الإعلام في ظل رقابة الطوائف
حسام عيتاني
تنهض الرقابة السياسية على افتراض وجود سلطة تُوجّه وتقنن حرية النشر في وسائل الإعلام. وعلى أن هذه الأخيرة تسعى إلى الإحاطة بمجريات وأحداث المجتمع بشرائحه وفئاته كافة وتقديمها إلى صنوف مختلفة من القراء كنوع من الخدمة العامة تنال في مقابلها أجراً من القراء أو المعلنين.
التصور الكلاسيكي هذا ينطوي على فرضية تقول إن السلطة السياسية واحدة ووسائل الإعلام، وإن تعددت في انتماءاتها وولاءاتها وعرضها لوجهات نظر اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة، فإن المشتركات بينها وخصوصاً الالتزام بقيم حرية التعبير وحرية النشر والحريات المدنية عموماً، تجعلها أشبه بالجسم الواحد في التعامل مع السلطات وفي مقدمها السلطة السياسية.
الحالة في لبنان أكثر تعقيداً. فالدستور (الفقرة «ج» من المقدمة والمادة 13من المتن)، يكفل حرية الرأي والمعتقد والتعبير «ضمن دائرة القانون» الذي يتلقف الكفالة أو الضمانة تلك ويركِّزها في حيز ضيق متعلق بعدم المساس بالمشاعر الدينية أو بالأحرى بالحساسيات الطائفية وتلك التي تعني الشعور الجمعي لمختلف الفئات اللبنانية.
والفرد محمي في القانون اللبناني خصوصاً لنواحي التشهير والقدح والذم والافتراء وما ينال من مصالحه المادية والمعنوية نيلاً مباشراً ومقصوداً. أما حقوقه على وسائل الإعلام، أو واجبات الوسائل تلك حياله، باستثناء حق الرد، فموضع خلاف.
ووسائل الإعلام غير ملزمة عملياً بتقديم مستوى معين من الخدمة الإعلامية وتتمتع، بالتالي، بهامش واسع من حرية التعامل مع المعلومات التي تحصل عليها وطريقة فرزها وتوزيعها ونشرها وصياغتها أو إهمالها وإغفال ذكرها بما يتناسب مع المعايير الخاصة بكل مؤسسة.
لا غرابة، والحال على ما تقدم، أن تكون السمة المشتركة الأبرز بين وسائل الإعلام هي الالتزام بسلّم من الأولويات يختلف من مؤسسة إلى أخرى باختلاف منظومة الولاءات السياسية و «التمويلية» وهي ولاءات تتداخل وتتشابك في غالب الأحوال. بمعنى ان الجهة السياسية المهيمنة على المؤسسة «أ» هي مَن يمدّها بالمال اللازم لمتابعة نشاطها كي تستمر المؤسسة في الترويج لسياسات الجهة هذه طالما استمر التمويل، وهذه حال المؤسسات «ب» و«ج» و«د» كذلك.
وتبدو ضئيلة الأهمية هنا الرقابة التي تمارسها الدولة وأجهزتها في مقابل رقابة القوى السياسية. فالدولة عندنا، بما هي ائتلاف طوائف، تستطيع رقابتها تَحمّل أو تمرير الكثير مما يرد في الإعلام. وفي الوسع استحضار عشرات من الأمثلة التي نشرتها الصحف وبثتها الإذاعات والتلفزيونات عن حالات فساد مشهود في غير دائرة رسمية من دون أن تثير حداً أدنى من الاهتمام الشعبي أو من الاعتراض الرسمي. فالجميع يعلم أن الصحافة في لبنان لا تملك أنياباً حادة تكفي لاختراق جلد الحمايات الطائفية السميك.
التجاهل والمماطلة والمماحكة هي بعض الأسلحة في ترسانة القوى المُمَثّلة في الائتلاف الحاكم والكفيلة بردِّ هجمات وسائل الإعلام على مَواطن الخلل في الدولة والنظام. وغالباً ما تتوقف وتُطوى أي محاولة لإثارة موضوع حساس عبر الإعلام بواسطة اتصال هاتفي من «المرجع» السياسي- الطائفي الذي يحمي ويرعى الجهة التي ستسلط الأضواء عليها وعلى المخالفات الواقعة فيها. وهذه ممارسة لبنانية بامتياز للرقابة السياسية على وسائل الإعلام. فما لا يستطيع القانون فعله للحيلولة دون قيام الصحف أو التلفزيونات بكشفه، بسبب هامش الحرية النسبية (مقارنة بالدول العربية الأخرى)، وبسبب الطبيعة المركبة للسلطة السياسية في لبنان، تفعله فعلاً مباشراً وصريحاً القوى السياسية.
ينقل الصنف هذا من التدخل، الرقابة من يد السلطة الرسمية الى يد سلطات أهلية تترك، بدورها، لمسؤولي الوسائل الإعلامية مهمة ضبط أي صوت أو قلم يشذ عن الصراط المستقيم المحدد. فتصبح الرقابة مهمة داخلية وليست خارجية، تصدر من بين جدران المؤسسة الإعلامية لمصلحة الجهات المتنفذة والمهيمنة عليها وتُفرض على من يجرؤ على تحدي «خط» المؤسسة ومرجعيتها السياسية. وليست بعيدة حالات صرف شملت صحفاً ومحطات تلفزة وغيرها، لم تخلُ من مضامين سياسية.
تتخذ رقابة القوى السياسية منحى عنيفاً بل دموياً في لحظات احتدام الصراع الداخلي. ولم يمر بعد الزمن على اقتحام محطات تلفزيونية وإحراق صحف وإذاعات في السابع والثامن من أيار (مايو) 2008. وليس أوضح من هذه العينات على طراز رقابة القوى الطائفية عند امتشاقها السلاح لفرض وجهات نظرها بالقوة. فما أصاب بعض وسائل الإعلام في تلك الأيام تجسيد حقيقي وملموس لنوع الرقابة التي تمارسها القوى السياسية متى استطاعت.
بيد أن اللحظة الدرامية تلك، لا تكشف سوى قمة جبل الجليد من الممارسات اليومية التي يقوم بها «مفوضو الإعلام» و «قومسياريته» المكلفون من أحزابهم وطوائفهم تكليفا «رسمياً» بملاحقة حسن سير الصحف والتلفزيونات على ما تشتهي الأحزاب والتيارات المعنية. وليس كشفاً لسر عظيم القول إن طرفي الاصطفاف السياسي السابق في لبنان (8 و14 آذار/مارس) مارسا رقابة مباشرة وفظة على الإعلام. وتَشدد كل منهما في فرض معاييره على الوسائل الإعلامية التابعة له، فيما وجد العاملون والمسؤولون في الوسائل تلك أنفسهم بين مطرقة إدعاء الموضوعية والحياد وبين سندان الجهة السياسية التي تُمسك بأسباب بقائها.
ويمكن الحديث هنا عن تباينات في معدلات الخضوع بين صحيفة وأخرى وبين شاشة ونظيرتها، لكن ما لا يجوز القفز من فوقه هو أن وسائل الإعلام اللبنانية وبصرف النظر عن ضجيج الحريات الذي تستحسن الإسهاب في الحديث عنه، هي في آخر المطاف كما في أوله، أدوات دعائية لمشاريع سياسية تفوقها حجماً وأهمية.
وأمام واقع كهذا، ينتظر المرء أن تؤدي رقابة المجتمع المدني على الإعلام، دوراً في الحد من شطط ولاءاته الطائفية والحزبية. فما يعلنه بعض الجمعيات المعني بديموقراطية الانتخابات وآخرها تقرير صدر قبل ايام عن هيئة هي اقرب الى الخليط من المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني، على سبيل المثال، عن انحياز فاضح لوسائل الإعلام لمصلحة القوى السياسية – الطائفية، لا يشكل حافزاً كافياً عند وسائل الإعلام للبقاء في ساحة الموضوعية.
بكلمات أخرى، تظهر في معادلة انحياز الإعلام اللبناني إلى الطوائف حقيقة تقدم هذه الأخيرة في ممارستها السلطة وفي امتلاك أدواتها ومغرياتها، على هزال المجتمع المدني، هذا إذا اتفقنا على أن وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم تحتاج إلى هيئة مستقلة تشرف على ما يدور في المجال الإعلامي.
الحياة