ما وراء سياسة تصفير المشاكل
محمد جمال باروت
تعبّر سياسة «تصفير المشاكل» التي تتبعها حكومة حزب العدالة والتنمية على مستوى المنظور البعيد عن رؤية إستراتيجية جديدة لموقع تركيا في محيطها الجيو- سياسي القريب المضطرب، وتفترض هذه السياسة إحلال تعاون إقليمي فعال متعدد الأطراف والجوانب يحل مكان «العقد» السابقة التي تحكمت بعلاقة تركيا مع جوارها، والتي كان لتركيا مع كل دولة منه «مشكلة» معينة ذات طابع «قومي». وتنتهج حكومة حزب العدالة والتنمية في هذه السياسة منهجاً فعالاً أثبتت التربة التاريخية للتنظيمات الدولية فعاليته، وهو منهح التكامل الذي يرسي واقعاً موضوعياً لا يسهل تراجع أي دولة من دول الإقليم عنه.
لكن سياسة «تصفير المشاكل» تبدو في وجهها الآخر سياسةً داخليةً في مرحلة تسارع وتيرة تحول تركيا الجمهورية إلى مرحلة ما بعد الكمالية التي كان تاريخها «زاخراً» بتلك المشاكل مع دول الجوار من جهة أولى، ومع داخلها «المقوْمن» وفق معايير النمط الكلاسيكي للدولة-الأمة من جهة ثانية. تتمثل هذه السياسة على وجه الضبط بما أطلق عليه اسم «المبادرة الديمقراطية». فليست هذه «المبادرة» في منظور معين إلا الوجه الداخلي لسياسة «تصفير المشاكل» الإقليمية.
وعلى الرغم من محاولة إظهار السياستين في مظهر مستقل عن بعضهما، إلا أنهما مترابطتان أشدّ الترابط. فالمشكلة الكردية التي ترافق نشوءها مع قيام الجمهورية، وتفاقمت بعد ذلك لتغدو أخطر مشكلات الجمهورية، ظلت هي المشكلة الكبرى التي لم يتم التمكن من حلّها، بينما تمّ داخلياً حل جزء كبير من المشكلة العربية في تركيا، وهي المشكلة المتولدة عن عملية ضم لواء الاسكندرون (1939) إلى الجمهورية التركية كولايةٍ تركيةٍ خالصةٍ.
لقد أحرزت سياسة «تصفير المشاكل» تقدماً سريعاً وملحوظاً مع سورية أخذت فيها هذه السياسة شكلها الأعلى، وهو شكل التكامل الإستراتيجي البعيد المدى الذي يعد الاقتصاد السوري، ومناطقه الأدنى تطوراً في مؤشرات تنميتها البشرية في المنطقة الشرقية من سورية بفرص نمو اقتصادي جديدة، ويوجد من خلال مبادلة التعريف القومي لنهر الفرات باستثمار سورية لمياه نهر دجلة، حلاً معقولاً نسبياً لمشكلة الشحّة المائية في سورية خلال العقدين القادمين. فمياه دجلة تشكل توازناً حقيقياً في ميزان الموارد المائية السورية الشحيحة، يمكنها أن تعوّض نسبياً عن تحكم تركيا بالمجرى الأعلى للفرات.
في كل الأحوال، ستقطف سورية، إن تمكنت من استثمار هذه الفرصة، الثمن الإيجابي في رفع معدلات نموها الاقتصادي، وربطه بعملية التنمية، ولاسيما في الإقليم الأكثر فقراً من أقاليمها، وهو إقليم الجزيرة.
لكن ستجد سورية في المقابل نفسها عاجلاً أم آجلاً في قلب المشكلة التركية الداخلية الأخطر والأكبر، وهي المشكلة الكردية. وصحيح أن سورية تمتلك خبرةً طويلةً مع هذه المشكلة، ومحاولة توظيفها إبان التوتر السابق في العلاقات السورية- التركية في التسعينيات. لكن هذا شيء، واحتمال تحولها إلى طرف مباشر في المشكلة الكردية التركية الداخلية شيء آخر.
فليست حكومة حزب العدالة والتنمية في النهاية جمعية «خيرية» لتقديم الهبات إلى دول الجوار «الإقليمي»، بل تفكر بعقل الدولة، ومصالحها القومية الإستراتيجية العليا. وهي تعمل من خلف سياسة «تصفير المشاكل» وإحلال تعاون إقليمي فعال مكانها إلى تحقيق إنجاح «المبادرة الديمقراطية» في الداخل التركي. وهذه المبادرة وإن كان شكلها عاماً يتعلق بالانفتاح الديمقراطي العام، لكن جوهرها هو المشكلة الكردية، وتحديداً مشكلة حزب العمال الكردستاني، وبشكل أكثر تحديداً ووضوحاً مشكلة مقاتلي الحزب في معسكر مخمور في شمالي العراق.
الواضح أن سياسة «تصفير المشاكل» تندرج في سياق ترتيب إقليمي متعدد الأطراف لتطويق هذه المشكلة وحلها، يقوم على حل المشكلة الكردية في العراق بمنطق «الفيدرالية» وحلها في تركيا بمنطق «المبادرة الديمقراطية». في إطار المنطق الفيدرالي يقع حل مشكلة معسكر مخمور بمقاتليه الذين يقتربون من ( 12) ألف مقاتل في إطار وفاق تركي- عراقي- أميركي منهجي ومتكامل، لكن سورية ستجد نفسها أمام «المباغتة» الخفية في «عطاءات» حكومة أردوغان لها، وربما وجدت نفسها أمامها الآن، وهي أن أنقرة تريد منها أن تكون طرفاً في الحل مادامت قد أيدت «المبادرة الديمقراطية»، أي إدخالها في صلب حل المشكلة التركية الداخلية، فهناك ألوف عدة من مقاتلي معسكر (مخمور) وباتوا الآن يوصفون بـ«اللاجئين» يتألفون من الأكراد السوريين الذين انخرطوا في عمليات حزب العمال الكردستاني في الثمانينيات والتسعينيات. ووفق ما هو متوقع في منطق حكومة أردوغان، فإن على سورية أن تقوم باستقبال هؤلاء و«دمجهم» أو «استيعابهم»، بينما تختص تركيا بأكرادها. وأن لمشروع تنمية المنطقة الشرقية في سورية وظيفة تكاملية سياسية وأمنية مع مشروع (الغاب) في جنوبي الأناضول، أو شمالي شرقي سورية. ربما شكلت مسألة معسكر مخمور «مفاجأة» غير متوقعة بهذا الشكل للسوريين. ولذلك فإن مسار التفاوض غير «المرئي» حول هذه المشكلة سياسياً يتم على مستوى أردوغان نفسه، وليس على مستوى أوغلو الذي يسيّر سياسة «تصفير المشاكل». وهو مسار يحتمل إدخال سورية في قلب المشكلة الكردية التركية، فلكل شيء في علاقات الدول ثمن.