فعل بيروت في دمشق
سمير قصير
قلة من اللبنانيين الذين صنعوا “انتفاضة الاستقلال” يدركون انهم لم ينهوا عهد الوصاية السورية والنظام الامني – المافيوي اللبناني المتظلل بها فحسب، بل خلخلوا في طريقهم النظام الوصي نفسه. ولعل معظمهم إن ادركوا فإنهم لا يأبهون، وهذا الخطأ بعينه. فالى الاهمية التي تكتسبها عودة السياسة الى الداخل السوري في سياق اي مشروع نهضوي عربي، قد يكون استقرار لبنان على الامد المتوسط مقروناً باستقرار سوريا نفسها، ولا استقرار بالديكتاتورية. فادعاء الفرادة اللبنانية لم يعد ينفع، ولا يفيد التعويل على الفوائد التي يجنيها قوم من مصائب قوم آخرين. على العكس، يفترض ان يكون قد تعلم اللبنانيون، ولا سيما اولئك الذين لا ينفكون يتحدثون عن حروب الآخرين، ان بلادهم لا تستطيع ان تكون في منأى عن مصائب الآخرين، وانه قد يكون من الافضل السعي الى تعميم الفوائد على الجميع. ولا بداية افضل من “انتفاضة الاستقلال”، فتعميم الفائدة المتأتية منها يمثل اجمل تحية لها.
في اي حال، بدأ ربيع بيروت يفعل فعله، كما يعرف الذين قرأوا العدد الخاص من “الملحق” هذا الاسبوع. واذ يأتي اول الغيث من كتّاب سوريين زخرت مقالاتهم بعلامات الاعجاب امام ما حصل في بيروت، فهذا الدليل الابلغ على التكامل الممكن بين لبنان وسوريا، وهو ما اخفته سياسة الوصاية المديدة، وقبلها (وليس بعدها، او هكذا يؤمل) ايديولوجيا الخصوصية اللبنانية المفرطة.
اما من لم يقرأ مساهمات الكتّاب السوريين في هذا العدد، وفي أعداد سابقة من “الملحق” او في “قضايا النهار”، فإن الاخبار الآتية من دمشق يمكنها ان تؤكد له ان ما صنع في لبنان صار يعتمل في جسم النظام البعثي، على ما يستدل من ظاهرة تسارع عودة المنفيين، وابرزهم واكثرهم رمزية حتى الآن يوسف عبدلكي الفنان المعارض الكبير (ورسّام “الملحق” اسبوعاً بعد اسبوع).
طبعاًَ، قد يقول مسؤول الدعاية البعثية، إن سئل، ان السماح بعودة المنفيين السوريين الى بلادهم لا ترتبط بهزيمة الحكم الدمشقي في لبنان، بل ان المسؤول اياه سيمضي مؤكداً، لو ترك له المجال، ان هذا قرار يندرج في سياق سياسة الاصلاح التي اطلقها “السيد الرئيس” في “خطاب القسم”. سوى ان شيئاً من الاصلاح لم يحصل منذ اوصلت وفاة حافظ الاسد ابنه الى رئاسة الجمهورية، قبل نحو خمسة اعوام، وان الليونة التي ظهرت احياناً في التعامل مع المعارضين لم تندرج يوماً في سياق انفتاح سياسي، بل جاءت في جانب منها نتيجة ارادة الحكم في تحسين صورته في الخارج، وفي جانب آخر ثمرة الزعزعة التي تسبب بها تداول الاجيال في اجهزة المخابرات العديدة.
اما وقد بدأت تتكرس ظاهرة عودة المنفيين، فانه يمكن القول، بخلاف المسؤول عن الدعاية البعثية ان سئل، انها تأتي هذه المرة في اطار مشروع داخلي يحتاج اليه النظام في لحظة وهنه الاقليمي، وان يكن مشروع الحد الادنى، اي اشاعة شيء من الراحة في المجتمع وصولاً الى التخفيف من النقمة على النظام. للتأكد من ذلك، ربما وجب انتظار مؤتمر حزب “البعث” الذي يفترض ان يعقد في حزيران بعد طول انتظار، ويتوقع منه اقرار عدد من التغييرات، وان يكن ربط المستقبل السياسي السوري بقرارات الحزب الحاكم يشكل تعدياً في ذاته على فكرة الاصلاح. هذا فضلاً عن ان التغييرات المرتقبة قد لا تكون غير تجميلية، او محدودة مثلما يحصل الآن مع المنفيين الذين يزوّدون جواز سفر خاصا صالحاً لسنتين فقط (الجواز السوري العادي يصلح لست سنوات).
لكن الاسوأ من الحدود الموضوعة على عودة المنفيين (وخصوصاً اذا لم يكونوا معروفين من الصحافة الغربية او العربيةً) هو اللا – استقرار السائد في اوساط النظام. فاذا صح الخبر القائل بأن نبراس فاضل احد المستشارين الرئاسيين الذين ارتبطت أسماؤهم بعنوان الاصلاح، وإن من دون نتيجة، ترك سوريا خوفاً على حياته، فهذا يعني ان صفحة المنفى لم تطوَ بعد. وحتى لو لم يصح الخبر، فإن في شيوعه ما يوحي أن النظام غير قادر على اعطاء صورة ثابتة عن نفسه.
في ازاء ذلك، يؤمل ان يكون الحكم الأسدي قد تعلّم على الاقل شيئاً من فشله في لبنان، وهو ان التذاكي واللف والدوران وكل الألاعيب البلاغية التي يبرع فيها مسؤولو الدعاية فيه، او هكذا يعتقدون، لا تجدي طويلاً.
وإن استباق الانهيار يكون بتنظيم النهاية