الخلل الرئيسي في المشروع العربي (*)
الدكتور عبدالله تركماني
منذ النكبة الفلسطينية في العام 1948 وحتى الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 والعالم العربي ينحدر في هزائمه ونكساته وخيباته، ولكن بين التاريخين ماذا تغيّر في الخطاب العربي والمشهد العربي والمجتمع العربي ؟
إنّ ما أصاب المشروع العربي هو أنه ظل أسير تجاذباته وأزماته، ولم يوسع قاعدته على أساس المواطنة والانتماء والتعددية. لذلك لم تظهر الدولة الديموقراطية الحديثة إلا في الشكل التبعي للنظام، وتحول الخطاب القومي إلى قناع يخفي التخلف والعجز والعيوب. ولم تتأسس بالتالي العلاقة التعاقدية بين الفرد والمجتمع، الفرد بصفته مواطناً لا شريكاً في النظام أو مستفيداً من خيراته أو عضواً في الطائفة والعشيرة والقبيلة.
ومن هنا بدأ خلل المعاني والوظائف والأحوال، إذ لم تعد سلطة الدولة المعبِّر الحقيقي عن أهداف وتطلعات وأماني الشعب الذي انبثقت منه، فبدلاً من أن تمارس دورها في تحقيق التغيير لعبت دوراً آخراً في تجميد وقمع وتعجيز المجتمعات العربية، فغابت قضية التغيير عن المجتمع وغابت معه الحيوية والتفاعل والتواصل والأولويات والنقد والمحاسبة.
على أي حال نحن إزاء عجز مضاعف ومركّب في العالم العربي، سواء لجهة معالجة المشكلات المتراكمة والمزمنة في الداخل، أو لجهة تطوير صيغ ومؤسسات العمل العربي المشترك، أو لجهة التعاطي المجدي مع التحديات الخارجية وطرق التعامل مع التحولات الجذرية والمتسارعة التي يشهدها العالم، منذ أكثر من عقد، على غير صعيد من أصعدته التقنية والحضارية، فضلا عن الانقلابات والانهيارات السياسية والاجتماعية والأيديولوجية. والعجز في الداخل هو الوجه الآخر للتبعية والهامشية لجهة العلاقة مع الخارج على المستوى العالمي، لأنّ من يعجز عن إدارة شؤونه وتنمية بلده وبناء قدرته، بإطلاق قواه الحية واستثمار طاقاته الخلاقة، لن يقوى على ممارسة دور فعّال على مسرح الأمم.
وهكذا، فبعد عقود عديدة من التجارب المريرة والنضالات المتواصلة، وراء مشاريع اختلفت عناوينها ونسخها، نجد أنّ الحصيلة واحدة، وإن تفاوت الأمر بين بلد وآخر: إعادة إنتاج الفقر والتفاوت أو القهر والتسلط أو الجهل والتعمية، فضلاً عن إنتاج المزيد من التبعية والهامشية، ولا عجب أن تكون الثمرة السيئة لذلك كله الهزائم المتلاحقة.
عندنا، الأمور تجري بالعكس من أكثر البلدان وفي أغلب الحالات: التعامل مع التحولات والمستجدات بعقلية المحافظة والتقليد، أو بلغة التهويم والتهويل، أو بعين الاختزال والتبسيط، أو بمنطق الثبات والتحجر والانغلاق. بل أنّ بعض العرب يواجهون الهزائم والكوارث بالعودة إلى القديم، بل الأقدم والأسوأ من الصيغ والمفاهيم أو النظم والتقاليد المتقادمة أو المستهلكة والعقيمة، فيما التعاطي المجدي مع التحديات الجسيمة يتطلب المبتكر بل الاستثنائي من الأفكار والمواقف والإجراءات.
لنعترف: ثمة منظومة أيديولوجية قومية انهارت مع سقوط النظام العراقي السابق، بمسلماتها الثابتة وأطرها النظرية وآلياتها العملية، بقدر ما فقدت مصداقيتها، بساستها وأمنائها وقممها، بجنرالاتها وإعلامييها، بمفكريها ونظرياتهم المتهافتة، فضلاً عن مثقفيها القاصرين والمذعورين من التحولات الثقافية العالمية، وسائر رموزها الذين بحجة الدفاع عن شعب العراق أو عن سمعة العرب والكرامة القومية، غرقوا في وهم المارد العراقي بقدر ما وقعوا في فخ الاستراتيجية الأمريكية. والنتيجة – كما هي العادة – خراب المعنى وتدمير القضايا، على ما تشهد العلاقة مع قضية الوحدة العربية، حيث الدعاة والمنظّرون لها هم الذين عملوا على تقويضها بعقلياتهم القاصرة وأفكارهم الأحادية وتصنيفاتهم المتخلفة وقصور وعيهم. وإذا كان ثمة عمل عربي ناجح، فصناعه وأصحابه هم المنتجون والمبدعون الذين يسهمون من غير ادعاء في خلق مساحات ولغات وأسواق عربية للتداول والتبادل والتفاعل.
لقد استمرت الأنظمة العربية في نفاق الدعوة القومية الكامنة في لباب وعي مواطنيها، حفاظاً على الشرعية في بعض الأحيان، وركوباً للموجة في بعضها الآخر. فإذا كان لا مفر نظرياً من وحدة عربية تعبر عن الحالة الثقافية العربية، ولا طريق لتحقيق ذلك عملياً، فليكن الحل في أن تمارس الثقافة تجلياتها بمعزل عن السياسة. خاصة أنّ النظام الإقليمي العربي تقاومه المصالح وتعطله الامتيازات والعادات والمجاملات، بل تحبطه ثقافة سياسية امتهنت التسويف، وتخشى النخبة فيها التصريح بما هو حقيقي مسايرة للجمهور الذي يحب أن يسمع الكلام المعسول والأماني الوردية و ” هزيمة العدو شر هزيمة “، وتسكره أحلام اليقظة وبشائر الوهم.
إنّ النظام الإقليمي العربي يبدو في حالة ضعف ووهن شديدين ويجد نفسه عاجزاً عن التصدي للأزمات الكبرى التي تواجه الدول العربية، وتبدو إزاء ذلك الحاجة ماسة لإعادة صياغة النظام ومؤسساته بما يتوافق مع الأوضاع والمعادلات الجديدة، التي أضحت تمثل تحدياً كبيراً للأمة العربية ومستقبلها السياسي وكينونتها في الخريطة العالمية.
أما صفات النظام المأمول فهي مبنية على: ترابط الحكومات والمجتمعات ترابطاً منطقياً وحديثاً، قائماً على التفاعل الحي والمرن، وعلى مؤسسات قابلة للتطور. ومن هذا التوافق المحلي ينبثق نظام إقليمي له مرجعية واضحة. والسؤال هو كيف نعيد بناء النظام العربي من حيث هو نموذج الحكم والإدارة والإنتاج داخل كل قطر عربي ومن حيث هو منظومة تعاون وتكتل وتضامن بين المجتمعات العربية نفسها.
لا اعتقد أننا نستطيع أن نتجاوز وضع الانحلال، وما سينجم عنه من تفتت للقوى وتنازع وصراعات وفوضى، ما لم ننجح كمجتمعات في إعادة بناء رؤية موضوعية جديدة وخلاقة لهذا النظام العربي الذي نتحدث عنه في جانبيه المجتمعي والإقليمي. وأعتقد أنّ الدور الأساسي للمثقفين يدخل – تحديداً – في المساهمة الجدية في صوغ هذه الرؤية الجديدة وفي العمل على نشرها وتطبيقها في الواقع، وهذا يتطلب في نظري حساً نقدياً عميقاً وجرأة على التخلص من النماذج والكليشيهات القديمة الفكرية والسياسية، وقدرة على التواصل مع قطاعات الرأي العام المختلفة، وارتفاعاً على المصالح الآنية. وأعتقد أنّ المثقفين هم أصحاب الدور الأول في صوغ مثل هذه الرؤية التي لا يمكن من دونها قيام أي عمل سياسي منظم جديد ولا إطلاق المبادرة السياسية للمجتمع، كما لا يمكن من دونها التفكير في إعادة بناء المؤسسات المختلفة الاقتصادية والإدارية والقضائية والقانونية وسواها.
إن التعاطي المجدي مع التحديات وتجاوز الأزمات يحتاجان إلى عقل جديد وثقافة مغايرة ونظام آخر لصناعة الحياة والمستقبل، فالقيمة الأولى في عالم اليوم هي لما ننجزه من الابتكارات في المعرفة والتقنية والقيم الحضارية، وليست لثقافة الاستقواء والطغيان أو العنف والتطرف.
كفانا أولاً، مكابرةً وتهرباً من حمل المسؤولية. وكفانا ثانياً، إنكاراً للحقائق الصارخة. وكفانا ثالثاً، التمسك بمقولات وقيم تورث الهزائم والمهالك. وكفانا أخيراً، الاستشهاد بنصوص حول الدفاع عن النفس لم يحسن أصحابها سوى انتهاكها.
تونس في 3/2/2010
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
القدس العربي