صفحات ثقافية

الموالد المصرية في فيلم وثائقي: اشكالية تبرير الغيبيات وفلسفة التناقضات!

null
محمد منصور
صورة تضج بالحركة والصخب… وتتراقص على وقع أمواج بشرية تتمايل فيها العقول والأرواح قبل الأجساد.
مزيج من حالة كرنفالية تختلط فيها الطقوس المسيحية بالإسلامية.. ويمتزج فيها الديني بالدنيوي… والوعي باللاوعي… والخيري بالتجاري. صورة صاخبة متضاربة، تنقل المشاهد إلى قلب الحالة الطقسية المختلطة بحلقات الذكر وصلاة القديسين ورائحة النذور، ودماء الأضاحي والقرابين، ولهفة الدعاء والانتظار على أبواب اليأس وتحت شرفات الرجاء.
تلك هي الصورة التي يقدمها الفيلم الوثائقي ‘المولد’ الذي أعده وكتب له السيناريو والرؤية الإخراجية الزميل حسين عبد الغني، مدير مكتب قناة ‘الجزيرة’ في القاهرة، وأنتجته وعرضته قناة ‘الجزيرة’ في جزأين، على مدار أسبوعين متتالين، ليكون واحداً من أبرز الأفلام التي افتتحت بها ‘الجزيرة’ إنتاجها الوثائقي عام 2010.
خارطة شعبية طقسية!
وكان حسين عبد الغني، قد قضى ما يقارب الثلاث سنوات، في إنتاج وتصوير هذا الفيلم، الذي سعى من خلاله للإبحار في روح مصر الشعبية، وتوثيق طقوس موالد أولياء الله الصالحين والقديسين من المسلمين والمسيحيين، وكانت حلقات الذكر والأغاني والأناشيد الدينية هي القاسم المشترك لكل الموالد، والتي باتت فلكلوراً شعبياً تغنى به العديد من المطربين، واستلهمته العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية وحفظته الذاكرة الشعبية المصرية.. إلى درجة أنه تحول إلى مكون أساسي من مكونات الفلكلور والفن الشعبي المصري الذي يسعى بعض الباحثين والمهتمين للحفاظ عليه وتوثيقه كظاهرة شعبية فنية تمتزج وتتفاعل فيها الفنون مع تيار الحياة.. وفرح الناس.
عشرات الموالد الكبيرة والصغيرة في مصر، سعى هذا الفيلم لتوثيقها… وهو أمر يبدو شديد الصعوبة، لأن تواريخ إقامة الموالد تتحدد وتتغير حسب عوامل كثيرة كالموروثات الشعبية وطبيعة الطقس ومواسم الزراعة وحسب التدخلات الحكومية أيضاً.
من الموالد الأربعة الكبار: البدوي والدسوقي والرفاعي ومولد الشاذلي الذي يقام على طريق الحج القديم في الصحراء الشرقية، إلى موالد آل البيت مثل السيدة زينب والحسين، ومعها موالد زين العابدين، وعبد الرحيم القناوي، ومولد أبو الحجاج في قنا، الذي يبدو مع مولد السيد البدوي في طنطا أكثر الموالد الشعبية إثارة للدهشة… إلى مقامات كثيرة مجهولة في أقاصي الجغرافيا كمقام الشيخ عويس في أحد جبال أسوان على ارتفاع خمسة كيلومترات… تتضح هذه الخارطة الشعبية الطقسية المدهشة، التي تمتزج وتتداخل بشكل غريب مع الموالد المسيحية الكبرى مثل موالد العذراء في درنكة والمحرق، ومولد مارجرجس في شبرا، فضلا عن بعض الموالد المحلية المغلقة على أتباعها، في الوراق والإسكندرية والمنيا وأسيوط.
تمازج ديني… أم تلاق شعبي؟!
وقد أظهر الفيلم بشكل عفوي وتلقائي كيفية اشتراك المسلمين في موالد المسيحيين، ومشاركة المسيحيين في موالد المسلمين… وإذا كان التركيز على مثل هذه المشاركات، سوف يوصل المشاهد إلى تلمس حالة الوحدة الوطنية التي تطبع الطقس الديني المصري في العمق، والتي تتجاوز النعرات والحواجز الطائفية… فإن الصورة التي يسوقها الفيلم تجعل هذه الطقوس الدينية، حالة كرنفالية واحتفالية شعبية أكثر منها حالة دينية تعبدية تمثل جوهر الحالة الدينية، وتشترط حضور أبناء الدين الواحد، والتزامهم بشروط وطقوس محددة لوجودهم في المكان والزمان… كما يحدث عندما يقصد المصلون المسلمون المساجد، والمصلون المسيحيون الكنائس.
وهكذا فالفيلم يقدم صورة الموالد المسيحية والإسلامية المتجاورة والمتآلفة والمتداخلة، على خلفية احتفالية شعبية، تمثل سعي الناس البسطاء للفرح والانعتاق من ضغوط وأعباء الحياة، أو البحث عن فسحة ارتزاق مشروعة ورائجة… وهو في هذه المنطقة يصور حالة شعبية اجتماعية، أكثر منها حالة دينية منفتحة… رغم اعترافنا بأن هذه الحالة الشعبية، قد تسهم بشكل أو بآخر في تنفيس حالة الاحتقان الطائفي الناجم عن حساسيات ضيقة أو أفكار استعلائية متعصبة!
رؤية تبريرية منحازة!
من الواضح أن الزميل حسين عبد الغني، قد نظر إلى ظاهرة الموالد المصرية، نظرة متحمسة فيها الكثير من الانحياز لتلك الروح الشعبية الاحتفالية، التي تأسر بمظاهرها وحيويتها من يدخل في مناخاتها وأجوائها زائراً ومستكشفاُ، فكيف بمن يأتي حاملاً كاميرا، وباحثاً عن صورة تختزل كل هذا الحراك الطقسي والاجتماعي البالغ الثراء بصرياً. لقد غلبت هذه الرؤية المتحمسة، التي كانت تتأثر باكتشافات مجهولة، ومظاهر غرائبية مدهشة في هذا المولد أو ذاك… غلبت هذه الرؤية الروح النقدية التي كان يمكن أن تحلل أو تحاكم فيها هذه الظاهرة في كثير من مواضع الفيلم، وخصوصاً على صعيد الجانب الديني… الذي جاءت محاولات تبرير مشروعيته وصحته على لسان بعض ضيوف الفيلم، مسكونة بالردود العنيفة والهجوم على وجهة النظر الأخرى، التي ترى في مثل هذه الموالد إشراكاً بالله، ومساً بصحة العقيدة والتوحيد!
وإذا كان حسين عبد الغني قد نجح في توثيق تلك الموالد كطقس شعبي قائم ومتوارث ومؤثر في عقائد وأفكار الملايين من الناس البسطاء… فإن موضوعيته في التقييم جاءت في مستوى أقل من النجاح… فاللغة الأدبية والتحليلية الراقية التي صاغ بها عبد الغني تعليق الفيلم الحي، الذي جاء – في بعض المواضع- بالصوت والصورة ومن داخل موقع الحدث… أضفت على ظاهرة الموالد بعداً اجتماعياً وثقافياً وروحياً مبالغاً فيه، وبدا أن حماس صانع الفيلم لهذه الظاهرة، جعل من إبراز أبعادها يمر عبر لغة موضوعية حيناً، وتبريرية حيناً آخر… فالموالد كما قدمت في الفيلم، تارة هي تعبير عن حالة السمو الديني الراقي في الذات المصرية، وأخرى هي نوع من الثورة الصامتة على الظلم وتسلط الحكام ونوع من أنواع الانفجار الشعبي على السياسة البغيضة… وهكذا تتوالى التعابير الأدبية، التي لا تنجح دائماً في أن تقلل من تلك الصورة الصادمة، لهذا الشطط الطقسي الذي يتنافى وأبسط مبادئ العقل، وخصوصاً على صعيد التكريس الغيبي الذي يتوسل وسائط القبول بين الخالق والمخلوق، عبر قبور ومقامات لا تضر ولا تنفع، تذبح فيها أضاح وقرابين يمكن أن تقدم في أي مكان، إذا كان الهدف منها هو التصدق وإطعام الفقراء والمساكين!
تزلف سياسي وتوافق سلطوي!
ولعل الجزء الثاني من الفيلم الذي تحرى علاقة الطرق الصوفية بالسياسة كان أكثر توازناً في روحه النقدية والتحليلية من الجزء الأول، حيث توصل الزميل حسين عبد الغني أثناء بحثه، إلى أنه إذا كانت الموالد المسيحية تنظمها الكنيسة وهي المؤسسة المسيحية الرسمية، فإن الموالد الإسلامية لا علاقة لها بالأزهر، ومن يقوم بتنظيمها هي الحركة الصوفية، ذات التأثير الجماهيري والتنظيمي الكبير… والتي تبسط سلطتها على حوالي (15) مليونا من مجموع الشعب المصري.. وأهم ما يخلص إليه الفيلم في هذا السياق، أن مقولة أن الصوفيين هم مجرد دراويش ورجال طريقة، ولا علاقة لهم بالسياسة، كما يعتقد غالبية المصريين هي مقولة خاطئة تماماً… فعلى مر العصور السياسية كان أتباع الصوفية، رقما صعبا في المعادلة السياسية المصرية. وقد استفاد منها، وتحالف معها رؤساء مصر منذ عبد الناصر، الذي وجد فيها بديلا دينياً بعد انقلابه على الأخوان المسلمين، إلى السادات الذي تحالف مع الجماعات الدينية وسمى نفسه (الرئيس المؤمن) وصولا إلى حسني مبارك، الذي يوصف بأنه أكثر الرؤساء الثلاثة علمانية… لكنه رغم ذلك لم يستغن عن الصوفية، وهم من ناحيتهم جعلوا بعض احتفالاتهم وموالدهم، في خدمة انتخاباته الرئاسية، كما قدم الفيلم تسجيلات مصورة لكثير من علمائهم وهم يقدمون خطاباً سياسياً شديد التزلف والانتهازية في مباركة عهد حسني مبارك، والاصطفاف خلفه ومن أجله!
ولعل مقولة أن (الأمن هو نحن… ونحن هو الأمن الآخر) والتي صرح بها أحد ممثلي الصوفية في الفيلم، ثم دفاع مفتي الديار المصرية عن ظاهرة الموالد، باعتبارها بديلا عن التطرف والتشدد… ثم حضور السفير الأمريكي السابق لها… يكشف بوضوح حجم التحالف الأمني والسلطوي في تكريس ظاهرة الموالد، باعتبارها مظهراً دينياً مرحباً به، ومسيطراً عليه، وقابلاً للاستثمار السياسي بلا تكاليف أخرى تذكر!
إن فيلم (الموالد) بجزأيه، ورغم إشكالية رؤيته الدعائية المتحمسة في بعض الأحيان، يمثل عملاً وثائقياً هاماً، فهو يوثق مظهراً هاماً من مظاهر الحياة الشعبية المصرية، بكل تشعباته الدينية والاجتماعية والتجارية والطائفية والسياسية… وهو يسعى لتقديم هذه الظاهرة عبر لغة حية، وشديدة الثراء والغرائبية… وإيقاع منضبط ومتوازن… يجذب المشاهد على طول الخط، ويقدم له متعة بصرية قائمة على حيوية الانتقال في الزمان والمكان والطقس والجغرافيا الدينية والشعبية في آن معا!

‘ ناقد فني من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى