مهنة الصحافة في إقليم البحر المتوسط: تعليم الشفرة وتناسي الـسياسي
سمير قصير
هذا النص لسمير قصير في ندوة “ممارسة مهنة الصحافة في اقليم البحر المتوسط” التي عقدت في مدينة مرسيليا بين 9 و14 آذار 1994.
الندوة نظمها برنامج “ميدميديا” التابع للاتحاد الاوروبي.
ننشر النص لمناسبة الذكرى الاولى لاغتياله، وبصورة خاصة لأنه يتعلق بممارسة مهنة الصحافة:
ابتداءً، يجدر أن نسجل نقطة لصالح الصحافة اللبنانية، فقد استطاعت ان تقاوم أعقد الظروف وأسوأها، فاحتفظت بوجودها واستمراريتها حتى في الاوقات التي انهارت فيها كافة مؤسسات الدولة والمجتمع طوال فترة الحرب الاهلية في لبنان. ولا شك أن القارئ والباحث والمؤرخ وغيرهم يكنون القدر الكبير من التقدير والاعجاب بالدور المهم الذي لعبه الصحافيون والصحافيات في لبنان حين آثروا المغامرة والتضحية بأنفسهم لتبقى الصحافة اللبنانية حية تشهد على الاحداث وتسجلها وتوثقها وتحكي على الاخص يوميات الحرب الاهلية الطويلة بتعقيداتها واسرارها.
ورغم ذلك، فإن الصحافة اللبنانية تعيش حالياً – أزمة إن لم تكن تهددها في أصل وجودها، فإنها على الاقل تهدد تعدديتها وحريتها.
لكثــرة القيــــــــود الرقــــابيــــة:
الكتابة غير المباشرة (الشفرية) والابتعاد عن السياسة
واذا بحثنا عن المظاهر الاكيدة التي تكشف عمق الازمة، فإن الارقام تشير في آن واحد الى هبوط عدد المطبوعات، والى تراجع ملحوظ في عادات القراءة وشراء الصحف، وهذان المؤشران يمكن أن نلمسهما في انخفاض حجم القراء بنسبة تفوق الـ60 في المئة. وهناك عدة اسباب تفسر هذا الانخفاض مثل انخفاض القدرة الشرائية لقطاعات عريضة من السكان نظراً للازمة الاقتصادية القائمة ولعملية الاتجاه الى تحويل النقد الى الدولار وهي عملية لا تخضع لأية رقابة. فإن الصحيفة اليومية تباع اليوم بألف ليرة (1000) أي بأقل من 4 فرنكات. وهو سعر أقل من التكلفة التي تصل الى 5 فرنكات للنسخة. ولكن من الواضح ايضاً أن السعر المحدد المقترح يبقى حتى الآن مرتفعاً أكثر من اللازم في بلد يبلغ فيه الحد الادنى للاجور 700 فرنك. ولكن الازمة الاقتصادية ليست هي السبب الوحيد، فقد لوحظ أن التراجع في عادات القراءة لا يقتصر فقط على الفئات الفقيرة، بل كثيراً ما نقابل أفراداً ينتمون الى اوساط أكثر رفاهية نسبياً يعترفون بشيء من الفخر بأنهم لا يقرأون الصحف، او على الاقل الصحف السياسية. ولهذا يجب علينا ان نبحث عن الاسباب في اتجاه آخر، مثل منافسة الوسائل السمعية والبصرية، ومثل تراجع الحماس الجماهيري تجاه السياسة والاحداث السياسية.
فقد أصبحت المنافسة التي تلعبها الوسائل السمعية والبصرية ملحوظة خلال السنوات الثلاث الاخيرة مع انتشار “الموجات الهرتزية” عن طريق ما لا يقل عن 30 قناة تلفزيونية مما أضفى على لبنان دون شك ثقلاً مهماً في هذا المجال لا يتساوى معه اي مكان آخر باستثناء ايطاليا. وفي ظل اطلاق الحريات الاقتصادية فإن هذا الازدهار التلفزيوني الذي تغذيه العديد من برامج المنوعات والمسلسلات الاميركية والمكسيكية قد أمكنه أن يجذب اليه ما يقرب من ثلاثة ارباع الميزانيات المخصصة للاعلان، وإن كانت لصالح اثنتين او ثلاث قنوات، مما أدى بصفة خاصة الى الحد من حماس القراء تجاه شراء الصحيفة. اما حول موضوع تراجع التسييس أي الاهتمام بالسياسة فإنه يمكن أن نلمس اثره في أن أزمة الصحافة لم تمنع ظهور كتابات لا تمت للسياسة: من برامج موجهة تلفزيونية ومقال عن الديكور وشؤون المرأة. فهذا هو الاتجاه الذي يسير فيه رؤساء تحرير الصحف عندما يريدون زيادة عدد التوزيع او استرجاع قرائهم. وقد نتج تدهور الحماس السياسي اساساً عما قامت به الحرب من إزالة الاوهام، وعن فشل الصحافة نفسها اذ لم تعرف ولم تقدر على أن تتناول المشاكل الحقيقية لفترة ما بعد الحرب. ويجب هنا الأخذ في الاعتبار تراجع ظاهرة “المهنية” بما تعنيه من عدم إجادة الاحتراف الصحافي وبما ينعكس على المادة المقدمة وتراجع مستواها.
وتلعب الرقابة دورها في صياغة الازمة التي تهدد الصحافة اللبنانية عن طريق تشريعات قديمة وبالية. حقاً إن الرقابة الرسمية غير صارمة ولكن الامكانية في اتخاذ قرار وقف صحف جديدة ما زالت ماثلة. وقد مورست على أية حال مرتين خلال العام الماضي. ولكن مع ذلك، فإن أقسى الضغوط الرقابية وأول محظور عن النشر هو ما يتعلق بالنظام السوري، والامر هنا لا يتعلق بنشر اخبار او تحليلات حول “الاحتلال السوري” وهو مصطلح أرفضه شخصياً، بل بتأكيد الاستحالة على ذكر ما يتعلق بالمظاهر العملية التي تشير الى التواجد السوري. ثم حظر النشر عن المساهمات المالية التي قد يبذلها أحد أبناء كبار الضباط لاحدى الشركات. كما إنه لا داعي بالطبع لفضح اعمال تقوم بها اقسام المخابرات في لبنان او حتى مجرد وصف هذه الاعمال.
اما الحظر الثاني غير الرسمي فهو يتعلق بالمافيا التي كانت تتزاحم في طرق تحركات السلطة، وهنا ايضاً لا يمكن التفكير في نشر عملية اقتسام الغنيمة التي كانت تجري عادة بالتوافق مع المافيا.
وفي الحالتين كان السبب وراء حظر النشر يرجع الى اعتبارات تتعلق بالامن الشخصي، وكانت تبدو واضحة للغاية، ولكن هناك حظر آخر غير رسمي يمكن تفسيره بأسباب غير شريفة. وهو الذي يصدر عن نفوذ المال، حقاً إن هذا النوع من الخطر لم يكن ينطبق فقط على الصحافة بل يمتد الى الجزء الاكبر من النقاش العام الذي يسيطر عليه نفوذ المال(…).
وقد نتج عن جميع هذه العوامل الاتجاه الى نشر هذه الاشياء ولكن بنوع من الشفرة وهو عنوان تقرير حديث لـ”المراسلين بدون حدود”. بل يمكن القول ايضاً بأنه قد تم وضع شفرة حقيقية تسمح للصحافي بأن يقول كل شيء تقريباً لأن من نقاط الضعف في استعمال شفرة غير واضحة أن العديد من القراء الذين ليس لديهم اهتمام مهني بالسياسة يشعرون بالاحباط وبالتالي عدم محاولة بذل مجهود ذهني من أجل فهم ما يبثه الصحافي بين السطور.
حقاً، إن الصحافة في كل مكان من العالم تدار وفقاً لشفرات تتعلق بالكتابة وايضاً بالقراءة، فحتى في الدول الديموقراطية توجد أمور لا يفصح عنها إلا بطريق غير مباشر، ولكن المشكلة في لبنان هي أن جميع الموضوعات السياسية تستوجب هذه الطريقة غير المباشرة ومما يزيد من خطورة الموقف ان الشفرة قد تستحوذ على كيفية التعبير بل والتفكير لدى الصحافي مما يؤدي الى الحد من حب الاستطلاع، كما يؤدي الى فقدان الوسائل الفنية الصحافية.
وهنا لا يوجد سوى حل واحد ممكن بالاضافة الى استعادة الحرية التامة للكتابة وإن بقيت هذه الحرية وهمية للاسف إن الحل ببساطة في هو العودة الى القيم المهنية التي قد تسمح بتحفيز حب الاستطلاع لدى الصحافيين الشبان. ولكن من الصعب العودة الى هذه القيم طالما لا يوجد أحد ينادي بضرورتها وأن يطرح الطرق التي يمكن استعادتها بها. فإن الصحافيين المتمرسين الذين بقوا في لبنان قد اصبحوا متشائمين بل واحياناً شديدي الاستخفاف بالامور ويائسين من اصلاحها ولا يبدو أنهم مهتمون بضرورة نقل تقليد قد يكونون هم أنفسهم قد طالبوا به. أما فيما يخص الصحافيين اللبنانيين الجيدين الذين يعملون في الخارج، فإنهم غير متحمسين للعودة الى وطنهم اولاً لاسباب مادية، وثانياً لأن بعض المحاولات التي جرت من أجل العودة لم تسفر عن نتائج مقنعة فيما يتعلق باعادة إدراج العائدين في الصحافة المكتوبة او التي تتعلق بالوسائل السمعية والبصرية.
وشخصياً فإنني أتفهم ظروف هؤلاء الزملاء الذين يرفضون العودة، بناء على تجربتي الشخصية حتى إن لم تكن معياراً يقاس عليه الا أنها تكشف عن وجود عقبتين اساسيتين هما: الابتعاد عن السياسة وفرض شفرة تتحكم في الكتابة. فقد كان أحد الاسباب لعودتي الى بيروت هي الرغبة الملحة في أن ألتقي كل يوم مع جمهوري من القراء، فقد كنت أبحث عن دور في لحظة كان ايماني بمهنة الصحافة التي مارستها منذ كنت في السابعة عشرة من عمري قد بدأ يفتر. ولكن هذه الرغبة الملحة سرعان ما أصابها الاحباط. فبالاضافة الى المشاكل الخاصة بالتكيف وبالرفض والتي لن أتحدث عنها، فإنني صدمت سريعاً من عدم وجود ردود فعل جماهيرية ليس فقط على مقالاتي ولكن ايضاً على المناقشات التي كانت تكتب عنها الصحافة. وبالطبع، كان لا يوجد أصداء الا في نطاق الزملاء في المهنة والمثقفين بصفة عامة. حتى الامور السياسية كانت تتسم بالتكتم، ربما لأن السياسة لم يعد لها ساحة علنية تناقش فيها بل اقتصرت على الكواليس الخفية التي وضعتها السلطة لنفسها (في بيروت وعلى نحو أوضح في دمشق).
وقد قلص ايضاً من آمالي الشعور بأنني لم أكن أعرف جيداً الشفرة المستعملة، ولهذا لم أكتب عن الشؤون اللبنانية الا مرة واحدة او مرتين، وكان ما كتبته يتعلق دائماً بالمفاوضات الاسرائيلية العربية. وحتى في هذا الموضوع لم يكن ممكناً أن اتناسى الشفرة، وذلك نظراً للحظر المطبق على الكتابة المعمول بها في سوريا ايضاً.
فإن “ما لا يقال” لا يمنع بالطبع أن يقال كل شيء، ولكن لكي يتم ذلك فهناك شروط وهي الالتجاء الدائم الى اللف والدوران، واستعمال الفاظ التورية والى الرجوع الى مراجع تاريخية تافهة.
وبهذه الطريقة الملتوية نعتقد بأننا قادرون على أن نقول كل شيء، وفي كل مرة نكتشف بأن من الممكن التقدم خطوة الى أن نصل الى الحد الاعلى للكتابة فلا نتعداه، وهذا الحد الاعلى الذي لا نتجاوزه هو توجيه الانتقادات للرئيس الاسد نفسه. هنا عليك ان تتوقف تماماً فلا تصريح ولا تلميح.
وكلما أفرغ من كتابة مقال ينتابني رد فعل على مرحلتين، في الاولى أشعر بإعجاب للشجاعة التي بدت مني ثم في الثانية على الفور، أراجع نفسي وأدرك حينئذ بأن هذه الشجاعة ذات فائدة لا تذكر. ذلك لأن الشفرة قد علمتني بأن الثمن في النهاية غير ايجابي وهو التخلي عن دراسة الامور العامة أي التخلي عن سبب وجودنا.