صفحات الشعر

“أنا كرديٌّ جَسُور”، كان يقول عندما صدمتهُ الشاحنة في الثانية ليلاً

null
جولان حاجي
(إلى دنيز لازكين)
لم أرَ وجهَهُ البهيَّ، مطلعَ تشرين الثاني الماضي،
شمسُ الخريفِ تنزّه شُقْرةَ نمورِها في شعره
على كتفيهِ قميصٌ بلونِ ندبةٍ قديمة
وبين أسنانهِ لبُّ خَسَّةٍ أصفر وغضّ .
لا أجرؤُ الآن على الخروج.
وساوسي مبثوثةٌ كالجواسيس.
في هذا السكونِ الذي لطالما ارتقبتُه، بين أشجار فلفلٍ هرمة، وراء عكاكيزِ السرو، أنصتُ لهبوطِ الغسق، أنصتُ لليلِ الذي يتراكمُ حولي. البرد. الظلام. النجومُ تلمعُ على الطحالبِ الناعمة.

كان ماسحَ أحذيةٍ مخموراً،
يتندَّر بقندلفتٍ يلازمُ الحانةَ الطينية، طوال جنونِ شباط،
يثملُ بنقودِ القبورِ التي يحفرُها،
يُهرع سكرانَ – بالصَدَقات – إلى الجنوب
كلما كبَّرتْ حنجرةُ الأحدب في منارةِ الجامعِ الكبير
فيتسمّرُ العابرون هنيهةً في سوقِ الخضار
ويقرأ بعضهم الفاتحةَ على عَجَل.

لم أسمعهُ، بعد طولِ مكوثٍ هنا،
يقولُ: لطالما أحسستُ بأني لستُ هنا، لستُ من هنا ولستُ هنا.
في لحظةٍ حرِجة سأُتهَم بالسرقة.
لم أسمعْ خطواتِه في الفجر
تهبطُ إليّ درَجاً حجريّاً،
سعالَهُ المتقطّع،
تحرُّشَه بامرأةٍ سافرَ بعلُها إلى الخلجان.
لم أرَ يدَهُ التي نزفَتْ
حين سحبَ بالحبالِ جيب وازاً معطَّلاً.
لم أرَ مزقَ لحمهِ مسقوفاً بأرضٍ قصيّةٍ هناك،
الترابُ تنقشُه أظلافُ الماعز
المقبرةُ تستأنسُ بنُباحٍ ضالّ مديد،
وريحُ الليلِ تكوّمُ حجارةً خفيفةً بيضاء
كغيومِ الربيعِ فوق منزلٍ قذر.

عليَّ أن أصدّقَ، إذن، هذه هي الحياةُ الوحيدةُ الممكنة.
لأقلْ هذه المرة، ناهضاً عن الصخرةِ التي جمَّدتْ مؤخرتي
وعيناي أقربُ إلى النجمةِ من هذا الجبلِ الشاحب:
ما يُثقِل كاهليَّ الخوفُ، لا الأسى ولا الحنينُ.
قُتِل الفتى. فماذا عنّي؟
مخالبُ الأفكارِ الغائصة في قحولةِ الأيام،
الأكاذيبُ التي أضنتني،
الوجوهُ التي احتكَرتْ، منذ سنين، كلَّ الكوابيس؟
لم يصادفْ – أينما سار – شيئاً ليحميه.
قُدّام أبوابِ الأرض
همسوا في أذنيهِ: يا للقناعِ الغريبِ في متحفِ الجنة!
ولا شيءَ خفّفَ عارَ العودةِ إلى مسقطِ الرأس – العارَ الشخصيّ، الهزيمةَ الشخصية.
لا شيءَ فرَّقَ وجهَهُ عن وجهي؛
لا هذه القسماتُ التي تسِمُ لصّاً أو قاتلاً عديمَ الخبرة،
لا تجاعيدُ الشتاءِ حيث ننتظرُ الغيمَ، ننتظرُ الضوءَ والريح،
ولا هذا اللونُ الرماديّ كفأرٍ ميت
تأتي الكارثةُ وتنثره،
ثم يطويهما النسيانُ كمعطفٍ عتيق في نهايةِ شتاء طويل.
في غدٍ
ستواري الشمسُ ما تبقّى من ظلّهِ
حين أقفُ على هذا السفح، غريباً عن ضيائِها الرهيب.

ستحفظُه تلك الليلة بعيداً،
حيث تلمعُ عيناي قرب مخمورٍ ميت، هو الشابُ الذي قضى وحيداً،
جائعاً ومجهولاً، في بقاعٍ نائية، بين أنيابِ البرد.
لم يكُنْ ليستجديََ الغرباءَ في المواخيرِ والممرّات
إذا حلَّ ليلُ الشتاءِ ثقيلاً ولا ينتهي.

ربما استجدى السجائرَ، مثلي، في صمتٍ،
دفتراً للتذاكرِ كي يستقلَّ الباصاتِ العملاقةَ من قلبِ دمشق إلى غربها؛
حَذِراً في الصقيعِ يرتقي المنحدرَ إلى شاهقِ الضواحي:
من ذاك العلوِّ الخاطىء مراراً آثرَ المنزلَ البعيد.

ربما فرَّ من الاستراحاتِ التي تضيءُ البوادي
يلمحُ بناتِ آوى مُلْصَقةً بالدم إلى جنَباتِ الطريق
في الضبابِ الخطرِ الكثيف.

أول الآتين يتعثرُ
ومعهُ تعويذةُ العقارب
وبطاقةُ يانصيب طُويَتْ في جيبِ سترته
سيتناصفُها وأمَّه التي بغتةً هرِمَتْ.
نادلاً يتنقّلُ بين مطاعمِ بردى ومقاصفِ قاسيون
حيث يسوقُ اللهُ قطيعَ عميانهِ
تحت قمرٍ بارد
ويتهاوى الشعراءُ تباعاً
بأجنحةٍ داميةٍ في مستنقعٍ طويل.

لم أستطِعْ، كلما مرَرْتُ قربه، سوى أن أُغضي.
يغسلُ الأطباق
يمسحُ رذاذَ الشمبانيا كنجومٍ من زبد
التصقتْ بزُجاجِ السيّارات، دافِشاً السطلَ بقدمه.
لم أعُدْ أراهُ حليقاً كطفلٍ في الثالثة
يتلصّصُ من فجواتِ الأشجارِ على الشبابيك.
لم أعُدْ أراه
حين تدنو الساعةُ الثامنة لتُسدلَ أبوابَ الحوانيت
ولا مفرَّ أمام الخائفِ سوى الخروج من سجنِ حجرته.
أذكرُ مساءاتِهِ رائقةً كعيونِ الجواميس
سبابتي تعبثُ بالمفتاحِ في جيبي
والديونُ، حيثما وقفتُ، تسمّرني في أوهامي.

كم فكّرَ بالارتماءِ في ماءٍ هادئ أسود
وأصدقاؤهُ على جسرِ الرئيس
يقفون ويحدّقون بدوائرَ متّسخةٍ تتّسعُ كي تتلاشى.
لا أعرفُ كيف أو إلى أين شيّعوه
مَنْ رآه ُفي رواقِ المستشفى الحكوميّ
مَنْ سدَّدَ رشوةَ الشرطيّ
مَنْ أيقظَ الممرّضة
أيُّ الأيدي سجَّتْهُ في ثلاجةِ الموتى
أيُّ فمٍ سينعيه
بأيِّ حنوٍّ سيفتحُ القبرُ جناحيهِ الدافئين
لكنّي الآن
في عزِّ هذا الليلِ الذي يترامى بغيرِ انتهاء
بعد ثلاثِ سنين قصارٍ، هنا في دمشق،
لم أدرِ كيف أزجّيها
لا أكبرهُ في السنّ،
وحيدٌ مثلُه، ركيكُ اللسان،
مفلسٌ وبعيدٌ عن البيت.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى