلّفا، وغامضا. وأنا أريد التخلّص من كلّ ذلك…
جان فرانسوا دوفال: المال ماذا يعني لك؟
شارل بوكوفسكي: لا شيء. ما عدا أنّه يسمح لك بأن تمضي في طريقك دون أن يأتي من يهدّ باب بيتك لتحمل إلى مكان آخر. المال يفيد في العيش بهدوء دون أن يأتي من يهشّم عظامك، بشكل تتمكّن
من القيام ببعض الأشياء التي عليك إنجازها قبل الموت. و لست في حاجة إلى الكثير من المال من أجل ذلك، تحتاج إلى ما يكفيك حتّى لا ينال منك. كي تستطيع أن تغيّر عجلة سيارتك بدلا من تركها على حافة الطريق أو أن تشتري أخرى جديدة.(ضحكات) لدي قولة قديمة. أمران سيّئان في المال: عندما يكون كثيرا جدّا، وعندما لا يكون كافيا.
جان فرانسوا دوفال: والانتحار؟
شارل بوكوفسكي: ما به الانتحار؟
جان فرانسوا دوفال: نعم، فكرة الانتحار قليلة الحضور في عملك الأدبي.
شارل بوكوفسكي: الانتحار هو بالضبط، أن تخور عزيمة المرء أمام لعبة الأوراق التي بين يديه.
و يريد المراهنة ثانية على توزيعة جديدة للعب، لأنّنا نشعر جيدا بأنها لعبة. من هنا ولدت فكرة الانتحار. المزعج في الأمر هو أنّ عليك أن تقطع هذه العنق المأفونة،عمل مؤلم وقذر. جملة من الأفكار تدفعك إلى الانتحار، وجملة أخرى تمنعك: إيه.. انتظر… ربّما لن تستطيع أن تقطعها جيدا، ولن يكون بمقدورك الكلام إلّا بنصف الوجه فيما تبقى من أيّامك.أنا هذا ما كنت أقوله لنفسي:
بأنّه يمكن أن أجد نفسي مستقبلا في وضعية أكثر سوءا. و هذا ما كان يمنحني دائما القوة. إذن كان خياري مضادا للانتحار.
جان فرانسوا دوفال: في أوروبا الكثير من الناس الذين لم يقرؤوا لك يعتقدون بأنّك صرت مشهورا بفضل قصصك عن الجنس، بالتحديد ” حكايات الجنون العادي “. ثمّة سوء تفاهم موجود، أليس كذلك؟
شارل بوكوفسكي: طيّب، تعلم أنّنا نمرّ من مراحل في الكتابة. في فترة كتبت حول الجنس، و تعمقت في الموضوع. قمت بذلك كثيرا عندما بدأت أكتب من أجل أن أعيش. كنت محتاجا بسرعة إلى المال… كنت في الخمسين من عمري، و قد تركت عملي ساعيا للبريد، أسكن بهذه الغرفة في هوليود أشرب و أكتب هذه القصص الجنسية من أجل مجلات كانت تدفع مقابلها مبالغ جيّدة… كنت أقول مع نفسي: يريدون الجنس، سيحصلون عليه. لكنّي، سأخدعهم. هكذا ولدت هذه القصص.إذا نظرت جيّدا، فسترى بأنّها ليست قصص جنس. لم أكن مهووسا بالجنس، و لكنّي كنت مرغما على استعماله من أجل بيع هذه القصص…
جان فرانسوا دوفال: إذا لم تكن مهووسا بالجنس، فماذا تنتظر حقّا من المرأة؟
شارل بوكوفسكي: كلّ ما أريده من المرأة، هو أن أعيش معها في هدوء وسلام. (تضحك زوجته ليندا)
جان فرانسوا دوفال: من بالنسبة إليك أعظم كاتب حيّ في الولايات المتحدّة؟ إذا كان هناك أحد…
شارل بوكوفسكي: لم يعد يكتب. كما لو أنّه تبخّر في الطبيعة. اسمه جيروم دافيد سالينجرJ.D.Salinger. كتب كتابان أو ثلاثة. ثمّ بعدها اختفى. لم يسمع أحد شيئا عنه.هذا الشخص كان جيّدا إلى درجة كبيرة. ثمّ فجأة توقّف عن الكتابة. غموض تام يحيط بسالينجر. روايته ” الحارس في حقل الشوفان ” هي بحقّ كتاب عظيم…
جان فرانسوا دوفال: يشبه قليلا توماس بينشونThomas Pynchon، هل تعرفه؟
شارل بوكوفسكي: إنّه في لائحة البيست سيلرز، عشرة كتب الأكثر مبيعا، أليس كذلك… أنا أحذر من لائحة البيست سيلرز، اللجوء إليها مثل التصويت على ريغان…(ضحك)
جان فرانسوا دوفال: ماذا لك أن تضيفه؟
شارل بوكوفسكي: شيء أخير. كنت قد سألتني من قبل، هل ثمّة ولو بصيص أمل بقلب الإنسان. طيّب، أجبتك بنعم. لكنّها نعم صغيرة. نعم ضعيفة جدّا… الآن سأشرب كأسا آخر.
مقتطف من: “Buk et les Beats
Jean François Duval
ايلاف