صفحات مختارة

أطروحة العولمة المضادة

خيري منصور
بعكس ما حدث في الكثير من دول العالم، لم يهيئ العرب لأجيالهم الناشئة حاضنات ومناخات للتأهيل القومي، بدءاً من الدفاع عن اللغة حتى صيانة حدود الهوية، ورغم أن لغة كالفرنسية تُظلل أكثر من أربعين دولة ضمن ما يسمى الفرانكفونية إلا أن الفرنسيين بدأوا يستشعرون الخطر على لغتهم، في وقت يقال فيه إن أكثر من عشرة آلاف لغة باتت عرضة للانقراض، لهذا يعقد الفرنسيون مؤتمرات وندوات هي في جوهرها دفاعات عن لغتهم، وتكريس لوجودها، وكان فلاسفة فرنسا وأكاديميوها من أوائل الذين تصدوا لفوكوياما لدحض أطروحته عن نهاية التاريخ، واتهم بأنه أعاد إنتاج الفيلسوف الألماني هيجل ولوى عنقه كي يلبي أهدافه التي كانت في الصميم من استراتيجية الإدارة الأمريكية التي كان يعمل موظفاً فيها .
ولا نبالغ إذا قلنا بأن هناك عرباً يرطنون بلغتهم الآن، وقد بدأت تسود لغة هجين تبدو كما لو أنها استشراقية، فالأسماء الأكثر تداولاً للمحال والمطاعم وقوائم الطعام والفنادق وأحياناً الشوارع في بعض العواصم العربية هي ليست عربية، أما الأخطاء التي يرتكبها إعلاميون عبر التلفزة فهي دليل حي ويومي على أن اللغة قد أصبحت في خطر .
إن مصطلح التأهيل القومي لا يعني أية دلالات ذات صلة بالشوفينية أو التشرنق على الذات، والفرنسيون الذين يقولون بصوت جهوري إن ما ليس فرنسياً ليس واضحاً لا يشعرون بأنهم يضعون لغتهم فوق لغات الآخرين، لكن هذا الهاجس الثقافي يستجيب لعدة عوامل منها الذاتي والموضوعي . والعولمة التي كتب عنها الكثير بمختلف لغات العالم، بقيت في نطاق التوصيف، وعوملت كما لو أنها قدر لا فكاك لأحد منه، رغم أن هناك عولمات لا عولمة واحدة، وقد تكون ثقافة المقاومة والدفاع عن الحقوق والخصائص والهويات المهددة عولمة مضادة .
ولا نستطيع أن نسمي توجه الناشطين من مختلف القارات الى فلسطين والتظاهر ضد الجدار العنصري إلا بعداً من أبعاد هذه العولمة المضادة، أي البحث عن مشترك بشري لهموم ومكابدات تعيشها الشعوب المنكوبة، سواء بالتخلف أو الاحتلال أو الطغيان الديكتاتوري، والتأهيل القومي يبدأ من الدفاع عن أهم القلاع وهو الهوية، لكن الهوية لا تنفصل بأية حال عن موروث ولغة وثقافة، وربما كانت الكبسولة التي تحتشد وتتقطر فيها هذه الأقاليم الثلاثة .
لم تكن شعوب أوروبا وآسيا بالتحديد طيعة للتأقلم مع العولمة في بعدها السلبي القائم على قطعنة الشعوب، وحذف ملامحها، وثمة دول خصصت ميزانيات هائلة تنافس ميزانية وزارة الدفاع للثقافة، لأن ما يمكن أن تتعرض له الثقافات من غزو واستيطان لا يقل عما يتعرض له التراب من احتلال وانتهاك، والجيل العربي الذي تجاوز الستين من العمر ليس مقياساً يحتكم إليه لقياس منسوب التأهيل القومي لأنه تربى في زمن آخر ورضع حليباً آخر، والخطورة هي في الأجيال الناشئة وما يليها من أجيال مقبلة، فإذا استمرت متوالية التدجين والتأقلم فإن النتيجة ستكون كارثية، بحيث يجد العربي القادم نفسه غريب القلب والذاكرة واللسان .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى