هذا الدم الأبكم…
حازم صاغيّة
تتحوّل بلدان يُفترض أن لا حروباً داخليّة فيها رُقعاً دمويّة لا تجفّ أجزاء منها حتّى تتوسّع أجزاء أخرى. كلّ يوم عمل إرهابيّ أفظع من الذي سبقه يسمّيه أصحابه شهادة وبطولة. البعض منّا يستغرقه التحليل الاستراتيجيّ ومعنى ذلك في ما خصّ صعود «القاعدة» وهبوطها، أو تغيّرات الاستراتيجيّة الأميركيّة والاستجابات الدوليّة. والبعض يدين ويشجب ويحضّ على الانتقام من المرتكبين، فيما يكتفي بعض ثالث بالإدانة من دون الحضّ.
لكنّ أضعف الأصوات، هذا إذا ما وُجد، الصوتُ الذي يحاول أن يعادل الدم، وأن ينقل الحساسيّة التي يُفترض بذاك الدم أن يُنطقها. فما يجري في العراق وباكستان خصوصاً، وفي عموم العالم الإسلاميّ، ينمّ عن أن الدم المهدور أبكم، لا يجد له لساناً في شعر أو فنّ أو وسيلة تعبيريّة ما، ولا يستثير، حتّى في التحليل، ما يشير إلى أنّ الظاهرة بذاتها محلّ عناية تستحقها.
فلماذا تبدو حساسيّاتنا حيال العنف ضعيفة إلى هذا الحدّ، ولماذا نستقبل العنف باستجابات مفقودة، مكتفين بالتعامل السياسيّ معه، وبالأحرى السياسويّ الناهض على معادلات فقيرة تأييداً أو شجباً؟.
أغلب الظنّ أنّ التعاطي هذا هو، في وقت واحد، من عوارض ضعف الحساسيّة تلك ومن أسبابها. فعندما تندفع الولاءات إلى يقينيّات إطلاقيّة يغدو القتل وظيفة بيروقراطيّة بحتة تقتصر على الكيفيّة والتنفيذ. ذاك أنّ من يظنّ نفسه مالكاً للحقّ، كلّ الحقّ، لا يعود يرى في سواه إلاّ أصحاباً للبطل والباطل الكاملين. ولا بأس أن يموت هؤلاء شرّ ميتة شريطة أن يأخذوا معهم كلّ من يمكنهم أخذه.
ولئن كان العمل الإرهابيّ يستند تعريفاً إلى انعدام التمييز بين المدنيّ والمقاتل، فإنّ «ثقافته» العديمة الحساسيّة تواكبه في انحداره هذا. فهي إذ تعسكر نظرتها إلى محيطها لا تعود ترى فيه إلاّ الأبطال في مقابل الخونة، أو الخونة في مقابل الأبطال. وكلّ ما يُرجى من القتل، والحال هذه، أن يطاول أولئك الخونة ويعفّ عن هؤلاء الأبطال. حتّى الإدانة الرائجة لقيام «مسلم بقتل مسلم» تندرج في المنطق المذكور إذ تجوّز ضمناً قيام المسلم بقتل غير المسلم. يصحّ الشيء نفسه في الاعتذاريّة المعهودة عن «تجاوزات» و»أخطاء» تشوب عملاً هو في جوهره نبيل، علماً بأنّه لا أكثر من عمل بربريّ لا يأتيه إلاّ برابرة معاصرون من أبناء جلدتنا.
وقصارى القول إنّنا إذ نؤكّد أنّ الولاء لدين أو مذهب أو جماعة أهليّة يعلو كلّ ولاء، نكون نطرد الإنسان الفرد من موقعه المفترض كمركز للكون وغاية له في الوقت عينه.
يعزّز هذا الفرز للعالم، ولاءً مطلقاً وعداءً مطلقاً، تلك اللغة الشهاديّة السخيّة التي يتملّكها حبّ نيكروفيليّ للجثث وتحبيب بها. فهي التي ترسم القتل مقاومةً، على ما نشهد في العراق، كما تعيّن الفرد شهيداً مؤجّلاً والموت عادة ممجّدة ما علينا سوى التطبيع معها والتعوّد عليها. وفي دائرة ثقافيّة كهذه، يتحكّم بها تجثيث البشر، يصحّ وصف الزجّال اللبنانيّ إبّان حرب الجبل في الثمانينات: «البيعيش يقضي ع العدى/البيموت الله يرحمو»!. وهي حرب صارت مزاحاً بالقياس إلى الحروب الراهنة التي تظلّلها «الأخوّة».
وهذا محيط هو، بالضبط، نقيض ما يشيعه الاجتماع الإنسانيّ حين يبني دولاً ويسنّ قوانين وظيفتها، في آخر المطاف، محاصرة أسباب الموت وتحسين شروط البقاء. فليس من غير دلالة، بالتالي، أنّ يتأدّى عن ضعف الدول، بوصفه وجهاً آخر للعنف، ضعف في الحساسيّة حيال الارتكاب وفي الحساسيّة حيال الحياة ذاتها. وفي العراق وفي باكستان وفي غيرهما لا يتبدّى في آخر النفق إلاّ حقول قتل متضخّمة الحجم نطلق عليها كلّ الأسماء التي تملكها اللغة إلاّ اسمها الحقيقيّ، ومعه اسمنا الحقيقيّ. عفواً، هل نحن مستشرقون؟ ألا تلاحظون عجز باراك أوباما؟
الحياة