تنافر أو تكامل: الأطوار الثلاثة لفعل الاقتصاد في السياسة
علي الشهابي *
لا شك في أن السياسة والاقتصاد مستـقـــلان نسبياً عن بعضهما، لكن هذا الاستقلال لا يصل بهما إلى حد التناقض حتى لو بدا كذلك. فهناك قانون عام يحكم العلاقة بينهما، ومن مواصفاته أنه ليس ثابتــاً بل يتغير بالتغير البنيوي للمرحلة التـــي يمر بها المجتمع العالمي. ومنـــذ فجــــر الرأسمالية مــــرت العلاقــــة بينهما بثلاث مراحل مختلفة بنيوياً، كان فيها الاقتصاد هو الدينمو المحرك. ما يعني أن العلاقة بينهما أقرب ما تكون إلى علاقة الشكل بالمضمون طالما أنه لا مضمون بلا شكل، وطالما أن تغير المضمون من شأنه أن يفضي إلى تغير الشكل.
فالأساس الذي قام عليه القانون في المرحلة الأولى، التي بدأت منذ فجر الرأسمالية وانتهت مع الحرب العالمية الثانية، قومية رؤوس الأموال. هذا الأساس دفع الأمم المتطورة إلى سياسة التعادي والحروب في ما بينها، وفي الوقت ذاته إلى استعمار البلدان المتخلفة. وفي المرحلة الثانية، مرحلة الحرب الباردة، ومع بداية تبلور رأس المال المالي، صار رأس المال القومي في المراكز المتطورة عابراً للقوميات في ما بينها في شكل رئيس. ولأن هذه الأمم هي الأهم في عملية الإنتاج على المستوى العالمي، والمسيطرة عليها، اصطلح على تسميته عالمياً؛ لكن الاقتصاد لم يكن كذلك فعلاً. فالتبادل التجاري بين المراكز والكتلة السوفياتية والصين كان محدوداً، أما النشاط الاقتصادي الرئيس فكان بينياً في كل كتلة. ولهذا يقول هنري ليو، رئيس مجموعة الاستثمار الخاص المتمركزة في نيويورك «لم تكن هناك تجارة عالمية أثناء الحرب الباردة، فاقتصادا الكتلتين المتصارعتين أيديولوجياً كانا منفصلين تماماً».
على هذا الأساس الجديد، «عالمية» رأس المال، أخذ اقتصاد المراكز يتطور أثناء الحرب الباردة. وبالتالي، تغيرت السياسة العامة للمراكز إزاء بعضها وتجاه الأطراف:
1- على صعيد المراكز: كفّ العداء القومي بين الأمم المتطورة عن كونه سياستها، لتحل محله سياسة ترتكز إلى الوئام والتنسيق والتفاهم بالتوازي مع صيرورة بلدانها شيئاً فشيئاً كما لو أنها ساحة اقتصادية واحدة. صحيح أن أوروبا الغربية صارت بالفعل ساحة اقتصادية واحدة من خلال السوق الأوروبية المشتركة، إلا أن العلاقات الاقتصادية بين المراكز لم تبلغ هذا المبلغ. ومع ذلك تم تدريجياً إزالة الكثير من العوائق أمام انتقال مجمل رؤوس الأموال وعوامل الإنتاج، هذا الذي أرسى الأساس لارتقاء العلاقات السياسية في ما بينهم.
2- على صعيد الأطراف: بعدما ترسخت علاقة سيطرة – تبعية بين المراكز والمستعمرات، هذه التي كان من منطقها أن تزيد المتطور تطوراً والمتخلف تخلفاً، صار الاستعمار المباشر نافلاً. ولهذا استقلت كل البلدان المستعمرة تباعاً منذ بداية الحرب الباردة.
على رغم هذا االتغير السياسي وذاك ظل القانون الاقتصادي العام في مرحلة الحرب الباردة، ناظم سياسة المراكز ومحركها، على حاله من زاوية استمرار الإنتاج في شكل رئيس في المراكز والتسويق في كل أرجاء المعمورة.
أما مع انتهاء الحرب الباردة، فانقلب قانون مرحلتها إلى ضده: بعدما أيقن رأس المال والبشر، إثر سقوط «المعسكر الاشتراكي»، أن الحياة المعاصرة للرأسمالية، ولها وحدها، سرعان ما فتح الباب واسعاً أمام التكامل بين حاجات رأس المال والغالبية العظمى من البشر، وخصوصاً في بلدان العالمين الثاني والثالث. صار من مصلحة رأس المال أن يهجر المراكز للاستثمار في الأطراف لأن ربحه فيها أكبر؛ ومن مصلحتها توفير المناخ الملائم لاستثماره فيها طالما أنها من خلاله توطن التكنولوجيا وتؤمن فرص العمل لمواطنيها. بهذا التكامل صار التطور اللامتكافئ يفعل فعله لمصلحة الأطراف، ولهذا صارت وتيرة تطور تركيا وأوروبا الشرقية والصين والبرازيل والهند وبلدان جنوب شرق آسيا أعلى من وتيرة تطور المراكز.
هذا الانقلاب في القانون يؤشر إلى استنتاج نظري يمكن تكثيفه بالقول «في ظل الحرب الباردة كان العائق أمام تطور البلدان المتخلفة موضوعياً. فمصلحة رأس المال في المراكز كانت تتطلب العمل على إدامة علاقة سيطرة – تبعية بين المراكز والأطراف، ولهذا كانت سياستها تجاهها تتلخص بعدم تمكينها من تمثل أسباب التطور التي من شأنها أن تفضي على المدى البعيد إلى التماثل مع المراكز. أما في ظل المرحلة الحالية، فبات العائق ذاتياً». ما يعني أن المراكز كانت هي المسؤولة عن تخلف البلدان المتخلفة أثناء الحرب الباردة وقبلها، أما الآن فصارالمسؤول عن استمرار تخلف البلدان التي لا تتطور هو حكوماتها في شكل خاص. هذا هو التغير السياسي الرئيس الذي طفق يتبلور مع انتهاء الحرب الباردة، والذي تتجلى انعكاساته من خلال:
1- سياسة أوروبا الغربية تجاه الشرقية، وتركيا. فقد ضمت معظم بلدان الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي الذي تحكمه قوانين اقتصادية واحدة، سرعان ما ستفرّخ قوانين عمل واحدة. أما تركيا فتم تحرير التجارة معها منذ 1992، وباتت عضواً مرشحاً للاتحاد الأوروبي.
2 – التواقف interdependence بين المراكز والأطراف. فالمراكز ما عادت قادرة على مواصلة تطورها إلا بتطوير الأطراف، بينما الأخيرة عاجزة عن التطور إلا بالتكامل مع الأولى. فتطور هذه بات مشروطاً بتطور تلك، والعكس. هذا التواقف يتجلى عبر فعل رأس المال العالمي في تطوير الرأسماليات النامية التي شرعت تتطور.
وفي المقابل عبر الدعم المالي الذي تقدمه الصين للولايات المتحدة على أمل إخراجها من أزمتها الاقتصادية، التي تضررت منها الصين أيضاً. فجراءها انخفضت صادراتها بنسبة 17.5 في المئة في كانون الثاني 2009، وتراجعت وارداتها بما يزيد قليلاً عن 43 في المئة. وتقول الحكومة الصينية إن 20 مليون عامل فقدوا وظائفهم، أما «أخبار آسيا» فتؤكد أن العدد الحقيقي يفوق الثلاثين مليوناً.
ما قيل أعلاه يوحي أنه ينقض الفرض لأن السياسة تبدو فيه كما لو أنها تابعة كلياً للاقتصاد، لكنّ هذا ما يبدو. أما الحقيقة فإن فعل الاقتصاد يقتصر فقط على قيامه بعكس الاتجاه العام للسياسة. إذ كما أن قيام المراكز بتصنيع بعض بلدان العالم المتخلف أثناء الحرب الباردة (كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة، وبقية «النمور الآسيوية» في ما بعد) لا ينفي القانون العام لسياستها (عدم تصنيع الأطراف) فإن إحجامها الآن عن الاستثمار في «البلدان المارقة» مثلاً لا ينفي القانون الاقتصادي للمرحلة الحالية المتمثل بـ «التواقف». هذه هي الحال مع كل قانون، حتى المتعلق بدرجة غليان الماء، هذا الذي يعبر عنه بالقول «لكل قانون ميْلٌ ملازمٌ يعاكسه»، أو «لكل قاعدة استثناء، لا ينفيها… بل يؤكدها».
* كاتب سوري.