صفحات الناس

إلى زمن الطوابير

null
تاج الدين الموسى
كان أحدنا عندما يحكي قصة لأبنائه عن زمن الطوابير الغابر يقول عن تلك الأيام: (تُذكر وما تنعاد يا أولاد). لكن لفريقنا الاقتصادي على ما يبدو قدرات خارقة غير منظورة، منها ما هو منسوب إلى السماء مثل إحياء العظام وهي رميم، فها هي ذي الطوابير تعود إلى الحياة, بزخم يبزّ في جبروته الطوابير في أيام عزّها قبل نحو ربع قرن, وذلك في مراكز توزيع شيكات دعم المازوت وفي أماكن صرفها في المصارف، بعد أن كانت قد انتقلت إلى رحمة الله غير مأسوف عليها منذ زمن طويل، وقرأنا على روحها المزيد من الفاتحات وسواها من آيات الذكر الحكيم.
ربما كان قصد الحكومة أن تقول للأجيال الطالعة بصريح العبارة: تعالوا تفرجوا كيف عاش آباؤكم وأجدادكم, فاحمدوا الله واشكروه وبوسوا أيديكم وجهاً وقفا لأنكم تعيشون في نعمة ما بعدها نعمة قياساً بالأيام الخوالي التي عاشها من سبقكم, وكل من يقول غير ذلك هو ناكر جميل بالفعل، إذا لم يوصف بعبارات أخرى أشدّ وأقسى.
قبل نحو عقدين ونيف، يومَ كانت الطوابير جزءاً من حياتنا، كان أحدنا عندما يمر بطابور، يندس فيه، مهما كان طوله، وعدد صفوفه، وأنساقه، دون أن يسأل عن السلعة التي سيحصل عليها بعد ساعة أو ساعتين أو أكثر، لاعتقاده الجازم أنه في نهاية الأمر سيحصل على علبة محارم ورقية أو قنينة زيت مازولا أو علبة سمنة نباتية مهدرجة أو كروز كبريت أو كيلو موز أو ليمون أو كروز دخان حمراء طويلة أو قصيرة، هذا إذا ما ضحك له الحظ وحظي باستثناء موقع من وزير الصناعة أو أحد المحافظين يخوله شراء براد بردى بباب مصروع وثلاجة مخلوعة أو تلفزيون سيرونكس من هذا القبيل.. إلخ.
في هذه الأيام لم يعد الجميع يندسون في الطوابير الحاشدة في أماكن منح الشيكات أو أمام المصارف، فثمة من حرمهم القانون الذي صدر عن مجلس الشعب من الدعم بشروط وضعتها الحكومة، واشترط المجلس تعديلها دون جدوى، حتى ولو كانوا من أصحاب الدخل المحدود الذين ليس لهم في الحياة الدنيا من متاع سوى رواتبهم، كمثلي، لأن راتبي الشهري تجاوز مع راتب زوجتي مبلغ (33333) ليرة، وهو الحدّ الفاصل بين مستحقي الدعم وغير مستحقيه على الرغم من أن الجزء الأكبر من هذا الراتب يذهب للصرف على ثلاثة في الأسرة عاطلين عن العمل. وثمة من كان من أصحاب الحساسية العالية حين حاول الالتحاق بأحد الطوابير، ورأى ما رأى من تدافع وسمع ما سمع من حوارات رفيعة المستوى، حلف يمين طلاق بالثلاثة أن يتحول من مدعوم من الحكومة إلى داعم لها، فترك شيك الخمسة آلاف، وسيترك لها الشيك الثاني إذا كان سيحصل عليه عبر الطابور…..
القصاب (أبو أحمد دعموس) يقترح على الحكومة أن تضيف شروطاً أخرى فتحرم من الدعم في العام القادم من يزيد خصره على الأربعة والخمسين سنتيمتراً ومن يزيد وزنه على خمسة وستين كيلو غراماً..
قلت لأبي أحمد: من قال لك إن هناك دعماً في العام القادم؟ فإذا قسنا على القاعدة التي تقول إن أول الرقص حنجلة، فإن الدعم الذي ذهب في العام الماضي إلى جميع أهل البلد، وفي هذا العام ذهب إلى الجزء الأكبر منهم، فإنه سيذهب في العام القادم إلى الذين يعيشون تحت خط الفقر ممن اصطفوا قرب الملعب قبل نحو سنتين وسجلوا أنفسهم لدى مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل. أما في العام بعد القادم فسنقرأ الفاتحة على روحه، أي أن الحكومة وقتئذ ستبيعنا نفطنا المستخرج من أرضنا بالأسعار العالمية.
صحيفة النور  السورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى