حوار مع الفنانة البرازيلية المشاغبة شيلا هيبيرو
عملي التجهيزي يرتكز على التواصل الافتراضي والمديني الإسمنتي
في انتخابات الرئاسة البرازيلية الاخيرة، لعبت شِيْلا هيبِيْرو، دورا مهما في فوز المرشحة آنذاك، رئيسة البرازيل الحالية ديلما روسيف. وعدت روسيف بأنها ستسمح بالإجهاض إن انتخبت. ووصفتها زوجة المرشح المنافس خوسيه سيرا بأنها “آكلة أطفال”. غير أن الزوجة، كانت قد أسرّت لشِيْلا ولطالبة أخرى، بأنها أجهضت. كان ذلك عام 1992. هيبيرو، لم تحتمل هذه الإزدواجية في الخطاب، فصرحت بما تعرف، وأشعلت شرارة جديدة وجدالا واسعا حول الإجهاض في البرازيل. مصممة الرقص والفنانة والمخرجة البرازيلية المشاكسة، تستضيف صالة “Q-contemporary” تجهيزا لها ضمن معرض فوتوغرافي جماعي. لا بد من سؤالها أولا عن علاقتها بالأمكنة، ومن أين هي تحديدا. شيلا لا تربكها محاولة استفزاز منطقها الخاص بالأمكنة، لكنها لا تحدد هويتها بمطرح جغرافي واحد. فهي مولودة في البرازيل، لكنها عاشت مراهقتها في كندا، ثم أقامت في إيطاليا والصين، وترى أن من الصعب تحديد انتمائها الى مكان دون آخر. تعرض الآن في بيروت، العاصمة التي سبق أن زارتها مرات عدة، قبل أن تتعاون مع غاليري “Q-contemporary” لإقامة عرض تجهيزي من ثلاثة أجزاء مختلفة من حيث التنفيذ والمواد والوسائط المستعملة. روح الدعابة والعبث والتلاعب والمراوغة والعناد، هي من الخصائص التي يسهل التقاطها على المتحدث مع شيلا. لكن عليه أن يكون شديد الحذر. واردٌ مثلا أن تتشظى أسئلته، وتُذَوَّبَ في الهواء، لأن الشابة تستطيع تحويل السؤال نفسه عن مسار الإجابات التقليدية، او على الأقل تلك التي تدور في فلك الاحتمالات المعقولة، وذلك بإعطائه ابعادا جديدة لا تتوقعها. السخرية، مرة أخرى، تباغت حساسية الحوار، وجدِّيته. وهي سخرية تسبح كإشارات، في جهاز شيلا العصبي. كأنما الغاية تفكيك العالم المحيط بها أو تحويله ألعاباً، بعصا سحرية، ومن ثم تلوين كل لعبة على حدة. لا تقيم الفنانة وزنا لأي نوع من “الرسميات” أثناء إجراء المقابلة، لكنها تحرص على تقديم إجابات تستوفي السؤال حقه. المكان الوحيد الذي تعترف بصلاتها الوثيقة معه، هو الإنترنت. فهي تقيم رقميا، من خلف شاشة الـ”فايسبوك”، أو المواقع الفنية، أو المدوّنات التي تتصفحها. غير انها لا تنكر تأثرها بمناخات المدن التي تزورها أو تقيم فيها موقتا. تقول:
– السؤال عن التبادل بيني وبين المدن، جيد. لأن عملي يرتكز على التواصل. وحين أتكلم عن التواصل هنا، فأنا أعني التواصل الافتراضي، والتواصل المديني الإسمنتي. هذا ما افعله. دعيت لكي أقيم هذا المعرض في بيروت، بأسلوب سردي. الأمر يجعلني لا أنام ليلا. حيز السرد شديد الإتساع والإختلاف والذاتية. حين يستقل المرء طائرة إلى بيروت، فهناك الكثير من القصص التي يحملها معه وقد لا تتقاطع مع اهتمام ايّ منا. حتى عندما تقطع شارعا مثلا، فإنك تجد قبالتك العديد من القصص والمرويات لا تشبه بعضها، وهي قصص متنوعة. ولا تشترط ذهابك إلى تشيلي مثلا أو البرازيل او إلى دولة أخرى لكي تدرك الإختلاف في مرويات الأشخاص وحكاياتهم. الامر رهيب، وفي إمكانك أن تجده حتى ضمن أفراد العائلة الواحدة في المنزل نفسه. أنا أهتم بإظهار هذه التعقيدات والإتجاهات النفسية، كشعور الفرد بالفوقية او الدونية. أهتم بالحالتين. طريقة ارتداء الملابس، كيفية تعامل الناس بعضهم مع البعض، الفن المعماري وتنفيذه، الموضة، الإعلام… الخ، قضايا ومسائل تثيرني لأعمل عليها وأحاول التبحر فيها. صديق لبناني يقول لي إن اللبنانيين لا هوية معينة لديهم، لكنني لا أوافق على هذا. على العكس، فأنا أرى اللبنانيين منعتقين في هويات عديدة، يومية، ونفسية، وهي ليست في الضرورة جغرافية. لبنان بلد تعددي، وهناك في داخل كل واحد هنا، هويات متعددة، الأمر يدل على الثراء النفسي. اللبنانيون والبرازيليون لديهم أدوات للعيش في المجتمع المعاصر، أكثر مما لو كان لديهم فقط قصة واحدة، أو اعتبار واحد للهوية، لا يمكننا العيش من دون “هويات” وليس هوية واحدة. إشكالية كبرى أن تحدد المرء بهوية محددة. ليس هناك أمر يدعى: هوية واحدة. زوجي أنثروبولوجي، ويعجبني مثلا ما يقوله في شأن الهوية. يشبّهها بنوع من النباتات المائية البرازيلية التي تسير مع التيار عادة، حاملةً جذورها معها. إنها جذور طافية، تنقلها معك كيفما يجب. مسألة تعددية الهوية لا تلزمك اقتلاع جذورك من تربتها.
في نوفمبر الماضي، أقامت شيلا أول معرض تجهيز، كان عبارة عن خيمة، شيِّدت في الباحة خارج صالة الغاليري. لعبت أولا على التناقضات بين المباني الفاخرة والخيمة، التي هي مكان بدائي للعيش. وقد حرصت على أن يكون مناخها حميميا. فالغاية أن يستثير العمل أفكار الزائرين وأهواءهم، ما يحملهم على التعبير عن ردود فعلهم. تقول:
– كان بعض ردود الفعل غريبا جدا، وقد سئلت أسئلة محرجة، فأنا الموجودة في الخيمة. فقط. وحين يدخل الشخص، فقد يظن أن هناك إمكاناً لإقامة علاقة معي، أو يظن أنني عرافة. أحدهم يخبرني بمشكلة شخصية إجتماعية أو نفسية. التجهيز الذي أقيمه هنا، سيكون ضمن معرض فوتوغرافي “سردي” لمجموعة من الفنانين، لكنه مستقل إلى حد ما. عنوان العمل ككل هو “استدعاء اللقطات”. أما عنوان عملي فهو “تاريخ المؤخرة/ محاكاة جيمي دورهام”. جيمي درهام هنا، لأنني اولا أحب أعماله، وهو فنان شيروكي، واهتماماته تصب في معالجة موضوعات المرحلة ما بعد الإستعمارية، وهذا ما يتقاطع مع اعمالي كذلك.
شيلا التي تتنقل كثيرا، ترى في الإعلانات دليلا على القوة والتحكم بالمجتمعات، والإشكالية بالنسبة اليها تبرز عبر الأفراد الذين يحاولون، في كل مجتمع، أن يعبّروا عن ذواتهم، تحت عناوين تعريفية. منزلة الفرد تتغير وتتأثر حكما بالسلطة “أنا الموظف، أنا ربّ العمل، الأستاذ، الطبيب، أنا الكاتب، التاجر… إلخ”. التعاطي مع الناس كأنهم ظواهر أمكنتهم، وزمنهم، في مقاربات سردية، هو ما يثير اهتمام الفنانة البرازيلية إلى حد بعيد. تقول:
– الناس بالنسبة اليَّ يقفون خلف خياراتهم. على الناس أن يشاركوا في العمل.
تعتبر شيلا أن الناس جزء أساسي من العمل. التواصل والإحتكاك بين الأشخاص وبين عملها هو شرط لإتمام العمل مهمته. تقول:
– في تجهيزي الاول (تشرين الثاني 2010)، راقبت مواقف الزائرين وردود أفعالهم، وقد اختلفت في ما بينها. وصل الأمر بإحدى الصحافيات أن كتبت أنها لم تتأثر مطلقا بعملي، وأنه كان عليها أن تذهب لتناول الشوكولا في حفل الافتتاح بدلا من مشاهدة عملي. أعتقد أن هذا يعكس المسافات التي تقف عندها كل مخيلة من العمل. التواصل مع الآخرين بالفن، لا يعني في الضرورة قبولهم بما تقول. رفضهم أو استياؤهم أمر وارد أيضاً، وهو جزء من اللعبة والإستفزاز. نعيش في عالم لا نعرف ماذا يحدث فيه، لكن علينا أن نكون مطلعين على الأمر. في التجهيز الذي أقدمه، أعمد إلى خلط سرديات لا تتقاطع على الإطلاق.
مازن معروف
النهار