الرقابات العربيّة: الواقع، الذرائع، السمات، المواجهة
سماح إدريس *
(إلى ذكرى المناضليْن القدوتيْن شفيق الحوت وأنيس صايغ)
1 ــــ واقع الرقابة العربيّة اليوم
أ ــــ في الرقابة على المطبوعات الورقيّة. على الرغم ممّا يشاع عن التحسّن الشديد في حريّة تداول المعلومات بسبب انهيار عدد كبير من أنظمة القمع في العالم، وبسبب انتشار أدوات الاتصال الحديثة «العابرة للرقابات»، فإنّ ما نشْهده في الوطن العربيّ يخالف هذا التفاؤلَ المفرط: فلا منعُ الكتب تراجعَ في هذا البلد العربيّ إلا ليزدادَ في بلد عربيٍّ آخر؛ ولا انحسرتْ رقابةٌ سياسيّةٌ في بلد ما إلا لتستفحلَ رقابةٌ من نوع آخر في البلد ذاته؛ ولم تتوقّفْ حالاتُ فصل الأساتذة من جامعاتهم بسبب تقريرهم كتباً أو تأليفهم كتباً «تسيء إلى الدين والأخلاق»؛ ولا تراجعتْ أعدادُ معتقلي الرأي.
فلنبدأْ بما يُزعم أنه النظامُ العربيّ الأكثرُ ليبراليّة وتداولاً للمعلومات، أي الإمارات العربيّة المتحدة. في عام 2008 أقرّ المديرُ العامّ للمجلس الوطنيّ للإعلام بأنّ انتقادَ أفراد الأسَر السبع الحاكمة هناك لا يزال جريمةً يعاقِب عليها القانونُ. وهذا المجلس «يتخلّف… عن منح الإذن الضروريّ للموزّعين» من أجل توزيع «مجموعة واسعة من الكتب». ومع أنّ الإماراتيين استبشروا خيراً بصدور قانون المطبوعات والنشر الجديد، فقد فوجئوا بأنه أكثرُ تقييداً من السابق، ولا سيّما في ما يتعلّق بفرض غرامات على الصحافيين الذين يُعتبر أنهم «يشهِّرون بسمعة الإمارات أو يُلحقون ضرراً بالاقتصاد!» هذا ناهيكم بـ«حجب صور التعرّي في الإصدارات الصحافيّة (باستخدام الأقلام السود على الصحف والمجلات حتى الآن)…» (1)
أما في السودان فعلى الرغم من أنّ الرئيس عمر حسن البشير أصدر في صيف عام 2009 توجيهاً برفع الرقابة المسبّقة عن الصحف، فإنّه رَبط ذلك بـ«ميثاق شرف» يستبدل الرقابة المباشرة من جانب جهاز الأمن برقابة أخرى، ذاتيّة، على الصحف، وإلا تعرّضتْ هذه الأخيرةُ «لعقوبات صارمة». ودعا البشير رؤساءَ التحرير إلى مباشرة مسؤوليّاتهم المهنيّة (!) وأداء «دورهم» لتجنّب ما يُفْضي «إلى تجاوز الخطوط الحمراء وتفادي الخلط بين ما هو وطنيٌّ وما هو هادمٌ للوطن وسيادتِه وأمنِه وقيمِه وأخلاقيّاته…».
وفي سوريا مُنعتْ أعمالٌ كثيرةٌ في السنوات الأخيرة. وتَهْجس الرقابةُ السوريّةُ، خاصّةً، بكلِّ ما يمتّ بصلة إلى فترة الخلاف الإخوانيّ ــــ البعثيّ في أوائل الثمانينيّات؛ ولهذا مَنعتْ رواياتٍ كثيرةً كـ«القوقعة» (لمصطفى خليفة) و«مديح الكراهية» (لخالد خليفة). أيْ إنّ السلطة لا تكتفي بمحو أعدائها السياسيين من عالم الواقع بل تريد إنكارَ حصول هذا المحو في عالم الترميز والتخييل نفسِه. كما سبق أن مَنعت الرقابةُ السوريّة كتباً عدة لبوعلي ياسين بسبب تخطّيه «المحرَّماتِ» الدينيّةَ والجنسيّةَ والسياسيّة؛ وديوانَ منذر مصري («داكن») بسبب «إباحيّته»؛ ومجموعةَ عادل محمود القصصيّة «القبائل» بسبب «إثارتها النعراتِ الطائفيّةَ وتشكيكِها في حرب تشرين»؛ وروايةَ «السجن» لنبيل سليمان (صدرتْ عام 1971 في بيروت ولم تنل إذناً بالطباعة في سوريا إلا عام 1995) ورواية «الجدّ والحفيد» لنيروز مالك؛ و«حالة شغف» لنهاد سيريس؛ وديوان «ضيوف يثيرون الغبار» للقمان ديركي (2).
وفي مصر، لا يمرّ زمنٌ طويل قبل أن نسمعَ بسلسلةٍ طويلةٍ من أعمال المنع. فبعد الضجّة الهائلة التي أثارتها إعادةُ نشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوريّ حيدر حيدر في مصر عامَ 2000، صودرتْ كتبُ صلاح الدين محسن. ومُنعتْ من التداول عامَ 2001 ثلاثُ روايات («أبناء الخطأ الرومنسيّ»، و«قبل وبعد»، و«أحلام محرّمة») بذريعة أنها «تخْدش الحياءَ وتمسّ الدينَ والعقائد». كما مُنع كتابا «محمد» لمكسيم رودنسون و«الخبز الحافي» لمحمد شكري من التدريس في الجامعة الأميركيّة في القاهرة وسُحبا من المكتبات؛ وهو ما حصل أيضاً لكُتب نصر حامد أبي زيد التي صادرتْها جامعةُ القاهرة من مكتباتها عام 1993 (ناهيك بطلب فصله عن زوجته على أساس قانون الحسْبة) (3).
السلطة لا تكتفي بمحو أعدائها السياسيين من عالم الواقع بل تريد إنكارَ حصول هذا المحو في عالم الترميز والتخييل نفسِه
وفي العراق «الديموقراطيّ» الجديد أُعيد في عام 2009 العمل بالقواعد والضوابط التي كان يسْلكها نظامُ صدّام حسين لتقييد دخول المطبوعات إلى العراق. وطالب وكيلُ وزارة الثقافة طاهر الحمود الناشرين بتقديم قوائمَ بعناوين الكتب للموافقة عليها. ويحاول المديرُ العامّ لوزارة الثقافة عقيل المندلاوي التخفيفَ من وقع القانون الجديد، لكنه «بدلاً من أن يكحّلها يعْميها» كما يقول المثلُ الشعبيّ: فهو يؤكّد أنّ هذا القانون يَمْنع «أيَّ منشور يحضّ على العنف والإرهاب» أو «يتجاوز على سيادة العراق»، الأمرُ الذي يدفعنا إلى طرح تساؤلين. الأول: أيندرج نشرُ ثقافة مقاومة الاحتلال الأجنبيّ ضمن «العنف والإرهاب» الممنوعيْن في العراق الجديد؟ والثاني: ألا تمثّل دعوةُ بعض القوى والميليشيات العراقيّة إلى الفدراليّة والانفصال «تجاوزاً على سيادة العراق»؟ ولعلّ أفضلَ خلاصة تعبِّر عن واقع الحريّات والرقابة في عراق الاحتلال والميليشيات هي ما أدلى به هادي جلو مرعي، الأمينُ العامّ لمرصد الحريّات الثقافيّة: «لقد انتقلنا من مرحلة ما بعد مواجهة الإرهاب والعنف إلى مرحلة تكميم الأفواه» (4).
والوضع ليس أفضلَ في بلدان عربيّة أخرى، مثل الكويت (التي مُنع المفكّرُ المصريّ نصر حامد أبي زيد من دخولها أواخر عام 2009 بسبب ضغط نوّاب إسلامويين تكفيريّين كوليد الطبطبائي) (5) وتونس والمغرب… لكنّ المجال هنا لا يتّسع للمزيد من العرض. وقد يكفي أن أحيلَ على بعض المقالات التي كتبتُها عن الرقابة في معرض الرياض (6)؛ وعلى ما كتبتُه أيضاً أنا وأسعد أبو خليل وغيرُنا عن «إعلان مبادئ» روّجه وزيرُ الإعلام اللبنانيّ طارق متري ليكون «بمثابة تمهيد لاتفاق بين الإعلاميّين والإعلاميّات على شرعة سلوك مهنيٍّ» إذْ رأينا في ذلك الإعلان انتقاصاً متذاكياً لحريّة التعبير (7)؛ وعلى ما كتبتُه وكتبه آخرون عن منع سلطة «حماس» كتاب «قولْ يا طير» قبل بضعة أعوام؛ وعلى عدد من المقالات اللافتة لعدنيّة شبلي وبيار أبي صعب في جريدة الأخبار؛ هذا فضلاً عن أربعة ملفّات شاملة عن الرقابة في المغرب ومناطق السلطة الفلسطينيّة ومصر وسوريا نشرتْها مجلةُ الآداب بين عاميْ 2002 و2003.
ب ــــ في الرقابة على الإنترنت. قد يخيّل للمرء أنّ الأقلام المعارضة و«الإباحيّة» تنفّستْ نسائمَ الحريّة المطلقة بهربها إلى عالم الإنترنت.
غير أنّ ظنّه سيخيب سريعاً، إذ ما لبثتْ أنْ لاحقتها الحكوماتُ العربيّة، فتحكّمتْ في «المنبع» الإلكترونيّ وذلك باحتكار تقديم الخدمة أولاً وباستعمال برامج «الفلترة» ثانياً. وبحسب دراسة لمنظّمة «مراسلون بلا حدود» عام 2006، فإنّ أربعَ دول عربيّة تحتلّ مواقعَ متقدّمةً في الرقابة على الإنترنت وهي: مصر، والسعوديّة، وسوريا، وتونس.
وكانت النتيجة حجْب كثير من المواقع التي «تسيء إلى الأخلاق والقيم» في السعوديّة وغيرها، أو «تحرِّض على الفتنة الطائفيّة» في البحرين، أو تنشر أخباراً داخليّة «حسّاسة» في سوريا. وبلغ الأمرُ في اليمن أنْ أزيلتْ بعضُ الحواجز العازلة بين روّاد مقاهي الإنترنت، بل كُشفت شاشات الحواسيب على الخارج للتأكّد من التزام المواطن بأخلاق التصفّح الأثيريّ! أمّا في السعوديّة فقد أنشئتْ «مدينةٌ» للتحكّم بالإنترنت هي «مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنيّة» عبر الحجْب والفلترة (8).
وفي المغرب تتكاثر تدخّلاتُ السلطة السياسيّة في مجال الإنترنت. وقد اعتقلت السلطاتُ قبل بضعة شهور مدوّنيْن وصاحبَ مقهى إنترنت لنشرهم «معلوماتٍ زائفةً [عن أحداث تغجيجت] تضرّ بصورة المغرب في مجال حقوق الإنسان». ويأتي هذا الاعتقالُ بعد اعتقالاتٍ أخرى طاولتْ عامَ 2008 مدوّنين آخرين. ولذا لم يكن عبثاً أن تُصدر منظّمة «مراسلون بلا حدود» بياناً قالت فيه: «رغم الخطّة التي قدّمتها الحكومةُ المغربيّةُ في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي لتحسين استعمال الإنترنت وتسهيلِه، بهدف تسريع انخراط المملكة المغربيّة في مجتمع المعلومات والاقتصاد الرقميّ، فقد جاءت هذه المحاكماتُ لتُظهر عودةً إلى الوراء… في موضوع حرية التعبير» (9).
وفي سوريا حُجبتْ مواقعُ صحفٍ بالعشرات، وحُكم على بعض المدوّنين بالسجن، وفُرضتْ شروطٌ قاسيةٌ على مقاهي الإنترنت. ويكفي أن تقرأ مثلاً تعليمات شركة «آية»، أحدِ مزوّدي الإنترنت هناك: فهي تطلب من الزائر، بعد إبراز هويّته الشخصيّة، عدمَ الاتصال ببطاقات الاتصالات الدوليّة، وعدمَ «تنزيل» أيّ برنامج اتصال «تحت طائلة المساءلة الأمنيّة»، وعدمَ الدخول إلى «المواقع السياسيّة والمواقع المخلّة بالآداب والمواقع الدينيّة المتطرّفة تحت طائلة المساءلة الأمنيّة»، وعدمَ تنزيل برنامج السكاي. عدمٌ بعدم (10)!
وفي عراقِ ما بعد صدّام حسين يَذكر حسام ممدوح أنّ هناك نيّةً لدى وزارة الاتصالات لفرض الرقابة على الإنترنت، وتألّفتْ لجنةٌ لدراسة تطبيق تجارب «ناجحة» لدولٍ عربيّةٍ ضمن هذا الاتجاه. اللافتُ أنّ الدولتين اللتين سيتّخذهما العراقُ نموذجاً لضبط الإنترنت هما الإمارات و… السعوديّة (11)!
2 ــــ أنواع الرقابة
الرقاباتُ العربيّة أنواع. فمن حيث زمنُها، قد تكون قبْليّة، أيْ بموجب قانونٍ يحدِّد مسبّقاً المحظوراتِ والعقوباتِ المترتّبةَ على خرقها. وهي رقابة تستأصل «الجرثومةَ» من جذورها، أيْ قبل أن تتفشّى وتعيثَ «فساداً» في البلاد والعباد. وهذا هو أشهرُ أنواع الرقابات العربيّة، ولكنه غيرُ موجود في لبنان مثلاً بالنسبة إلى المطبوعات، ولا في السودان أخيراً في ما يخصّ الصحافة.
وقد تكون الرقابة بَعْديّة، أيْ نتيجةً لوشاية فرديّة أو حزبيّة أو تعليميّة أو لضغط اجتماعيٍّ آخر. فيُسحبُ المطبوع من التداول أو من مكتبات الجامعة، على الرغم من إجازته قانوناً، أو على الرغم من عدم وجود رقابة مسبّقة على المطبوعات (كحال لبنان). فكتبُ الصادق النيهوم («الإسلام في الأسر» و«مَنْ سرق الجامع»…) سُحبتْ من مستودعات دار رياض الريّس للنشر بعد امتعاض جهات إسلاميّة رسميّة لبنانيّة. وكتاب «عين الزهور ــــ سيرة ضاحكة» لبو علي ياسين أجازته الرقابةُ السوريّة الرسميّة، لكنّه «أثار حفيظة المجتمع» بتحريك من رجال الدين المحليين، فتلقّى مؤلّفُه اتصالاتٍ «متوعّدة»، وتعرّض لمحاولةِ صدمٍ بسيّارة، فاستجابت الرقابةُ السياسيّة «للضغط الاجتماعيّ ــــ الديني» (12).
كما أنّ الرقابة تنقسم إلى داخليّة وخارجيّة. فرُبّ كتابٍ سُمح في الداخل، لكنّ سلطاتِ الأقطار العربيّة الأخرى رفضت السماحَ بدخوله إليها. من هذه الكتب الأجزاءُ الخمسة من كتاب السيّد يوسف عن الإخوان المسلمين، إذ صَدر في مصر ومُنع في سوريا.
وهناك رقابة يفرضها الناشرُ على المطبوع، خشية أن يتعرّض هذا الأخيرُ للمنع من دخول الأقطار العربيّة، أو خوفاً من أن ترفضَ المدارسُ داخل بلد الإصدار نفسِه إدراجَه في برامجها التعليميّة؛ ورقابةُ الناشر قد تطاول الرسومَ والعنوانَ واللغةَ المستخدمة.
لكنّ الرقابة العربيّة، قَبْليّاً أو بَعْديّاً، تنقسم بدورها من حيث دوافعُها المعلنة إلى سياسيّةٍ وعسكريّةٍ وأخلاقيّةٍ ودينيّة. وتأتي الرقابتان السياسيّة والعسكريّة (وهما متمازجتان في الأغلب الأعمّ) تحت ذرائع «حماية أمن الدولة والمجتمع»، و«درءِ التدخّل الخارجيّ»، و«الحؤولِ دون إثارة النعرات التي تهدِّد وحدةَ البلاد»، و«مواجهةِ الإرهاب». وأما الرقابتان الأخلاقيّة والدينيّة (وهما متمازجتان أيضاً) فتأتيان تحت عناوين «مواجهة البذاءة»، و«حمايةِ النشء»، و«منعِ الإساءة إلى الإسلام والمسلمين»، و«الحؤولِ دون الإخلال بالآداب العامّة». فأما العنوانان الأوّلان فشواهدُهما أكثرُ من أن تُحصى، وبخاصة في السعوديّة ودول الخليج ومصر. وأما العنوان الثالث فالشاهدُ عليه منعُ تدريس كتاب «محمد» لرودنسون في الجامعة الأميركيّة في القاهرة عام 1998 وسحبُه من مكتباتها بأمرٍ مباشرٍ من وزير التعليم العالي، وكذلك منعُ كتب نصر حامد أبي زيد عام 1993 وفصلُ مؤلّفها من جامعة القاهرة. وأما العنوان الرابع فقد استُخدم لمنع تدريس «الخبز الحافي» لمحمد شكري في الجامعة الأميركيّة نفسها عام 1998. اللافت أنّ أكثر مَن يمارس الرقابتين «الأخلاقيّة والدينيّة» في الجامعات هم الطلابُ وأهلُهم، كما حصل مع الكتاب الأخير (13)، وكما هي الحالُ في نهاية سنة 2009 مع د. ريما النجّار من الجامعة العربيّة ــــ الأميركيّة في فلسطين التي يدعو بعضُ الطلاب الغيورين على الإسلام فيها إلى قتلها لأنها نشرتْ كتاباً زعموا أنّ فيه صوراً لله (14).
لكنّ أخبثَ أنواع الرقابة العربيّة اليوم هو، بلا شكّ، الرقابة الذاتيّة. فهذه الرقابة تعطي إيحاءً كاذباً مفادُه أنّ الكاتب هو مَن اختار أن يجتزئ ويحذفَ ويغلّفَ بالمجاز والأليغوريا، مع أنّ ما فعله إنما هو على الأرجح نتيجةٌ للأنواع الأخرى من الرقابة (السياسيّة، الدينيّة، الاجتماعيّة،…). إنها إرهابٌ ذاتيٌّ، كما يقول عبد الحق لبيض (15)، يمارسه الفاعلُ ضدّ ذاته وإبداعه؛ فكأنّ السلطة والمجتمعَ أنابا الكاتبَ كي يَسْلبَ حريّته بنفسه.
3 ــــ من سمات الرقابة العربيّة
1ــــ مطّاطيّة الضوابط أو ضبابيّتها. خذْ عبارة «إثارة النعرات الطائفيّة» في لبنان، التي يجرِّمها القانونُ على سبيل الافتراض. فمَن يقرِّر هذا الأمرَ يا ترى، وكيف؟ ألا يندرج تمييزُ النائب المغدور بيار أمين الجميل، على سبيل المثال، بين «كمّيّة» المتظاهرين المعارضين (المسلمين الشيعة الفقراء بالدرجة الأولى كا هو واضح) و«نوعيّة» متظاهري الموالاة (المسيحيين والسنّة من الفئات الوسطى المتعلّمة بالدرجة الأولى أيضاً)، ضمن إطار «إثارة النعرات الطائفيّة»؟ وما قولُكم بدعوة أخيه سامي الجميّل في شتاء سنة 2009 إلى كتاب للتاريخ يكون موحَّدًا في جزءٍ، ومنقسمًا بحسب الطوائف في جزءٍ ثانٍ؟ أو تأمّلوا وصفَ وليد جنبلاط للموارنة بـ«الجنس العاطل». إنّ كلَّ هذه الأقوال، التي تشي أو تنضح بإثارة النعرات الطائفيّة والمذهبيّة، لا يقتربُ منها قضاؤنا الجليلُ للأسف لأنّ وراء مطْلقيها زعماءَ طوائف ومذاهبَ وميليشياتٍ ونوّاباً ووزراء. لكنّ الدنيا تقوم ولا تقعد إنْ لحّن مرسيل خليفة قصيدةً لمحمود درويش تتضمّن آيةً قرآنيّةً، مع أنّ هدفَ درويش مقارنةًُ وضع الإنسان الفلسطينيّ بيوسف الذي تآمر عليه إخوتُه العرب؛ ذلك أنّه ليست لمرسيل طائفةً تُسْنده… إلا «طائفة» اليسار المشتّت!
نصر حامد أبو زيد (أرشيف ــ مروان طحطح)نصر حامد أبو زيد (أرشيف ــ مروان طحطح)وإذا انتقلنا إلى قانون الرقابة السوريّ الذي صدر في 22/9/2001، فستطالعنا عباراتٌ لا تقلّ مطاطيّةً وضبابيّةً، تسْمح لرئيس مجلس الوزراء برفض منح رخصة إصدار مطبوعة. من هذه العبارات: «المصلحة العامّة» (علماً بأنّ تقدير هذه الأخيرة يعود إلى رئيس الوزراء وحده)، و«النيلُ من هيبة الدولة» أو «المسُّ بكرامتها»، و«المسُّ بالوحدة الوطنيّة». وقد صَدَقَ حسّان عبّاس حين وصف هذه جميعَها بأنها «تعابيرُ فضفاضةٌ تمكّن السلطة من أن تُدخل ما تريد أن تُدْخله تحت غطائها، فإذا اعتَبرتِ الدولةُ أنّ كرامتها قد مُسّت، فمَنِ الذي يستطيع أن يثْبت أنّ الدولة على خطأ ما دمنا عاجزين عن اختراع مقياسٍ زئبقيّ للكرامة؟!» (16).
2 ــــ العشوائيّة. رقيبٌ يوافق هذه السنة فيَسمح بالكتاب، ورقيبٌ آخر يمانع صدوره في السنة المقبلة أو في سنواتٍ لاحقة فيمنعه، أو العكس. كتاب نبيل سليمان، «إيديولوجيا السلطة»، مثلاً، مُنع عام 2001 بعد 24 سنة من طبعته السوريّة الأولى، مع أنّ مؤلّفه، كما يقول هو نفسُه، لم يبدّلْ «فيه حرفاً». وقد تحْدث هذه العشوائيّة في الزمن نفسه؛ فهناك، بحسب أنطون المقدسي، «رقيبٌ أكابر» و«رقيبٌ قرباطي»: الأول يمْكن التعاملُ معه لأنه «مرنٌ وغيرُ متزمّت»، وأما الثاني «فيخاف من كلّ شيء ويوقف الكتابَ على أدنى كلمة ولا يمْكن التعاملُ معه».
على أنّ ياسين الحاج صالح يذكّرنا في هذا الصدد بأنّ غياب المنطق المتّسق جزءٌ لا يتجزّأ من «وظيفة الرقابة ومفهومها نفسه؛ فلا تكون الرقابةُ رقابة إلا إذا كانت اعتباطيّة، يمتنع التنبؤُ بما قد تَمْنع أو تَحْجب، ويستحيل ضبطُ أفعالها المانعة بقاعدةٍ مستقرة».
4ــــ مساوئ الرقابة
ليس للرقابة على المطبوعات في رأيي أيٌّ من الإيجابيّات، وبخاصة حين تمارسها سلطاتٌ لا تأبه كثيراً للأمن الوطنيّ والقوميّ وصلاح المجتمع. وإذا كان لنا أن نعدّدَ سلبيّاتِ الرقابة، فلعلّ أبرزَها ما يأتي:
1ــــ أنها تعزِّز الجهلَ، لا الأمانَ (الفرديّ والاجتماعيّ). ومن ثم فإنها ترسِّخ التعصّبَ للرأي الواحد من غير معرفة نقيضه، ناهيك بأبعاد «الحقيقة» الأخرى. وفي هذا نقيضٌ للتطوّر العلميّ أولاً، ولتقدُّمِ شخصيّة الفرد ثانياً.
2ــــ أنها تحْرف الكاتبَ عن قولِ ما يريده بأكبر قدْرٍ من الحريّة، فلا يأتي ما يكتبه كاملَ الإفادة أو الوضوح. ويزداد الوضعُ سوءاً إذا تكالبتْ على الكاتب رقاباتٌ متعدّدةٌ في الوقت نفسه، ولا سيّما الرقابة السياسيّة والاجتماعيّة. وفي هذا الصدد يقول بوعلي ياسين متذمّراً: «كنّا، نحن الكتّاب، في السابق، نشكو من رقابة أجهزة دولنا، فصرنا الآن نحسب حساباً لأمزجة الناس» (17). ويقول أحدُ الصحافيين: «نحن الصحافيين نعيد قراءة نصوصنا عشرَ مرّات: تسعاً للتأكّد من أننا لا نلامسُ الخطوطَ الحمراء، وواحدة للتأكّد من جودة كتابتنا» (18). على أننا نسارع إلى القول إنّ محاولة الكاتب المبدع التملّصَ من الرقابة قد تبعده عن الكتابة المباشرة ولكنها ترميه في رحاب الرمز والأليغوريا، الأمرُ الذي قد يزيد كتابته ــــ ويا للمفارقة ــــ عمقاً وجمالاً، كحال رائعة جمال الغيطاني، «الزيني بركات».
3ــــ قد تؤدّي الرقابة إلى جموح الكاتب (الروائيّ المتواضع المواهب خاصّة) إلى التحدّي بهدف التحدّي، ولكسب فضول الناس واهتمامهم وتعاطفهم، ولو على حساب القيمة الفنيّة أحياناً. لقد باتت الجرأةُ على تحدّي الأعراف والسلطات حافزاً شبهَ أوحد للكتابة عند البعض، فضاعت العنايةُ بالتفاصيل واللغة، وساد الجنسُ المجّانيّ و«المواجهاتُ» المفتعلةُ مع الأعراف الاجتماعيّة، بلا مبرّراتٍ فنيّةٍ كافيةٍ نابعةٍ من داخل النصّ.
4ــــ الرقابة خطرٌ مطلقٌ على الثقافة الشعبيّة خاصّة. فمنطق «محاربة البذاءة» هو الذي دفع سلطة حركة «حماس» إلى منع كتاب «قول يا طير» (2001) للباحثيْن شريف كناعنة وإبراهيم مهوّي، مع أنه من عيون الكتب التي تتناول الثقافة الشعبيّة الفلسطينيّة (تراجعتْ «حماس» عن قرارها لاحقاً بسبب الحملة الصحافيّة ضدّه، فزعمتْ أنها لم تصْدرْه أصلاً!). وهو المنطق الذي سبق أن قاد أيضاً السلطاتِ السوريّةَ (استجابةً للضغط الاجتماعيّ ــــ الدينيّ كما سبق الذكر) إلى منع «عين الزهور ــــ سيرة ضاحكة» لبوعلي ياسين (1993). غير أنّ «البذاءة»، في الحقيقة، هي جزءٌ لا يتجزّأ من كلّ الثقافة الشعبيّة، عَبْرها يَسْخر الناسُ من حكّامهم والمتسلّطين عليهم، وبها أيضاً يعبّرون عن آرائهم التي قد لا تخلو من نزعاتٍ عنصريّةٍ وطائفيّةٍ وطبقيّةٍ مقيتة. غير أنّ هذه جميعَها لا تُمْكن معالجتُها إلا بالكشف عنها، وتبيانِِ أسبابها و«منطقها» الداخليّ، وباعتماد السياسات التعليميّة والتثقيفيّة الملائمة.
5ــــ الرقابة خطر على حريّة الجامعة تحديداً. يذكّرنا إدوارد سعيد في هذا المجال بأنّ على الجامعة أن تبقى في منأى «نسبيّ» عن المجتمع. بكلام آخر، فإننا، على رغبتنا في أن يكون الحرمُ الجامعيّ عاكساً لطموحات المجتمع ومشاغله، فإنّنا نرغب أيضاً في أن يبقى التدريسُ الجامعيّ معزولاً قدرَ المستطاع عن الإكراهات الاجتماعيّة حرصاً على نموّ العقول الشابّة وتطوّرِ أدوات النقد بالسلاسة والحريّة المطلوبتين. فالعلمُ يتطلب الشكَّ، والشكُّ قد لا يخلو ممّا قد يعتبره البعضُ «تجديفاً» أو «طعناً» في قيم المجتمع الراسخة ومسلّماته.
5ــــ أنواجه أمْ ننكفئ؟
في رأيي المتواضع أنّ التخلّص من الرقابة لا يكون بالهروب منها، بل بمواجهتها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. فالهروبُ يشجِّع السُّلطات على المزيد من الرقابة والمنع والقمع والاستئساد على المجتمع. والأهمّ أنّ التخلّص من الرقابة لا يكون بتنازل الكاتب/الفنّان لمصلحة تلك السُّلطات، بل بالإصرار على موقفه، احتراماً لعمله ولرسالته (هذا إنْ كان يؤْمن برسالةٍ ما)، وتشجيعاً للكتّاب الآخرين على ممارسة الشجاعة والحريّة والاجتهاد. إنّ قبولَ طه حسين مثلاً بتعديل كتابه «في الشعر الجاهليّ» (1927) لم يفدْ، في اعتقادي، الكتّابَ/الفنّانين ومقاومي التسلّط. صحيحٌ أنّ المثقفين والفنّانين العرب في أكثر الأقطار أعجزُ اليومَ، بسبب ضعف المجتمع الأهليّ وتضعضعِ يسارِه وتهافتِ عددٍ وافرٍ من نقاباته المهنيّة، من أن يواجهوا السلطاتِ السياسيّةَ والدينيّةَ والأخلاقويّةَ وحدهم، لكنّ شيئاً في مجتمعنا لن يتحسّنَ إنْ هم عمدوا إلى إيثار السلامة والابتعاد عن «المحظور». هكذا، لا يعود السؤالُ المطروحُ أمامنا هو: «أنواجه أمْ ننكفئ؟»، بل: كيف نواجه؟ والإجابة عن هذا السؤال يَفرضها، بالتأكيد، واقعُ السلطات ومدى شراستها، أو واقعُ المعارضة الديموقراطيّة في هذا القطر أو ذاك. فقد تأتي المواجهةُ صداماً لا هوادة فيه (كما كانت الحال في لبنان قبل عام 1982)، أو قد تأتي عبر محاولة فتح «ثغراتٍ» قليلةٍ في جدار الرقابة الصلد: ثغراتٍ تُراكم الانتصاراتِ ولو كانت صغيرةً، تمهيداً لانتصاراتٍ أعظم، وصولاً ربّما إلى مجتمع يتهاوى فيه منطقُ الرقابة برمّته. إنه هدفٌ مثاليٌّ بلا ريب، لكنّ العمل على الاقتراب منه هو ما يَضْمن لنا ألاّ نتقهقرَ إلى محض القبول بالأمر الواقع، أي البؤسِ الدائم.
ولكنْ قبل أن نعْرضَ وسيلتيْن متاحتيْن لمواجهة الرقابة على الصحافة والإبداع المكتوب (خاصّة)، أرى ضرورةَ الإسهام في تبديد جملة أوهام شائعة لدى كثيرين، أهمُّها:
روّج وزيرُ الإعلام اللبنانيّ طارق متري لـ«إعلان مبادئ» فيه انتقاص متذاكٍ لحريّة التعبير
أ ــــ مطالبة البعض بـ«ترشيد» الرقابة عبر تعيين «مثقفين» يؤدّون مهمّة الإجازة والمنع. في رأيي أنّ رقابة المثقف ليست بالضرورة أفضلَ من رقابة البوليس. بكلام آخر: إنّ رقيباً مثقفاً ليس بالضرورة أكثرَ رأفةً أو تفهّماً لما يكتبه «زملاؤه» المثقفون. بل قد يكون العكسُ هو الصواب؛ وذلك إذا كان الرقيبُ حزبيّاً متزمّتاً، أو تتملّكه الغيرةُ من نجاحهم، أو متعصّباً لدينه ومذهبه، أو هدفُه خدمةُ السلطة لا غير. بل قد يكون الرقيبُ المثقفُ أقدرَ من الرقيب الجاهل على فضح الرموز واللعَب الفنّيّة التي يحاول الكاتبُ التخفّيَ وراءها! ولا ريْب في أنّ رقيباً من وزن نجيب محفوظ أو أنطون المقدسي سيتصرّف بانفتاح أكبر من «انفتاح» القرابطة الصغار؛ بيْد أنّ الرقباءَ في النهاية هم موظّفون، «براغيّ» في آلة السلطة، ولا يمْكن الركونُ إلى تمايزهم (الحقيقيّ أو الوهميّ) عن السلطة. أضفْ إلى ذلك أنه من المعيب على مثقّفٍ أن يراقبَ مثقفاً، ومن المعيب أن نطالبه نحن بذلك! إنّ إخضاعَ الأدب والإبداع الفنيّ والصحافة لأحكام «مثقفين» أو «خبراء» أشبهُ بما قامت به محاكمُ التفتيش، كما كتب إدوارد سعيد ذاتَ يوم، متابعاً ما أجده مبدأً جديراً بأن نحتذيه:
«دعوا أعداءَ الحريّة يتقدّموا ويرافعوا دفاعاً عن قضيّتهم علناً. ودعوا حماةَ الحريّة يفعلوا الشيءَ نفسَه. وليكن كلُّ هذا أمام الملأ. أما أن تمارَسَ الضغوطُ من وراء الكواليس، وأن يمارَسَ التهديدُ والتهويلُ، و…أن يتمّ الاستسلامُ أمام الرقابة على الأدب والفنون…، فذلك كارثةٌ حقاً»! (19)
ب ــــ الوهم الشائع الثاني هو أنّ ثمة أنظمةً عربيّةً أفضل من أخرى على مستوى الممارسات الرقابيّة. الأحرى، في اعتقادي، القولُ إنّ الأنظمة العربيّة كلَّها، بلا استثناء، عدوّةُ الحريّات، وإنِ استنسبتْ إجراءاتٍ رقابيّةً في هذه الموضوعات دون تلك، وفي هذه الحقبة الزمنيّة دون تلك. فالرقابة السوريّة بالغةُ الرأفة بالموضوعات الجنسيّة مقارنةً بالرقابة السعوديّة التي تحْسب نفسها ظلَّ الله على الأرض، لكنها (أي الرقابة السوريّة) لا تتهاون في كلِّ ما يمسُّ العائلة الحاكمة وموضوعَ الطائفيّة مثلاً، وبما لا يختلف عن تصرّف السعوديّة نفسها (20). والرقابة المغربيّة أوسعُ صدراً في أمور المطبوعات اليوم ممّا كانت عليه أثناء حكم محمد الخامس، لكنها لا تتهاون قيدَ أنملة في أمر التعرّض للعائلة المالكة.
ج ــــ الوهم الشائع الثالث هو إصرارُ بعض المثقفين على وجوب إغفال نقد هذه الرقابة الرسميّة العربيّة أو تلك تقديراً لموقفها القوميّ. وفي اعتقادي الراسخ أنّ تمايزات الأنظمة العربيّة في سياساتها المعلنة أو الفعليّة إزاء القضايا القوميّة (فلسطين، احتلال العراق،…) لا تعني أنّ على المثقّف أن يهادنَها على حساب حريّة تعبيره والحريّات العامّة. بمعنى آخر، لا أرضيّة واحدة بين المثقف الحرّ والرقابة مهما كان شكلُ السلطة السياسيّة. وقد سبق أن سُئلتُ عن منع وزارة الإعلام السوريّة للعدد 9 ــــ 10/2009 من مجلة الآداب فقلتُ: «حتى لو صدرتْ هذه الممارساتُ عن بلدٍ يتّخذ مواقفَ سياسيّةً أفضلَ بكثيرٍ من باقي الأنظمة العربيّة، إلاّ أنّ سؤالَ الحريّات يبقى أولويّة مطلقة بالنسبة إلى كلّ ناشرٍ ومثقف» (21).
أما كيف حدثتْ مواجهةُ المثقف للرقابات العربيّة حتى اليوم، وكيف يرجَّح أن تحدثَ في المدى المنظور، فبالوسيلتين الآتيتين:
أ ــــ الطباعة خارج البلد الذي يتعرَّض فيه المطبوعًُ للرقابة. فكتبُ الصادق النيهوم، مثلاً، مُنعتْ في التسعينيّات من لبنان (حيث طُبعتْ في الأصل)، وذلك بتحريضٍ من جهاتٍ دينيّةٍ معيّنة، لكنها سرعان ما طُبعتْ في سوريا وتسرّبتْ من ثمّ إلى لبنان. وفي المقابل، نشر نبيل سليمان روايته «السجن» في بيروت عام 1972 بعد منعها في سوريا عام 1971، ومن ثمّ سُمح بتداولها في سوريا طبعةً تلو طبعة، قبل أن تحصل على الموافقة طبعتُها الخامسة عام 1995؛ «فمن حسنات ومفارقات الرقابة في سوريا»، على ما يقول سليمان، أنّ ما «تُمنع طباعتُه في سوريا لا يعني بالضرورة أن يُمنع تداولُه إذا طُبع في الخارج». كما نشر مصطفى خليفة رائعته «القوقعة» في بيروت، وها هي الآن في طبعتها الثانية خلال عامين، لتشهدَ على أنّ جبروتَ السلطة لا يُطفئ نيرانَ الإبداع اللاهبة. وقل الأمرَ عينَه في «مديح الكراهية» لخالد خليفة و«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ (طُبعتا في بيروت) وعشراتِ الأعمال التي طُبعتْ خارج أقطارها لكنها اكتسحتْ قلوبَ العرب وحصدتْ عدداً كبيراً من الجوائز.
ب ــــ النشر على الإنترنت. أمام المطبوعات اليوم، وبخاصةٍ المقالاتُ والدراساتُ لا الكتب، مجالٌ فسيحٌ للانتشار عبر الشبكة العنكبوتيّة. وقد يختار الكاتبُ أن يكون «نصفَ عاقلٍ ونصفَ مجنون»، فينشرَ مقالَه كاملاً على الإنترنت، ومجتزأً على الورق. ولئن كان ذلك التصرّفُ لا يَضْمن لصاحبه ألاّ يتعرّضَ لملاحقة السلطات بسبب مقاله الكامل، فإنه يضْمن على الأقلّ للمجلة أو الصحيفة دخولَ القطر المعنيّ على الأرجح.
سيسارع البعضُ إلى الجزم بأنّ الأنظمة تحْجب المواقعَ الإلكترونيّة المسيئة إلى سمعتها وكرامتها وإلى الأخلاق الحميدة، وذلك من خلال تحكّمها بـ«البروكسي». وهذا صحيح. إلاّ أنّ ثمّة اليوم وسائلَ وكتيّباتٍ لتجنّب الحجْب أو شيءٍ منه. وفي هذا الصدد يكتب دايفيدسون: «صارت الرقابة على الإنترنت أشبهَ بممارسةٍ من خارج هذا العصر؛ إذ إنّ العديد من المناطق الحرّة والجامعات الجديدة، وخصوصاً تلك التي في دبي، أضحى يمْلك خطوطَ اتصال «مباشر» بالإنترنت، وبالتالي يتجاوز وحداتِ خدمة البروكسي» (22).
وختاماً، فإنّ السطور السابقة لا تستقصي موضوعَ الرقابات في الوطن العربيّ كما سبق أن ذكرتُ في المقدّمة. يكفيها أن تكون ثغرة في جدارها، تمهيداً لإلغائها من حياتنا، والاكتفاءِ بوضع ضابط «التصنيف» تبعاً للفئات العمريّة فحسب. لكنّ ذلك موضوعٌ لحديثٍ آخر.
* رئيس تحرير مجلة الآداب
وهذا المقال جزء من فصل من كتاب مهدًى إلى ذكرى المناضل الوطنيّ والديموقراطيّ الكبير شفيق الحوت، كان يُفترض أن يصدر قريباً، من إعداد د. أنيس صايغ. ولكنّ المنيّة وافت صديقي الباحث والمناضل الأخلاقيّ الكبير أنيس صايغ هو الآخر بعد خمسة أيّام من إرسالي بحثه إليه.
المراجع
(1) كريستوفر م. ديفيدسون، جريدة الأخبار، 21/11/2009.
(2) كلّ المعلومات هنا وردتْ في مجلة الآداب، عدد 7ـــ8/2002، الذي يتضمّن ملفّاً عن الرقابة في سوريا، من إعداد محمد جمال باروت.
(3) لمعلومات أكثر تفصيلاً، راجع ملف الرقابة في مصر، مجلة الآداب، 11ـــ12/2002، من إعداد أحمد الخميسي.
(4) حسام ممدوح، مجلة الرائد، 12/10/2009.
(5) محمد شعير، الأخبار، 17/12/2009.
(6) مجلة الآداب، عدد 4ــــ6، 2009.
(7) جريدة الأخبار، 18/7/2009.
(8) جريدة الحياة، 22/3/2005.
(9) سفيان الشوراني، الأخبار، 17/12/2009.
(10) عمر عبد اللطيف. http://www.syriahr.com/18ـــ6ــــ2008-syrian%20observatory5.htm.
(11) حسام ممدوح، مصدر مذكور.
(12) خضر الآغا، مجلة الآداب، 7ــــ8/2002، ص 69.
(13) المصدر السابق، ص 64-65.
(14) http://www.paldemocracy.ps:80/forum/showthread.php?t=1965
(15) مجلة الآداب، ملفّ الرقابة في المغرب، إعداد عبد الحق لبيض، 1ــــ2/2003.
(16) مجلة الآداب، 7ــــ8/2002، ص 59.
(17) مقدّمة كتابه «بيان الحدّ…»، 1996.
(18) المصدر ما قبل السابق.
(19) الأهرام ويكلي، 28/1ـــــ 3/2/1999 (ترجمتي).
(20) مُنع عدد مجلة الآداب الذي يحتوي الملفّ الرابع عن الطائفيّة في الوطن العربيّ لتضمّنه مقالاً عن الطائفيّة في سوريا.
(21) الأخبار، مقابلة أجرتها سناء الخوري مع كاتب هذا المقال، الأخبار، 17/10/2009.
(22) مصدر مذكور سابقاً.
الاخبار