صفحات ثقافية

الثقافـــة رقيبـــاً

null
عباس بيضون
ربما يحسُن أن نتكلم عن ثقافة الرقابة بدلاً من الكلام على رقابة الثقافة، نتجه فوراً في مسألة الرقابة الى اتهام الدولة، إلا أن دولنا الغاشمة أضعف الرقباء في الغالب، استبدادها خسر مع الزمن حجته الايديولوجية والثقافية واهترأت مقوماته العقائدية، فبات محض تسلط وعسفاً صرفاً.
حين تقوم الدولة بمهة ايديولوجية فانها تقوم بها نيابة عن مؤسسة دينية او اجتماعية او طائفية الارجح ان المجتمع رقيب أكبر. عمال المطابع في مصر مثلا يحاكمون الكتب قبل نشرها وقد يسقطون ما لا يوافقهم منها. ثم ان خشيتنا من الطوائف والجماعات أكثر من خشيتنا من الدولة غالبا،ً وما تغض عنه الدولة لا تغض عنه الجماعات. ان لنا من نفسنا رقيباً ولنا من ثقافتنا نفسها رقيباً، وثقافتنا تحمل هذه الرقابة في ضميرها وعقلها. المحو وازالة الآثار عنصر مكون في التاريخ ضُربت رقابة لا نعرف مداها على تاريخ ما قبل الاسلام، وفرض شيء كهذا على تكوين الاسلام نفسه. الا ان القليل الذي نفذ من وراء الرقابة يتعرّض اليوم لرقابة ثانية. ما قَبِله التراث لا نَقبله اليوم وما غضَ عنه السلف لا نغضُ عنه. الحنين الى التراث والسلف لا يمنع ان جانبا منهما يُهدر عمداً وبعضاً منها مطمور تحت تحريم حقيقي.
ثقافة الرقابة هي ايضاً ثقافة المحو والاهدار، ثقافة النسيان والاغفال الطوعيين جداول الرقابة في عديد البلدان تقوم على مبدأ واحد بسيط هو أن ما لا يناسبنا لا يوجد بالنسبة لنا ولا اسم له عندنا. لا توجد الخمور مثلاً الا ما سمّوه الشراب الانكليزي والشراب الروسي والشراب الفرنسي كناية عن الويسكي والنبيذ والفودكا. الديانات الأخرى لا توجد واذا عرض ذكرها فكتبها مجرد كتب هنا ومعابدها مجرد معابد. لا ذكر بالطبع ولا اسم لما يُعد هرطقة او مروقاً. الرقابة هنا اكثر من أداة انها عنوان ثقافة لا تطرد الآخر من عقلها فحسب لكن من لغتها ايضاً. التطهير هنا يتم في اللغة اولاً فهي تتحول الى مثال، هي الآن لا توجد خارج الدين والواقع ذاته لن يوجد الا في الدين. حكم الآخر هو حكم غير موجود اصلاً فلا عجب إذا لم يكن لحياته اي حق ولوجوده أي سبب.
حق الوجود لا يقرره الوجود نفسه، إذاً فلا بد ان يصدر عن شريعة اعلى او عن مثال أعلى. ليس الدين وحده هو المرجع، فعلى طريق الدين وغراره تنشأ مراجع اخرى. الوحدة مثلاً، وحدة الامة أو وحدة العقيدة أو وحدة التاريخ مصدر للوجود ولا يحق لما ينافيها او يخالفها ان يوجد أصلاً. وصمت فوراً فكرة انعقاد مؤتمر للاقليات في مصر، واعترضت الاقلية نفسها على المؤتمر، فليست عند نفسها أقلية وليست للاقلية إزاء مثال الوحدة حق وجود.
نعرف كيف تنفي بلدان خاضت في الحرب الاهلية حتى الرّكب عن نفسها عار الانقسام والفتنة، وتُرد مجازر بمئات الآلاف الى طارئ غير مسمى. المثال القومي على غرار المثال الديني وكذلك المثال الماركسي والتحديثي والإسلاموي تغدو مصدر الموجودات وما ينافيه يفقد ببساطة حقه في الوجود فلا تصح تسميته… بالكامل.
هكذا يغدو المثال رقيباً أعلى وتنهض منه ثقافة كاملة هي ثقافة اللامسمى. مع تسيد المثال واستغراقه كل شيء تبدا ثقافة قوامها الريبة والتلصص والانتباه والتوجس والوصم والنبذ والاتهام. لنقل ان التفتيش هو ضميرها وفحص النوايا ادارتها والنبذ والاقصاء غايتها. يكاد عمل الرقيب يستغرق كل شغلها وحركتها. لا تنتج ثقافة كهذه ولا تعنى بالانتاج او الابتكار أو البحث فجل سيرها هو في الدوران حول نفسها، وطحن ما تم طحنه منها واعادة صياغة ما تواترت صياغته. انها ثقافة لا تبحث بل تجد وما تجده في الغالب تام وجاهز، ليس عليها الا المديح المتجدد لتمامه والتغني باشراقه ودوارنه. وفي المديح والتواتر والتناقل يترسخ ويغدو ايمانا وينجو من كل مساءلة او جدال. لنقل ان مثلاً كهذا في فلكه الاعلى لا يعمل الا كما تعمل الاقمار الاصطناعية يرصد ويراقب ويفتش. انه رقيب قبل كل شيء ومهمته أن يفحص ويتحرّى ويطهِر ويطارد وينبذ في نهاية الامر. لنتأمل الآن في السجال الاهلي اللبناني، انه خوف يتحول ايمانا ويبني حول نفسه محاكمة أحادية ترجع الى نفسها فحسب وتقيس على نفسها، وتحيط نفسها بدائرة من الارتياب والفحص والتوجس من الفلك الاخر الدائر حول نفسه أيضا. لنقل اننا بصدد افلاك تراقب بعضها بعضا او اننا، رغم هذه الثرثرة عن التعايش، لانرى الآخر موجودا ولا نمنحه حق وجود. ليس الآخر بالنسبة للواحد سوى ريبة وشبهة وخطر. اي انه في حكم غير الحقيقي وغير الموجود.
كيف يمكن تكوين ثقافة من افلاك تامة منفصلة. كيف يمكن انتاج تاريخ وانتربولوجيا وعلم نفس وفلسفة من مثالات كاملة، لا تني تكتمل وتتجه الى افقها الاعلى. لن يكون التاريخ عندئذ سوى الرقابة على التاريخ، ولن يكون الفكر سوى الرقابة على الفكر ولن يكون العلم سوى رقابة على العلم. هل نتعجّب من اننا لم ننتج علماً ولا فكراً ولا تأريخاً. يولد الفكر لكي لا يبحث بل ليراقب، يولد ليطهّر ويصفّى وينبذ. هل نتعجب من أن نتراجع عكسياً الى انقسامات فتفتيتات فحروب أهلية. هل نتعجب من أن تكون الحروب الاهلية هي تقريباً كل انجازنا التاريخي. الكليشيه من كل نوع، ليس الكليشه القديم لكن أيضاً الحديث والاحدث. ليس الكليشه الديني أو القومي فحسب بل ايضاً الكليشه الديموقراطي والتعددي والتقدمي والتحرري الماركسي.. انه الكليشيه ما تنتجه ثقافتنا.
كل فكر واتجاه وتيار ينتج فوراً الكليشه الخاص به. لا نتوقف عن انتاج حقائق في ذاتها ومثالات كاملة ومصادر وجود ومفاتيح نهائية. ان الرقيب عندئذ هو الذي يفعل في كل فكرة وكل اتجاه، الرقيب الذي هو اله أفكارنا يصنع من كل فكرة إلها، يصنع افلاكاً وجواهر بلا عدد، ومع الافلاك والجواهر ريب وإعدامات. تبدأ كل فكرة بحفر مدارها وطرد الآخر من فلكها. تبدأ كل فكرة باختراع وجود، الآخرون فيه في حكم غير الموجودين. انه الرقيب يتبع رقيباً ويسلم ويستلم ويؤسس لرقيب.
ملحق السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى