‘مختارات شعرية شاملة’ لبرتولت بريشت
بترجمة أحمد حسّان في طبعة جديدة حين يضع الكاتب قلبه الشعري مكان وجهه المسرحي
ناظم السيد
بيروت- ‘القدس العربي’ تحت عنوان ‘مختارات شعرية شاملة’ (1913-1953) أعادت ‘منشورات الجمل’ نشر الأعمال الشعرية شبه الكاملة للمسرحي والشاعر والناقد والقاص والروائي والسيناريست والمنظّر والمناضل ضد النازية برتولت بريشت والتي ترجمها أحمد حسّان. وكانت هذه االترجمة صدرت سنة 1986 في ‘دار الفارابي’ في بيروت تحت عنوان ‘قصائد- برتولد بريخت’. مع ذلك لم يجرِ المترجم أي مراجعة لترجمته التي قدمها قبل ربع قرن. لقد أعيد نشر هذه المختارات الشاملة كما وردت حرفياً في الطبعة السابقة. كذلك أعاد المترجم نشر مقدمة الطبعة الأولى كما وردت رغم بعض الجوانب الخطابية والإنشائية التي وسمت تلك المقدمة، ورغم الأحداث الكبيرة التي جرت خلال تلك السنوات من بينها سقوط الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، هذان الحدثان الفاعلان في بريشت ونتاجه الأدبي الكبير. لقد أعيد نشر المقدمة الأولى، من غير أدنى إشارة في المقدمة الثانية إلى تلك الأحداث الكبيرة أو إلى سقوط مبررات بعض الكلام الذي ورد في المقدمة الأولى حول ‘ التضييق والحصار والملاحقة في تشتيت الحركة الثقافية’ أو حول ‘ أسماء الكتّاب على رأس قوائم المخربين في بلادنا’ أو حول ‘ قصف ثقافة العنف الإمبرالية’ و’ الفكر الرجعي’ وسوى ذلك من خطاب ينتمي إلى فترة تاريخية بائدة أو ظروف مرحلية ولت. والأهم من هذه الإشارة التي قد تبدو للبعض شكلانية هو عدم إجراء أي مراجعة لتلك الترجمة كما فعل عبد الغفار مكاوي الذي كان نقل بريشت إلى العربية سنة 1967، وحين أعادت دار ‘ شرقيات’ نشر تلك الترجمة سنة 1999 ـ ضمن سلسلة ‘ عيون الأدب الأجنبي’- صدّرها المترجم بمقدمة جديدة لاحظت ما طرأ من ظروف وأحداث ما بين الطبعتين، كما أعاد المترجم في الطبعة الجديدة الشغل على الترجمة السابقة، مضيفاً إليها قصائد جديدة، وفق ترتيب زمني جديد ( بالاعتماد هذه المرة على الأعمال الشعرية الكاملة لبريشت والتي صدرت لدى الناشر زوركامب سنة 1990). وقد خلص مكاوي أثناء مراجعته الترجمة الأولى إلى هذه النتيجة: ‘ أدهشتني وأخجلتني كثرة الأخطاء التي وقعت فيها’. هذا الاعتراف ذكرني بجواب الشاعر فؤاد رفقة المتخصص هو الآخر بترجمة الأدب الألماني حين سألته عن ترجمته لديوان ريلكه ‘ مراثي دوينو’ مطلع السبعينات، بالقول إنه يفكر في إعادة نشر ذلك الكتاب مع تعديل في الترجمة التي لم يكن راضياً عنها تماماً.
الحافر على الحافر
في كل حال، ينبغي ألا تحجب هذه الملاحظة أهمية إعادة نشر تلك الترجمة التي قدّمها أحمد حسّان بعد ترجمة عبد الغفار مكاوي لأشعار بريشت. فالشاعر الذي كتب ما يقارب ألفي قصيدة يستحق ترجمات عديدة إلى العربية، ولا سيما أن البعض يجهل بريشت كشاعر وإن كان يعرفه كمسرحي عمل على تقديم مسرح خاص هو ‘ المسرح الملحمي’ وفق نظرية ما بات يدُعى باسم ‘ الإغراب’. كما ينبغي ألا تعوق ملاحظة كهذه حلاوة ترجمة حسّان التي- في اعتقادي- تفوق أحياناً ترجمة مكاوي الأعلم والأخبر ببريشت. لنأخذ على سبيل المثال قصيدة ‘ إلى أمي’ بحسب ترجمة مكاوي: ‘ لما انتهى أمرها تركوها في التراب/ الزهور تنمو فوقها والفراشات ترف عليها/ هي، الخفيفة، لم تكد تضغط على الأرض/ كم من الآلام احتملتها/ حتى أصبحت بهذه الخفة’. هذه القصيدة يعيد حسّان ترجمتها بطريقة أكثر طلاوة وإن كان التشابه بين الترجمتين شديد القرب: ‘ وحين انتهت مددوها في التراب/ الأزهار تنمو، والفراشات تتراقص فوقها…/ من فرط خفتها، لم تكد تضغط التراب/ كم من العناء كلف جعلها بهذه الخفة’. أظن أن القارئ لا يحتاج إلى كثير جهد ليلاحظ رهافة الترجمة وخفتها ومتانة السبك لدى حسّان في مقابل بطء التعبير والتركيب والدوران والمبالغة في نثر الجملة لدى مكاوي ( والأمر متروك للذائقة في النهاية). لكن قارئاً متابعاً سيجد ما هو أبعد من المقارنة بين ترجمتي مكاوي وحسان شبه الشاملتين لأشعار بريشت. لقد حذا أحمد حسان حذو عبد الغفار مكاوي إن لم نقل إنه نسخ ترجمته بطريقة بيّنة. إن الترجمة اللاحقة زمنياً تقوم على الترجمة السابقة من حيث تركيب الجمل واختيار المفردات مع بعض التغييرات الطفيفة المكشوفة. وهنا لا يشفع لحسان الذي أشار إلى استفادته من ترجمات سابقة لبريشت من بينها ترجمة مكاوي. ذلك أن الترجمة فعل إبداع وليست ‘ شغل فاعل’ كما يقال باللهجة اللبنانية الدارجة لأعمال المهن من نجارة وحدادة وفلاحة وبناء وغيرها. لو كان حسّان أسبغ شخصيته بشكل أعمق على هذه الترجمة لكانت تفوقت على ترجمة مكاوي التي في رأيي تبدو أمينة أكثر من اللزوم للمعنى وباردة في نثريتها المفرطة، أي أن التزاماً مبالغاً فيه في نقل المعنى الحرفي مع عدم الأخذ بالنواحي الأسلوبية الأخرى من إيقاعات وغناء ولغة أفقد ترجمة مكاوي بعض الحرارة. إذاً، قامت ترجمة حسان على ترجمة مكاوي في تتبعها المعنى وتقطيع الجمل وانتقاء المفردات تتبعاً يمتثل فيه القول العربي القديم ‘ الحافر على الحافر’. مع ذلك فإن ترجمة حسان بدت أكثر طبيعية ورهافة في آن.
اكتشاف ماركس
في ‘ مختارات شعرية شاملة’ يمكن للقارئ أن يكوّن فكرة شاملة عن أشعار بريشت. إن شمولية الترجمة تتيح تكوين مثل هذه الفكرة. فمن البدايات التي تكشف نزق الشاعر وغريزيته كما في قصيدة ‘ حول ماري قاتلة طفلها’ ( عبد الغفار مكاوي ترجم نماذج أفضل لبدايات الشاعر مثل ‘ حكاية البغي إيفيلين رو’ و’ عن مودة العالم’ و’ كورال بال العظيم’ و’ خرافة الجندي الميت’)، إلى موقف الشاعر من المدينة هو المولود في مدينة أوغسبورغ والقادم من جذور ريفية من الغابة السوداء في آخن، إلى قصائده التي تناول فيها ‘ الإنسان العادي’، أي القصائد النضالية التي تمجّد العمال والفلاحين والبسطاء وتنتصر للإنسان في كرامته وسعيه وحريته. شمولية في الترجمة تكشف انتقال الشاعر من التعبيرية التي تأثر فيها في بداياته قبل تركه مدينة أوغسبورغ للعيش في برلين، تلك التعبيرية التي عكست العنف والقسوة الكامنين في الإنسان والطبيعة ( قصيدته عن بعل أو بال بحسب ترجمة مكاوي تعبير مثالي عن تلك المرحلة). كما تظهر تلك القصائد تأثره بشعراء صعاليك ورحّل أمثال فرانسوا فيّون، إضافة إلى روديارد كيبلينغ ورامبو وكذلك شعراء ألمان أمثال جيورج بوشنر وفيديكند ( الذي رثاه إثر وفاته سنة 1918) كما يعترف الكاتب في يومياته. وكما انتقل بريشت من المرحلة التعبيرية في المسرح من خلال مسرحيات مثل ‘ بعل’، ‘ طبول في الليل’، ‘ في أدغال المدن’، ‘ جان دارك قديسة المذابح’، إلى المرحلة التعليمية في أعمال مثل ‘ قائل نعم’، ‘ قائل لا’، ‘ الاستثناء والقاعدة’، ‘ الأم’، ‘ الإجراء’، وصولاً إلى المسرح الملحمي الإغرابي الذي تأثر فيه بالمسرح الصيني كما في مسرحيات مثل ‘ الأم شجاعة وأولادها’، ‘ بنادق الأم كارار’، ‘ محاكمة لو كللوس’، ‘ حياة جاليليو’، ‘ رعب الرايخ الثالث وتعاسته’، ‘ إنسان ستشوان الطيب’، ‘ صعود أرتورو أوي الذي يمكن أن يوقف’ و’ دائرة الطباشير القوقازية’، كذلك انتقل بريشت في الشعر من الرحلة الرعوية أو التعبيرية ( الفوضوية في معنى من المعاني) إلى المرحلة التعليمية، متأثراً بالماركسية التي عكف على قراءتها طويلاً منذ منتصف العشرينات من القرن العشرين ( نفى أن يكون انتمى إلى الحزب الشيوعي حين استدعي مع آخرين للتحقيق من قبل ‘ لجنة النشاطات المعادية لأميركا’ أثناء إقامته في كاليفورنيا التي وصلها سنة 1941 قادماً من منفاه في فنلندا بعد منافيه في الدانمارك والسويد. وقد غادر أمريكا سنة 1947 إثر هذا التحقيق عائداً إلى سويسرا حيث أقام سنة واحدة انتقل بعدها إلى ألمانيا الشرقية حيث أسس فرقة ‘ برلينر إنسامبل’ وأدار مسرحاً مع زوجته الممثلة الشهيرة هيلينه فيغل). لكن شعره لم يكن دعاية ماركسية بقدر ما كان استلهاماً لفلسفة صاحب ‘ رأس المال’ مثلما كان انعكاساً لمثالية هيغل في الوقت نفسه ( مثلاً لديه قصائد عن الجدل وسيولة الأشياء والشك والتحوّل، مثلما لديه قصائد عن البروليتارية والكادحين. وقد تأثر بريشت بمنظرين ماركسيين هما فرتس اشترنبرغ وكارل كورش كما عكف على حضور دروس في مدرسة العمال في برلين). إن ماركسيته لم تكن أيديولوجيا بقدر ما كانت موقفاً من البرجوازية، تلك الطبقة التي انحدر منها (على غرار ماركس نفسه)، إذ كان والده موظفاً في مصنع للورق قبل أن يترقى إلى منصب مدير سنة 1914، وقد أتاحت له وفاة الأم سنة 1920 التحرر من طبقته شيئاً فشيئاً. لقد تحوّل بريشت من شاعر الحواس وشاعر الغرائز وشاعر الفوضى في بداياته إلى شاعر يستلهم الجماعة ويعبّر عن آلامها من غير أن يتحوّل إلى شاعر جماهيري بالمعنى الغوغائي ( وإلا لما ترك ألمانيا سنة 1933 إثر وصول هتلر – ومعه النازية التي لاقت تأييداً عارماً آنذاك – إلى منصب المستشار للرئيس الألماني في 30 كانون الثاني/ يناير 1933). إن تحوّل بريشت إلى شاعر ملتزم بالمعنى الإنساني للكلمة، جعل شعره يتجه إلى البساطة من غير تبسيط معلناً غاية للشعر ‘ كتابة الشعر يجب أن ينظر إليها باعتبارها فعالية إنسانية، وظيفة اجتماعية من نوع متناقض تماماً، مشروطة بالتاريخ وشارطة له بدورها’. هذه الوظيفة قد تكون انعكست على القيمة الجمالية لبعض قصائد الشاعر، الأمر الذي ينظّر له على هذا النحو: ‘ بيت شعر سيىء لا يدمّر القصيدة تماماً في أي حال، مثلما لا ينقذها تماماً بيت شعر جيد’. وربما كانت توجهات بريشت الفنية هذه ورؤيته حول وظيفة الكتابة هي التي جعلته يقف موقفاً سلبياً من شعر ريلكه المنحوت والمصقول والمركّب والمترفع.
طرق إلى القصيدة
لكن شعر بريشت أكثر تنوعاً مما ورد وكما تبديه هذه المختارات الشاملة. فمن الأشعار الأولى التي كتبها لتغنى برفقة الغيتار ( لحّن آزيلر عدداً كبيراً من قصائده) إلى أغاني الأطفال أو أغاني المهد إلى القصائد التي كتبت مباشرة لتغنى في أعماله المسرحية إلى القصائد التي استهلم فيها الفولكلور إلى القصائد غير المقفاة المكتوبة وفقاً للأوزان الشعرية إنما غير المنتظمة ( بحسب تعبير بريشت نفسه) إلى كتابة السوناتا إلى الحكمة الشعرية (الأبيغرام)، إلى الحكاية الشعرية (البالاد) إلى المرثية، ومن الشعر الملحمي إلى الشعر الدرامي إلى الشعر الحواري الذي يستلهم المسرح، ومن شعر القسوة والفوضى إلى شعر الالتزام إلى الفكاهة المريرة، كان بريشت في كل قصائده ينتقل من كلمة تريد ‘ أن تثير’ إلى كلمة تريد ‘ أن تربي’ على حد رأي عبد الغفار مكاوي الذي يرى عدداً من الأضداد اجتمعت في الشاعر: ‘ العقل المتيقظ، التهكم المتزن، دفء الشعر الطبيعي وتجريد القضايا المذهبية، لهجة الرعاع وحكمة الصين والنغمة الشعبية البسيطة المباشرة والدعوة السياسية والتعليمية’.
‘ مختارات شعرية شاملة’ تكشف الوجه الأول والحقيقي لبرتولت بريشت: الوجه الشعري، أو بتعبير الناقد كلمنت غرينبرغ في وصف أحد أبرز المسرحيين في القرن العشرين: ‘ كله شاعر’.
القدس العربي