صفحات ثقافية

قدم ملاحظاته حول الرواية والواقع فواز حداد: تبقى الحياة هي المعين الأوحد للرواية

null
أنور بدر
دمشق ـ ‘القدس العربي’ في ندوة الاثنين الأدبي من كل شهر والتي يقيمها المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، قدّم لنا الروائي السوري فواز حداد من خلال بضع ملاحظات قراءته للعلاقة بين الرواية والواقع باعتبار أن ‘حياة الكاتب في هذه الأيام لا تختلف عن غيره، ومن الطبيعي أن تكون اقل إثارة من كتاباته، وإن حاول أن يعطيها أبعاداً إبداعية، تدور في جوهرها وخباياها حول تأمين وسائل العيش، مع أن أفكاره تسرح في أرجاء العالم. المأثرة الوحيدة هي المحافظة على كرامته، وعدم لجوئه إلى أساليب لا تليق بالقيم التي يحملها كإنسان وككاتب’.
انطلق الكاتب من تجربته في رواية ‘الولد الجاهل’، حين قرر الروائي الشاب أن يوقف تدفق خيالاته وأوهامه الذاتية، ليبدأ الكتابة عن مآسي المجتمع، بعد أن عثر في أرشيف وزارة الداخلية على محاضر استجواب وملفات تحقيق أبطالها حقيقيون: باعة جوالون، شرطة قساة، موظفون مرتشون، موقوفون بلا سبب، ومساجين أبرياء، وقصص من صميم الواقع، فالكتابة لا تنفصل عن الواقع عموماً، ‘بل وقد يبدو العيش لهؤلاء المستغرقين في لعبة الكتابة مجرد تجارب قابلة للاقتناص، أو مادة خام غنية يمكن الاستفادة منها في الكتابة، …. ويجوز القول، إن القصص مبذولة في الحياة، ومن هناك تجد طريقها إلى داخلنا، ونحن مجرد أننا نستدرجها إلى الخارج’.
بالمقابل يعترف حداد أن الخيال سيطر بقوة ‘على الرواية والسينما، وبالغ بتهويماته فانحط في المسلسلات التلفزيونية الفانتازية المحلية’، ويضيف ‘أليس الأدب مديناً للخيال بأبرز تجلياته الأخيرة في روايات أمريكا اللاتينية؟ ألم يكن سحرها الرد المفحم على الرواية الواقعية بصيغتها الاشتراكية؟’
لكنه بعد استفاضة في شرح إشكالية الواقعية الاشتراكية التي تحولت إلى مجرد تعليمات وإرشادات وضعتها على النقيض من الخيال والحلم اللذين ولـّدا الشعور بالعدالة وحلم البشرية بالمساواة. نراه يوضح أن ‘ما ينساه الروائيون الذين يؤمنون بالخيال وبقدراته الخارقة، أن الحياة هي المعين الأوحد للرواية بحكم ما تنطوي عليه من فوضى هائلة من اختلاف الطبائع والمطامع والمشاعر والإرادات والتطلعات، فوضى لا تكف عن توريط البشر بالحب والأخطاء والخطايا والنزاعات والضغائن’،
مضيفا أنه ‘حتى عندما ترتد الرواية نحو التاريخ، فليس للاختباء فيه، أو الهروب من الحاضر، أو الحنين إلى الماضي فقط، وإنما بشكل رئيسي الاستجابة لتساؤلات يطرحها الواقع، لا يمكن العثور على إجابات عنها إلا في التاريخ’.
ويخلص الروائي فواز حداد إلى نتيجة أو تعميم قد يبدو مفاجئا للبعض، إذ ‘ لا تبدو حتى الآن الأشكال والتجارب الروائية التي ظهرت منذ مطلع القرن العشرين حتى الآن، أي طوال قرن من الزمن أكثر من محاولات جريئة أسهمت في تثبيت دعائم الرواية الواقعية ذاتها. ومن المفارقات والمثير فعلاً أن جميع التجارب الروائية الناجحة، التي أثبتت مكانتها في تاريخ الرواية وفعاليتها في مضمار الفن الروائي، قد أضيفت لحساب الرواية الواقعية سواء تيار الوعي أو الرواية التي تبنت أفكار ومفاهيم الفلسفة الوجودية والتحليل النفسي الفرويدي، والرواية الجديدة الفرنسية والواقعية السحرية، كذلك ما دعي بضد الرواية. هل يستطيع روائي في العالم أن يُهمل تلك الذخيرة الفاتنة؟ كل هذا أصبح في رصيد الرواية الواقعية’.
وإن كان حداد يعتبر أن الرواية التي تذهب إلى الواقع ليس بقصد أن تحاكيه وإنما ‘كي تتكهن حقيقة البشر في الزمن، وتستخلص العظمة والسفالة، الجنون والحكمة، السقوط والنهوض… وأيضاً إلى أين يمضي هذا العالم؟’.
هذه المسائل مجتمعة شكلت مسوغات تجربته الروائية الأخيرة ‘عزف منفرد على البيانو’ ومبرراً لاستمرار نقده لموضوعة الفساد أيضا.
أضاف حداد في الحوارات التي أعقبت المداخلة أن’الرواية العربية لم ترق إلى مستوى الرواية الأوروبية، وبالتالي النقد لم يرق إلى مستوى النقد الأوروبي، وهناك رؤية سطحية للرواية لايمكن الوثوق بها، لأنه لم يتكون لدينا حركة نقدية تستوعب ما يكتب وتحلله تحليلاً موضوعياً، فالناقد ليس قارئاً ممتازاً فحسب، بل إنه الرجل الذي يعمل على خريطة هائلة، تحتوي على الأدب والحياة معاً.
كما أعاد التذكير بانتقاداته القديمة بخصوص الصحافة الثقافية، داعيا كتابها للتحلي بالكثير من التواضع إزاء الأعمال الأدبـــــية وعدم التــورط في إصدار أحكام قاطعة وجائرة، أو تقريظية منحازة.
‘وحول تقنيته في رسم الشخصيات يعترف بأن الإنسان ليس ما يقوله فقط، وإنما ما يفكر فيه أيضا، وما يدور في داخله من حسابات ونوايا وأحلام وتوقعات، نحن للأسف مضطرون لمواجهة السلطات السياسية والاجتماعية’بالتقية والأكاذيب، الكذب سلاح يشكل حماية لنا من تهديدات الحياة اليومية، نتخفى وراء زيف مظهرنا، بينما حقيقتنا تربض في داخلنا، ومع الزمن تصبح حقيقتنا هي وجهنا الزائف، لذلك نجد أن المونولوج الداخلي هو المهيمن على الشخصيات الروائية، كونه الأصدق تعبيراً عنها سواء سلباً أو إيجاباً.’
وفيما يخص الأجيال الروائية في سورية يقول: إن أدب الرواد لم يخلُ من الجمال والفن، وأن جيله لم يضف إليهم شيئاً كثيراً، هؤلاء الكتاب اختاروا الطريق الصعب وليس السهل، وقد جاؤوا إلى الرواية من مسالكها المعقدة وطروحاتها المتشعبة وإشكالاتها الفنية ليكتبوا رواية مختلفة تتشاكل مع عصرها، ولولاهم لما استطعنا كتابة روايتنا، فنحن ما زال بوسعنا التعلم منهم حتى اليوم، ومن المؤسف أن الروائيين الجدد يستهينون بتجربتهم، يعتقدون أنهم مدينون للمترجمات، فيدورون في فلكها، طبعاً الروايات المترجمة قدمت لنا تنويعاً على الموضوعات وإمكانات إضافية وموضوعات متحررة، وجعلتنا ندرك مدى تقصيرنا.
وذكر ضمن خارطة الرواية السورية اليوم أسماء هامة (نبيل سليمان، خيري الذهبي، محمد أبو معتوق، ممدوح عزام، خليل الرز، نهاد سيريس، فيصــل خرتش، إبراهيم الخليل…..) وهناك غيرهم، لا يقل جهد أحدهم عن الآخر، وهو السعي لكتابة رواية ترضيهم أولاً. أما الجيل الذي دخل الساحة منذ سنوات، فهو يستنكــــــر وصف نتاجهم بالـ ‘الرواية الجديدة’، فهم يسيئون إلى أنفسهم إذا اعتقدوا أنهم يجترحون المعجزات بتنكرهم لمن سبقهم، لا سيما وأنهم لم يتمتعوا بعد بالنضج الكافي. ما يثيرونه من ضوضاء لا يفيدهم، بالعكس يؤذيهم، والقراء لن يفوتهم أن تلك الجعجعة لا تكافئ هذا الطحن.
وإذا كانت الرواية تطرح أسئلة الراهن فأين تكمن الإجابات؟
هنا يعترف حداد بأن كثافة الأسئلة باتت أكبر من قدرتنا على البحث عن إجابات عنها، يومياً نتعثر بإشكالات تطرح نفسها علينا، تتراكم من حولنا، ومن حسن الحظ أنها مترابطة، لو استطعنا الإجابة عن سؤال واحد منها، فسوف نغلق عشرات الأسئلة. ربما وجدتُ بعض الإجابات الشخصية، لكنها ليست يقينية. الكتابة هي الخوض بما أشكل علينا، ومحاولة الإحاطة به، نحن نحاول، و قد نفلح. لكن عموماً، ليست ثمة رواية تمتلك النضج وضعت حلولاً طويلة الأمد وناجعة، هذه ليست مهمتها، قد تشي لا أكثر. ولن نستغرب من أن هناك روايات أعلنت عجزها، وهذا سرّ امتيازها وسرّ خلودها.”””
وحول اختياره التصدي لشريحة المثقفين، يقول: لأنني شئت أم أبيت أنتمي إليهم. وهذا ما يجعلني أتحرك بينهم’بمعرفة وحرية أكبر، دون التقول عليهم. عدا أننا نحن المثقفين، يجب أن تكون لنا رؤيتنا الناقدة. هذا من دافع إيماني بالثقافة، كعملية تساهم في التغيير. أما بخصوص السؤال عن الخطوط الحمراء، فقد أوضح حداد أنها لا تأخذ من تفكيره حيزاً كبيراً إلا إذا تقاطعت مع هواجسه الداخلية. ليس ثمة مشكلة مع الرقابة، ربما لأنها متبدلة ولا معايير واضحة لها، وتختلف من رقيب لآخر. في حين الرقيب الداخلي هو الأشد رسوخاً وإقلاقاً، ويضيف الكاتب: إنه نحن بكل مخاوفنا وضعفنا وعجزنا، كذلك التقاليد الموروثة والنواهي العمياء والرواسب الآسنة والمخلفات المتبقية والشلل اللاإرادي. هذا ما أسعى إلى التغلب عليه، لكن ليس قبل أن أفهمه.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى