في مغزى انتشال الجريمة الاستعمارية من التقادم
طارق الكحلاوي
في صمت صباح بارد يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 1952 كان فرحات حشاد، مؤسس إحدى أقوى المنظمات النقابية العربية والأفريقية والزعيم الميداني آنذاك للحركة الوطنية التونسية، يجلس جريحا بين جلاديه في الكراسي الخلفية لسيارة مجهولة في الطريق بين مدينتي رادس ونعسان التونسيتين.
حشاد كان لا يزال يصارع الموت، بعد محاولة أولى فاشلة لاغتياله وهو في سيارته. بعد فترة وجيزة سيقومون بإعدامه بدم بارد وإلقائه على حافة الطريق جثة هامدة. في صمت بدأ صباحه وأنهى يومه. والصمت كان مراد جلاديه، ولا يزال.
من الصعب إن لم يصادف تونسي أو تونسية منذ ذلك الصباح وخلال ما يفوق الخمسين عاما الماضية صورة أو اسم فرحات حشاد في أحد زوايا ذاكرته أو زوايا الشارع. كان ذلك انتقامه المبدئي: خلود ذكراه.
غير أنه بقي في مرتبة مقدسة تقريبا، وبذلك بعيدا عنا كأنه في ماض سحيق بدون ملامح أو قصة. حجب هوية المجرمين بدون آجال وعدم القدرة على توجيه الاتهام طيلة خمسين عاما بل تشتيت الأنظار إلى “أياد تونسية” خلف الجريمة كانت كل ما تقوم عليه المنظومة السردية الاستعمارية منذ صبيحة الاغتيال حتى الآن وتشير بذلك نحو هدف واحد: ضمان صمتنا والنسيان. غير أن حقد جلاديه البالغ يجعلهم أيضا يتكلمون خاصة كلما مرت السنوات وأحسوا بحصانة متعاظمة.
حقد كولونيالي مستديم
لا نعرف الكثير عما دار بخلد حشاد أو جلاديه في لحظات الغدر تلك. لكن منذ العام 1997 وأيضا منذ أسابيع قليلة أصبحنا نعرف أكثر عن القتلة. إذ بثت قناة “الجزيرة الوثائقية” يوم 18 ديسمبر/كانون الأول 2009 شريطا بعنوان “اغتيال فرحات حشاد” توفر على شهادة شفوية مباشرة من أحد عناصر منظمة “اليد الحمراء” أنطوان ميليرو (Antoine Méléro) الذي قدم اعترافات مفصلة ليس في علاقة ودور هذه المنظمة في عملية الاغتيال فحسب لكن الأهم هو العلاقة الوثيقة بينها وبين السلطات الفرنسية بما في ذلك إشراف رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك عليها ثم دور وزير العدل الفرنسي سنة 1956 (الرئيس الفرنسي لاحقا) فرانسوا متيران في تهريب القتلة إلى فرنسا بعد اكتشاف أمرهم. وهو ما يعني أن قرار تصفية حشاد كان قرارا سياسيا صادرا من أعلى هرم السلطات الفرنسية.
وفي حقيقة الأمر ليست هذه المعطيات في ذاتها جديدة تماما بما أن ميليرو أصدر كتابا سنة 1997 كان أول اعتراف مكتوب بهذا الصدد لكن مرّ في صمت باستثناء ما نشره بعد سنين قليلة بعض المؤرخين التونسيين.
يعكس شعور ميليرو بالحصانة، خاصة وهو يؤكد استعداده لتكرار الاغتيال، استمرار ذهنية الاحتقار الاستعمارية، وهو الأمر الذي لا يعبر عن الماضي بل عن وضع حاضر، وفقط بذلك نفهم محاولة جزء من النخبة الفرنسية إدراج المادة رقم 4 في القانون الفرنسي لـ23 فبراير/شباط 2005 والتي نصت على “الدور الإيجابي للحضور الفرنسي خاصة في شمال أفريقيا”.
وزير الثقافة الفرنسي الحالي فريديرك ميتران، ابن أخ الرئيس الفرنسي متيران الذي هرّب قتلة حشاد، كان في هذه الأثناء في زيارة إلى تونس يوزع أوسمة “ثقافية” لم يتردد في التعليق على أسئلة أحد الصحفيين: “اغتيال حشاد؟ اليد الحمراء أم اليد السوداء؟”.
أن يكون أول رد فعل رسمي فرنسي غير مبال إلى حد التهكم فذلك لا يجب أن يكون مدعاة للاستغراب. ما يستدعي الانتباه هو ارتخاء رد الفعل التونسي الذي ميز قطاعات متضاربة الأجندات. إثر بث الشريط في ذكرى الاغتيال بما فيها من اعترافات شفوية موثقة في قضية محددة لم تبد بعض الأطراف ذات “الغيرة الوطنية” التي أبدتها في ظرفية التجاذب المناسباتي مع الأوساط الفرنسية وقت الانتخابات.
بعض “المعارضة المستقلة” خشيت توظيفا “انتهازيا” لقضية اغتيال حشاد بما جعلها وفي النهاية في حالة تواطئ مع تاريخ الصمت الطويل ضد حشاد الذي لا يتأخرون في نسب أنفسهم إلى ميراثه النضالي في كل مناسبة ولا مناسبة.
في المقابل تحركت بعض النخبة من خلال عريضة من أجل ملاحقة القتلة. المنظمة النقابية أعلنت عبر قيادتها التي تتعرض للكثير من الانتقاد والتشكيك المفهوم لنواياها، أنها لن تصمت وأسست لجنة. ثم مؤخرا أعلنت لجنة أخرى أنها ستسهر على جهود الملاحقة القانونية في باريس بالذات.
لكن كان من المثير أيضا أن نلاحظ البعض يشكك بأن التركيز على اغتيال حشاد هو “تجاهل” للضحايا الآخرين، وأن الدعوة للمحاكمة طلب “غير واقعي” لأن توازن القوى الراهن لا يسمح به أو لأن تحريك هذا الملف يضر العلاقات الاقتصادية بين تونس وفرنسا في ظرف متأزم أصلا.
لن أهتم هنا بمقارنة ردود الفعل التونسية المترددة بحالات أخرى لكننا إزاء “رأي عام” في حالة موت سريري، إذ تحوز مقابلات الكرة وبرامج “الحوار الكروي” مشاغل مواطنينا، حتى إن “معلقي السياسة” الجالسين في مقاعد احتياط الحياة العامة أصبحوا ينافسون بقوة على حضور مجالس الرأي الفريدة هذه.
عقلانية الموقف الاحتجاجي والمشاغبة القانونية
لا يمكن أن نتجاهل الأسئلة المطروحة مهما كانت بديهية بالنسبة للبعض: علينا ألا نتهرب من مواجهة سؤال المغزى من ملاحقة الجريمة الاستعمارية رغم كل العمل التأسيسي الذي قام به مفكرو ما بعد الكولونيالية بدءا من فرانتز فانون إلى إدوارد سعيد. ولو أن مأزق الدولة ما بعد الكولونيالية أعمل معاوله حتى همش زخم الشعور بالحق في المواطنة الذي خلفه انقشاع الاحتلالات.
من يرى في التركيز الراهن على اغتيال حشاد حجبا لبقية الضحايا مشهوريهم ومجهوليهم لا يريد أن يلحظ معطيات بسيطة من نوع فرادة ركن الاعتراف في هذه الجريمة. والطرف الفرنسي قبل غيره يعلم جيدا أن قضية اغتيال حشاد ليست إلا عنوانا وبوابة للبقية ولهذا سيفعل كل شيء لرفض فتح جدي لملفه حتى بعد رفع السرية المرتقب عنه في السنين القليلة القادمة.
غير أن السؤال الأكثر جدية يتعلق باعتراض “لاواقعية” مطلب الملاحقة. من الصحيح هنا أن الأمر معقد ولا توجد مقاربات قصيرة ومختصرة لتفكيكه. لكن لنبدأ بالأفكار العامة. بالتأكيد فإن قرار الملاحقة القانونية في ملفات تتبع “الأمن القومي” حتى في دول معروفة بتجارب عريقة في استقلالية قضائها يبقى مرتهنا بقرار سياسي.
وبهذا المعنى ليس من الصعب أن نعرف أن تحوير موازين القوى السياسية هو الذي سيتكفل بفك هذا الارتهان. إذ موقف “المطالبة بالملاحقة القانونية” هو موقف سياسي احتجاجي مثله مثل أي موقف احتجاجي آخر يتم التعبير عنه للعموم وبغاية الحشد والمراكمة مثله مثل مقالات الرأي، وعرائض معارضة الحروب، والمسيرات في الشوارع.
غير أن من بين الوسائل العملية والمؤثرة في هذا العمل الاحتجاجي ما يمكن أن نسميها بـ”المشاغبة القانونية”. إذ الغموض المتقصد للقوانين الخاصة بالجرائم السياسية هو أيضا سلاح ذو حدين. وفي سبيل التخصيص على الوضع الفرنسي نشر بعض الشهود الفرنسيين في “حرب الجزائر” بين سنتي 2000 و2001 سلسلة من الشهادات والاعترافات عن الجرائم التي ارتكبتها الأجهزة الفرنسية خلال الحرب بما في ذلك القتل والتعذيب.
أطلق ذلك ردود فعل متنوعة من بينها في الداخل الفرنسي النقاش الذي شق الأوساط الحقوقية والذي تكشف فيه بوضوح سلسلة العراقيل التي أرستها النخبة السياسية الفرنسية عبر عشرات السنين بهدف منع التتبع القضائي مثل “العفو العام” الذي أقر فيه البرلمان الفرنسي سنة 1968 قرارت سرية ترجع إلى سنة 1962 في خصوص “التجاوزات” المرتكبة خلال “حرب الجزائر”، وبأنها تصبح “متقادمة” بعد مرور عشر سنوات على حدوثها.
ورغم كل هذا الوضوح والتحصين يحاجج قانونيون فرنسيون مثل ويليام بوردون (William Bourdon) بأن التعارض بين القانون الدولي وهذا القانون يسمح للمتضررين بمحاولة عرض قضاياهم على المحاكم، خاصة أنه لا يمكن حسب هذا الرأي منح العفو في قضايا انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان بدون منح حق طلب العدالة للمتضررين.
كما يضع آخرون هذه الجرائم ضمن سياق “الجرائم ضد الإنسانية” الأكثر شمولا والمتعلقة بقوانين دولية بما في ذلك “معاهدة جنيف” التي صادقت عليها فرنسا سنة 1951 والتي لا تخضع لأي حدود زمنية وبالتالي تتعالى على شرط “التقادم”.
ورغم فشل بعض المحاولات في هذا الصدد وخاصة إزاء عدم وضوح الحزم السياسي للحكومة الجزائرية فإن ملخص الجدال الفرنسي حول الحالة الجزائرية أنه رغم وجود قانون خاص بها فإن ذلك يشير إلى مدى الثغرات التي تتيح إمكانات “المشاغبة القانونية”.
يبقى من غير الواضح إن أصدرت الدولة الفرنسية أي قرارات سرية أو علنية في شأن العفو عن “اليد الحمراء”. ميليرو الذي يحمل مشاعر خاصة تجاه فرانسوا متيران أشار سنة 1997 في مذكراته إلى أنه قدم وعدا بمنح العفو العام لكل من تورط في اتهامات خاصة بـ”اليد الحمراء”، وهو ما جعله يدعو أصدقاءه للتصويت لميتران في انتخابات سنة 1981 بالرغم من ميولهم اليمينة.
في المقابل لا يمكن إزاء الاعترافات التي نحن بصددها أن نوفق بين احترامنا لأنفسنا والامتناع المطلق عن التعبير عن أي موقف سياسي بداعي تأثير ذلك على العلاقات الاقتصادية بين تونس وفرنسا.
والحقيقة أننا في حاجة في تونس إلى نقاش جدي وشامل حول العلاقات التونسية الفرنسية ومدى تأثيرها إيجابا أم سلبا على وضع البلاد خاصة عندما يصل الأمر إلى أن يخشى بعضنا حتى التعبير الاحتجاجي على عملية الاغتيال.
إذ لا يمكن حينها أن لا نستشعر استرجاع خطاب الخضوع للثقة، والخطاب الذي تماهى طويلا مع الآلة الاستعمارية، واستبطانه للدمغجة تحت عنوان “محاربة الدمغجة” من خلال انتقاء كل الأسباب الدافعة للصمت وتبرير سيادة واستدامة المنظومة النيوكولونيالية.
من جهة أخرى يصر البعض الآخر على تصورات سوريالية تتجاهل تواصل استبطان فرنسا الرسمية للخطاب النيوكولونيالي وأن جزءا من استدامة الاستبداد في نهاية الأمر يرجع إلى منطق فرنسي رسمي تم التعبير عنه على الملأ أحيانا يعتقد أننا في تونس لم ننضج بعد لـ”ديمقراطية” تتجاوز حق الأكل.
كما أنه ومن الناحية الإستراتيجية المصلحية بالتحديد حان الوقت لتفكيك هذه “العلاقة الخاصة” في سياق تحركت فيه مراكز موازين القوى الدولية منذ عقود بعيدا عن باريس بما يجب أن يستدعي حسب البعض موقفا سياسيا لتنويع علاقات تونس الدولية أكثر مما هو حاصل الآن.
إن قضية “ملاحقة قتلة حشاد” لا تتعلق بالماضي إلا بقدر ما يتعلق الصراع من أجل حق المواطنة بالماضي. ومن يرى أنه صراع “سابق على أوانه” إنما يتبنى تصورات سوريالية تعتقد أن المنظومة النيوكولونيالية الفرنسية غير مسؤولة بهذا القدر أو ذاك عن وضع استدامة تهديد حق المواطنة في مستعمراتها القديمة.
وعموما وبمعزل عن التفاصيل القانونية حول “تقادم” الجريمة الاستعمارية فإن أخطر حالات “تقادمها” هي تلك الحاصلة في أذهان ضحاياها.
الجزيرة نت