الثّورة الهادئة
حسان العرفاوي
انقلب المشهد السياسي في الغرب رأسا على عقب. فالطّبقة العاملة، كما كان يحلو للأحزاب اليساريّة تسميتها، غدت تُصوّت في المواعيد الانتخابية لصالح اليمين فارتبك مُحترفو التحاليل السياسية في تفسير هذه الظاهرة التي تُناقض ذاك اليقين المعهود الذي كان يطمئن عادة إلى تطابُق الموقع الاجتماعي مع الموقف السياسي.
كتاب عالم الاجتماع الأمريكي انغلهارت The Silent Revolution (الثورة الهادئة) تضمّن بعض عناصر التفسير التي أُهملت في فرنسا طالما أنّ الكتاب لم يُترجم إلى الفرنسية التي عادة ما تزدري خطأ الإنتاجات النظريّة الأمريكية. أمّا عن ترجمته إلى العربيّة فحدّث ولاحرج. فذاك التّقرير-الفضيحة الصّادر عن برنامج الأمم المُتّحدة للتّنمية سنة 2003 توصّل إلى نتيجة مفادها أن العرب ترجموا منذ عهد المأمون إلى عصرنا العاثر هذا ما يُترجمه بلد مثل اسبانيا سنويّا!
يقول لنا انغلهارت أنّ نسبة غير مسبوقة من سكّان البلدان الغربية نشأت، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ضمن ظروف من الأمن الإقتصادي والتّراكم المعرفي لم يشهد لهما التاريخ مثيلا. فانتقلت قيم السكان الغربيين من اهتمام، يكاد أن يكون حصريا، بالرفاه المادّي والأمن، نحو تعلُّق أكبر بنوعيّة الحياة وجودتها.
وما زاد في دعم هذا التّوجه، التّغييرات التي طرأت على بنية السّكان العاملين. من ذلك أن الطّلبة قد أصبحوا أكثر عددا من العمال المنخرطين في النقابات وأن الطبقات الوسطى ما انفكت تتوسّع.
وتلك التركيبة الجديدة تفصلُ، من ناحية، بين ما يُسمّى بالحاجيات والقيم المادية وبين الحاجيات والقيم ما بعد المادية من ناحية أخرى. أمّا القيم المادية فتتضمن التعلّق بالإستقرار أو بالنّمو الإقتصادي والنّظام التراتبي والأمن ومكافحة الجريمة، وهي تتطابق إجمالا مع الحاجيّات «الحيويّة» للبقاء. في حين أنّ الحاجيات ما بعد المادية هي، على العكس من ذلك، تتضمن حُرّية التعبير وحماية البيئة، والمشاركة الثقافيّة، والرغبة في المساهمة في القرارات السياسية، وتتطابق مع حاجيّات اجتماعية وجمالية وفكريّة، حاجيّات الإنتماء وتحقيق الذات.
المُفارقة أنّ الأغلبية من الطبقات الوسطى (ما بعد الماديون) تميل إلى التّماهي سياسيّا مع اليسار، في حين أن العُمّال والطبقات الشعبيّة (المادّيون)، مع أنّهم أقلّ رخاء وترفا مادّيّا، يميلون إلى التموقع يمين الخارطة السّياسيّة. لذا فإنّ منطق التصويت التقليدي القائم على الطبقات الإجتماعية انقلب رأسا على عقب بحيث يجد اليسار قاعدته الإنتخابية، أكثر فأكثر، في الطبقات الوسطى، في حين تجد الأحزاب المحافظة سندها أكثر فأكثر لدى الطبقة العمالية ! ويكفي التذكير هنا أنّ عدد العمّال المُصوّتين والمنخرطين في «الجبهة الوطنيّة» (وهو حزب أقصى اليمين الفرنسي) أكثر عددا من العمال المُصوّتين والمنخرطين في الحزب الشيوعي الفرنسي!
صراع القيم
ثلاثة ضروب من العوامل تُحدّد تداعيات تطور القيم على السلوكات السياسية: الإنقسامات «ماقبل الصناعية» (مثل الدين واللغة والإثنية)، والإنقسامات «الصناعية» (مثل الدخل والمهنة والمستوى التعليمي والإنتماء النقابي وكل ما له علاقة بالصراع الطبقي) والإنقسامات «ما بعد الحداثية (تلك التي تعكس قيم الفرد، وخصوصا تلك التي تتأسس على حاجيات ما بعد مادّيّة).
وإذا ما بقي الإنقسامان الأوّلان طاغيين، فإن الأخير يصبح ذا دلالة خاصّة في المجتمعات ما بعد المادية، التي تتسّمُ فيها المسائل المتعلقة بالإيديولوجيا وبأنماط الحياة بأهميّة متزايدة. إنّه الإنهيار المعلن للسياسة الطبقية لحساب سياسة الثقافة والمثل العليا.
ولقد نجمت أحداث أيار-مايو 68 في فرنسا عن عناصر متأتية من الطبقات الوسطى، بأكثر مما كانت متأتية من الطبقة العمالية، حيث كان لفوارق السن أن لعبت دورا يقارب في أهميته الفوارق الطبقية، كما أن المسائل غير الإقتصادية هي التي احتلت موقع الصدارة. وتحليل كهذا ليس مجرد استعادة ساذجة لنظرية «نهاية الإيديولوجيات». فالنزاعات ذات الطّابع الأيديولوجي تنزع نحو مزيد من الحدّة باعتبارها تُمثّل ذاك النّفس الرّوحي في عالم يبدو كما لو أّنه فقد روحه.
وإذا ما كان بروز القيم ما بعد المادية ينزع إلى تقليص الإنقسامات الصناعية الموصوفة أعلاه، من خلال الحد من توجه الطبقات الوسطى نحو التصويت لصالح اليمين، فإنه ليس له بالضرورة نفس المفعول على الإنقسامات ما قبل الصناعية (الدين واللغة والإثنية). بحيث نجد أنّ ما بعد الماديين، وهم في الغالب قليلو الإيمان، يصوتون لصالح اليسار، في حين أن أكثر الأوساط تقليدية، من مؤمنين وممارسين للشعائر الدينية، يرتبطون غالبا بأحزاب اليمين. وعلى نحو عام، وفي مجتمعات الرخاء ما بعد الصناعي، حيث يسهل نسبيا حل النزاعات الإقتصادية، تبدو أهمية النزاعات ذات الطابع الإيديولوجي إلى تزايد، ربما مع تسامح أقل من الفترة السابقة.
ثُمّ إّنّه يتعيّن تمييز اليسار القديم السابق والمركزي الموجود قبل الخمسينات عن اليسار الجديد ما بعد الصناعي. فإذا كان الأول قد برهن على اتسامه بالإنضباطية وبدرجة عالية من التراتبية، فإن الأخير يبدو ميالا إلى منح الأولوية لاستقلالية الفرد.
التعبئة المعرفية
عنصر آخر فاعل في تغيّر منظومة القيم، هو المتمثل في ظاهرة التعبئة المعرفية، أي اكتساب الكفاءات اللازمة لإدارة التجريدات السياسية، وتبعا لذلك، للتنسيق بين أنشطة سياسية متباعدة زمنا وفضاء. وهي كفاءات من شان انعدامها أن يحكم على المرء بالبقاء خارج الحياة السياسية.
وتلك التعبئة المعرفية تعني بأن السكان الغربيين أكثر قابلية للمساهمة في العملية السياسية، وذلك ما يترجم عن نفسه بمساهمة سياسية مختلفة نوعيا : المشاركة في اتخاذ القرارات وإعادة النظر في النخب وتغييرها.
ففي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت النقابات والكنائس والأحزاب السياسية الجماهيرية، بشكل عام، تنظيمات تراتبية، ذات عدد محدود من القادة في القمة وجمهور منضبط في القاعدة. وتلك المنظمات، بالرغم من قدرتها على تعبئة عدد وافر من الأشخاص، كانت تتسم بمستوى متدن من المشاركة السياسية، حيث كانت هذه الأخيرة تنحصر غالبا في فعل التصويت. وهكذا، فإن نمطا جديدا من المشاركة السياسية، أكثر توجها نحو موضوعات محددة وأقل بيروقراطية، من شأنه أن يعبر عن مشاغل الفرد بقدر من الدقة أكبر. في المحصلة، يبدو أن تغير منظومة القيم والتعبئة المعرفية يسيران جنبا إلى جنب، طالما أنهما بين أيدي أفراد من المحظوظين اقتصاديا وتعليميا.
عن جريدة الصباح 10/2/2010