الفضائيات الدينية: الانتشار والتأثير
د.خالد الحروب
مما قد يتوافق عليه كثيرون من متابعي ظاهرة تناسل الفضائيات في المنطقة العربية انتشار الفضائيات الدينية والفضائيات الغنائية وتنافسها الشديد. بتقليب “الريموت كنترول” بين أكثر من 600 قناة فضائية ناطقة بالعربية يتلاحق نوعا الفضائيات هذه بشكل مدهش ومفارق ويعرض طيفاً واسعاً من الاهتمامات. والصورة الدرامية التناقضية التي يتحدث عنها كثيرون تختزلها صورة داعية بلباسه التقليدي يلقي موعظة دينية على فضائية ما يحرم فيها الغناء والموسيقى مثلاً، تتبعها في الفضائية المجاورة لها صورة “فيديو كليب” لمغنية تتلوَّى على أنغام موسيقى صاخبة. وبين هذين الحدين ثمة طيف عريض من المادة الدينية والترفيهية التي تنقلها هذه الفضائيات تتنوع في طبيعتها، والمواضيع ذات الأولوية التي تمنح لها. ويشعر كثيرون بنوع من النقمة المعيارية على هذا الوضع، بعضهم ضد القنوات الدينية وبعضهم ضد القنوات الترفيهية. ولكن الحقيقة الموضوعية هي أن انتشار نوعي الفضائيات هذين يلبي طلباً في “السوق”، ولولا وجود مشاهدين لمعظم تلك القنوات لما استمرت. كما أن تكلفة التسيير المالي أصبحت منخفضة ويمكن تغطيتها عن طريق المردود المالي الذي تحققه معظم هذه القنوات بما يجعل منها مشروعاً تجارياً مربحاً. وبشكل من الأشكال يمكن رؤية تنوع القنوات العربية وتنوع اهتماماتها على أنه أمر إيجابي يعكس التعددية الفكرية والسلوكية الاجتماعية. ولكن من زاوية أخرى يمكن رؤية ذلك التنوع قائماً على أرضية استعدائية وإقصائية تنفي إيجابيات التعددية، وتكرس من الاستقطاب المسلكي واستقطاب “الأجيال العمرية” في المجتمع العربي. ولنا أن نتذكر هنا الفتوى سيئة الصيت التي صدرت منذ أكثر من سنة وطالب صاحبها بقتل مالكي القنوات الترفيهية.
وعلى العموم فقد صارت الفضائيات العربية حقلا من حقول الدراسة والبحث الأكاديمي بسبب اتساعها وتنوعها ومنعكساتها على المجتمع العربي وتأثيرها على البنى الفكرية والاجتماعية والسلوكية العامة. وهي كانت على الدوام حقلا من حقول الاهتمام السياسي الذي جر إليه حكومات وأحزاباً وأدى إلى قيام خصومات واحترابات واستفز قرارات حتى على مستوى الكونغرس الأميركي كما القرار الأخير ضد بعض القنوات العربية بدعوى التحريض على الإرهاب. وعن القنوات الدينية العربية والشرق أوسطية عموماً عقد مؤخراً في جامعة كامبردج، بتنظيم من مشروع كامبردج للإعلام العربي، مؤتمر هدفه التعمق في ظاهرة البث الديني الشرق أوسطي. وقد ناقشت أوراق المؤتمر التي ستصدر في كتاب بالإنجليزية والعربية مضامين البث الديني في عينة مختارة من تلك القنوات. وإضافة إلى ذلك كانت هناك بحوث في البرامج الدينية التي تبثها الفضائيات العربية الرئيسية. وإلى جانب ذلك قُدمت أوراق عن “الدعاة الجدد” وعن “الداعيات” الجدد أيضاً وورقة بحث عن تجربة الإسلاميين الأتراك في البث الديني.
وهناك أفكار عديدة جداً لا يمكن حصرها في عُجالة صحفية هنا، ولكن ثمة بعض الأفكار الأساسية التي طُرحت في ورقة التقديم الأولى للمؤتمر من قبل الكاتب هنا يمكن الإشارة إليها. أولاها موضعة الفضائيات الدينية ضمن سياق البث الفضائي العربي الأوسع وانتشارها خلال الخمس عشرة سنة الماضية والآمال والتوقعات الكبيرة التي بعثتها. وقد أمل كثيرون وتوقعوا أن يعمل البث الفضائي بشكل عام وخاصة مع زحزحته وتحديه لأسقف الحريات الإعلامية المنخفضة على المساهمة في التغيير السياسي، وتحقيق الانفتاح الفكري، ودفع شرائح جديدة وشبابية نحو العمل السياسي والإيجابية الاجتماعية. وقد تحقق جزء من ذلك بالتأكيد لكنه أقل بكثير من سقف التوقعات. وما تبدى جلياً بعد أكثر كل تلك السنوات هو أن توسعة مساحة الحرية الإعلامية لم تدفع باتجاه توسعة مساحات المشاركة السياسية أو الدمقرطة. وقد تمكنت الحكومات العربية من احتواء الظاهرة والالتفاف عليها واستيعابها. وأصبحت الفضائيات منابر لتنفيس الاحتقان والغضب أكثر من كونها وسيلة من وسائل تعميق الوعي الجمعي الذي يدفع باتجاه العمل الإيجابي الفعال. والفضائيات الدينية لم تخرج عن هذا السياق بل إن أكثرها تأثيراً تساوق مع “الوضع السياسي القائم” ولم يتبنَّ أي موقف تغييري، وقبلت قنوات دينية عديدة بشكل مباشر أو غير مباشر، أن تكون في خدمة بعض النظم السياسية، والمصادقة على شرعيتها مقابل الاستمرار في البث. وبذلك لم تُسهم هذه القنوات في تعزيز ما يُعرف بـ”الحيز العام” (public sphere)، وهو الحيز الذي تتوسع فيه المشاركة العامة للناس ويضع حدوداً للتغول على الحيز الخاص للأفراد وحرياتهم العامة. وعوض أن يُساهم البث الديني في تحديد حيز السلطة السياسية ووقف رغبتها أحياناً في توسعة نطاق سيطرتها، فما حدث هو تفادي تلك المهمة تماماً، والقيام عوضاً عنها بإنشاء “سلطة دينية” موازية تضغط على المجتمع هي الأخرى.
ذلك أن تلك القنوات وجهت “طاقتها التغييرية” باتجاه المجتمع الذي أرادت زيادة منسوب التديين فيه، وليس باتجاه السلطة السياسية. ولأن هذه القنوات الدينية حصراً، وكذلك البرامج الدينية على الفضائيات الرئيسية، مزدحمة برجال الدين والدعاة الذين يتبنون أسلوباً وعظياً وفوقياً في إرشاد مشاهديهم، فقد آلت الأمور إلى قيام وتعزيز “أبوية دينية” أو “أبويات دينية” تتنافس في إعلانها احتكار الحقيقة، وليس في إعلانها عن نفسها كجزء من كل متنوع.
مسألة أخرى ترافقت مع البروز الشديد للقنوات الدينية وخاصة بعد حرب العراق 2003 هي انتقال التنافس والصراع السني الشيعي إلى الأثير، حيث تمترست كثير من تلك القنوات في خنادقها الطائفية. فإلى جانب عشرات القنوات السُّنية هناك ما لا يقل عن 15 قناة شيعية. وكثير من هذه القنوات تبث مواد دينية “مسالمة” تُعنى بالوعظ الديني والأخلاق وسوى ذلك وتبتعد عن الشحن الطائفي. ولكن الأقلية منها والتي تتوتر طائفياً أدت إلى نقل الخلافات المذهبية والطائفية إلى “الحيز العام”. فبعد أن كانت تلك الخلافات وعلى مدار قرون محصورة في دوائر ضيقة من العلماء ولا تتعدى بطون الكتب إلا قليلا، أصبحت الآن “قضية عامة” يخوض فيها الجميع حتى الجهلاء ويتم من خلالها رسم الحدود المذهبية والطائفية الفاصلة الواضحة. وثمة أفكار وأسئلة أخرى كثيرة في هذا السياق، ولعل للحديث بقية.
الاتحاد