الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّوريةصبحي حديديصفحات العالم

أحدث وصفة لإنقاذ رئاسة أوباما: قصف إيران!

null
صبحي حديدي
لم يكن ينقص إيران سوى ساره بيلين، المرشحة الخائبة لمنصب نائب الرئيس في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية، والعائدة اليوم إلى الأضواء بسبب افتقار الحزب الجمهوري إلى مرشّح أقوى منها لدحر الرئيس الحالي باراك أوباما في انتخابات 2012 (استطلاعات الرأي تمنحها نسبة 16’، مقابل 11′ لرجل الأعمال وحاكم ماساشوستس ميت رامني، نجم الجمهوريين الصاعد).
وقبل أيام انضمت بيلين إلى الجوقة المطالبة بقصف إيران، ليس باستخدام القاذفات الإسرائيلية كما قد يظنّ البعض، بل عن طريق قيام الولايات المتحدة ذاتها بشنّ حرب رادعة لا تتكفل بتدمير البرنامج النووي الإيراني فحسب، بل تكون كفيلة بردع كامل النفوذ الإيراني في المنطقة، وليس في العراق وحده!
طريف، ضمن السياق ذاته، أنها اعتبرت الحرب ضدّ إيران بمثابة الورقة الوحيدة التي يمكن أن تنقذ رئاسة أوباما، بل لعلها تضمن له الفوز بدورة رئاسية ثانية: ‘لو فعل هذا، فإنّ الأمور سوف تتبدّل على نحو دراماتيكي. إذا قرّر أن يتصلّب أكثر ويفعل كلّ ما يستطيع لضمان أمن أمّتنا وحلفائنا، أعتقد أنّ الناس قد يغيّرون تفكيرهم قليلاً، ويقرّرون أنه ربما كان أكثر خشونة مما نراه اليوم’. وقبل هذه الفقرة أوضحت بيلين طبيعة الخيارات الأخرى التي تتيح إعادة انتخاب أوباما: إذا ‘لعب ورقة الحرب’، و’أعلن الحرب على إيران’، وتعهد بأنه ‘سيفعل كلّ ما في وسعه لدعم إسرائيل’، فإنّ ذلك سوف ‘يبدّل الديناميات التي نفترض أنها ستحدث من الآن وحتى ثلاث سنوات’.
والحال أنّ بيلين كانت تقتفي أثر، أو تقتبس (كما أشارت صراحة) فكرة باتريك بوكانان، المعلّق الجمهوري المحافظ المعروف، الذي كتب عموداً في مجلة The Conservative Observer أوضح فيه أنّ على الجمهوريين، ليس في الاستعداد للانتخابات الرئاسية سنة 2012 وحدها، بل في التحضير لانتخابات الكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) القادم أيضاً، عدم نسيان ورقة الحرب ضدّ إيران. وكتب بوكانان: ‘الجمهوريون الذين يحصون عدد ما سيفوزون به من مقاعد هذا الخريف، يجب أن يتنبهوا إلى أنّ أوباما لديه ورقة كبيرة يستطيع أن يلعبها’؛ فإذا سار في خطّ فرض عقوبات قاسية تشلّ إيران، وبالتالي وضع الولايات المتحدة ‘على سلّم مواجهة يقود مباشرة إلى الحرب’؛ ثمّ إذا وقعت تلك الحرب، فإنها ‘سوف تعني نهاية أحلام الحزب الجمهوري في إضافة حفنة من المقاعد إلى مجلس النوّاب ومجلس الشيوخ’! كلاهما، بيلين وبوكانان، كان يلهث خلف رأي طرحه دانييل بايبس، المعلّق الأمريكي ـ اليهودي الشهير، والليكودي العتيق الذي لا يجاريه في التطرّف أعتى صقور الليكود، سواء في مقت الفلسطينيين والعرب أجمعين، أو في التحذير أبد الدهر من ‘جائحة الإسلام’ التي توشك على تدمير الحضارة الغربية. ففي مقالة بعنوان ‘السبيل إلى إنقاذ رئاسة أوباما: قصف إيران’، نشرها في الدورية الأمريكية اليمينية National Review، أشار بايبس إلى أنه ليس من عادته تقديم النصح إلى رئيس لم يصوّت له أصلاً، ويناهض سياساته، ولكنه سيخالف العرف هذه المرّة. وهو يرى أنّ شخصية أوباما، وهويته (والتلميح هنا يشير إلى لون البشرة، لا ريب)، وشهرته، خلبت ألباب غالبية من الناخبين، ثمّ اتضح في سنة 2009 أنّ هذا الرئيس فشل في الحدّ من البطالة، وفي الضمان الصحي، والسياسة الخارجية، فضلاً عن أنّ ‘سجلّه في محاربة الإرهاب مضحك’. هذا ‘الأداء البائس’ تسبب في انهيار غير مسبوق لشعبيته، وفي خسران ثلاثة انتخابات فرعية، وهو بحاجة إلى ‘حركة دراماتيكة’ تجعل الجمهور يرى فيه صورة مختلفة عن شخصية منظّر إيديولوجي خفيف الوزن: أن يصدر الأمر إلى الجيش الأمريكي، فوراً ودون إبطاء، بتدمير قدرة إيران النووية!
قبل هؤلاء الثلاثة، كان أفيغدور ليبرمان، وزير خارجية الدولة العبرية، قد ألقى على العالم درساً في أصول تقدير المخاطر الحقيقية للبرنامج النووي الإيراني، وأنّ إيران هي المشكلة الكبرى والأولى، قبل أي حديث عن الأرض مقابل السلام، او حلّ الدولتين أو الإحتلال، أو المستوطنات… وفي حوار مع Kleine Zeitung النمساوية، قال ليبرمان: ‘نحن لا نتحدث عن هجوم عسكري. لا تستطيع إسرائيل حلّ جميع مشاكل العالم عسكرياً. أنا أقترح أن تتولى الولايات المتحدة، بوصفها القوّة الأعظم في العالم، زمام المسؤولية في حلّ القضية الإيرانية’. وكما سيفعل بايبس بعده، استشهد ليبرمان باستطلاعات الرأي التي تشير إلى أنّ غالبية من الأمريكيين، تزيد عن الـ 50′ دائماً، يؤيدون قصف إيران.
وقبل ليبرمان كان الكاتب الأمريكي اليهودي نورمان بوهوريتز قد ناشد جورج بوش الابن قصف إيران للحيلولة دون وقوع ‘هولوكوست نووي’؛ ومايكل ليدن، المعلّق في Wall Street Journal والأخصائي في الشؤون الإيرانية، اعتبر أنّ الثورة الخمينية هي المسؤولة عن تسعة أعشار ما ينتشر من موجات عداء للسامية، ليس في الشرق والعالم المسلم فحسب، بل في أوروبا وعلى امتداد العالم بأسره! وفي غمرة هذه الهستيريا يتعمّد أفراد جوقة القصف نسيان أبسط الحقائق في تاريخ البرنامج النووي الإيراني، وأنه لم ينطلق في عهد الثورة الإسلامية الإيرانية (1979)، بل قبل اندلاعها بما يقارب ربع قرن، في أيام الشاه رضا بهلوي؛ وأنها كانت جزءاً من ألعاب الشدّ والجذب بين واشنطن وموسكو، خلال عقود الحرب الباردة. ولهذا فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت الجهة التي رعت، وأشرفت على، تنفيذ البرنامج؛ وهي التي زوّدت إيران بمفاعل نووي طاقته 5 ميغاواط، وزوّدت المفاعل بالوقود اللازم، أي اليورانيوم المخصّب (نعم: اليورانيوم المخصّب ذاته الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها اليوم!)، كما قبلت إقامة منشآت لتخصيب اليورانيوم في إيران.
وفي عام 1975 كان هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، هو الذي ما يُعرف باسم ‘مذكرة القرار الأمني 292’، التي أرست دعائم التعاون النووي الأمريكي ـ الإيراني، بقيمة استثمارية صافية تبلغ ستة مليارات دولار أمريكي. وبعد سنة فقط، وقّع الرئيس جيرالد فوراً أمراً إدارياً بتمكين إيران من شراء وتشغيل منشأة تتيح فصل البلوتونيوم (أي المرحلة الأعلى على صعيد تصنيع القنبلة النووية!)، بذريعة أنّ هذه التكنولوجيا سوف ‘تحرّر ما تبقى من احتياطيّ نفطي، وتضعه في التصدير’. وأخيراً، لم تكن حكومات ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا والسويد بعيدة عن المساهمة في هذا البرنامج النووي، على نحو أو آخر، وحصلت على استثمارات بمليارات الدولارات من خلال مؤسسة Eurodif الإيرانية. الشركة الألمانية Kraftwerk-Union حصلت على عقد لإقامة مفاعل نووي للمياه الثقيلة في إيران، والشركة الفرنسية شبه الحكومية Cog’ma دخلت في شراكة مع إيران لتأسيس شركة الـ Sofidif لتخصيب اليورانيوم…
استذكار هذه الحقائق يخدم في فهم معادلة بسيطة، رهيبة النتائج مع ذلك: التكنولوجية النووية، حتى إذا كانت سلمية بريئة وديعة، ممنوعة إلا على الحلفاء، والمقرّبين منهم حصراً؛ ومشروطة بأن تتمّ بأيدي الأخوة الكبار في الغرب عموماً، والأخ الكبير الأمريكي خصوصاً. وحين كانت إيران هي البلد الصديق الحليف، وكذلك البلد النفطيّ الغنيّ واسع الاستثمار في الغرب ومع الغرب، فإنّ التكنولوجيا النووية لم تكن مشروعة طبيعية مطلوبة فحسب، بل كانت في الآن ذاته عربون صداقة بين إيران وأمريكا كدولة مقابل دولة، وبين ‘كوجيما’ الفرنسية و’بوشهر’ الإيرانية كشركة مقابل شركة. وحين صارت إيران خصماً، بعد 1979 تحديداً، انقلب الحال راساً على عقب في ما يخصّ هذا التعاون، وبات البرنامج ذاته رجيماً شريراً وعسكرياً وغير سلميّ، لا يسمح به ‘المجتمع الدولي’!
والحال أنّ الإنتساب إلى هذا النادي النخبوي الجذّاب، نادي السلاح النووي، يبدو ضرورياً بالمعنى الستراتيجي في حالات محدّدة، وفي تطويق نزاعات لا يفلح في تطويقها إلا ‘خيار درجة الصفر’ حين يهيمن توازن الرعب على شروط النزاع، وحين يفرض حال التساوي في الحدّ الأدنى من الخسائر الكارثية. وليس لأحد أن يتكئ على اعتبارات أخلاقية أو سياسية أو اقتصادية، ‘عقلانية’ تارة و’بيئية’ طوراً، صادقة مرّة أو زائفة معظم المرّات، لتوجيه اللوم إلى الهند أو الباكستان أو إيران بذريعة أنها أحوج إلى التنمية الإنسانية من التنمية النووية، وإلى تطوير الحياة الفعلية في الشوارع بدل تطوير الكابوس النووي في الترسانة. وحتى يأتي اليوم الذي يُجمع فيه النظام الدولي على تنظيم ‘ديمقراطي’ متكافىء لشروط الإنتساب إلى النادي النووي، فإنّ من حقّ الجميع الإنتساب إليه دون الحصول على أذن مسبق من الكبار الذين يحتكرون مجلس إدارته.
لكنّ توازن الرعب هذا ليس له دين أو هوية ثقافية، كما يحلو للبعض أن يفلسف بين حين وآخر، وفي هذه الأيام بالذات حين يتعالى صياح جوقة القصف، ويبلغ درجة اعتبار الحرب ضدّ إيران بمثابة عقار لإنقاذ رئاسة أوباما. ليست الرياضة جديدة، مع ذلك، فقد شهدنا أمثلة صارخة عليها كلما تعالى لغط حول اقتراب دولة إسلامية من امتلاك التكنولوجيا النووية. ومنطقة الشرق الأوسط، ضمن هذا التعليل، هي الوحيدة التي تحتاج إلى قنبلة نووية من النوع الذي يحقّق توازن الرعب، ويعدّل انفراد الدولة العبرية بهذا السلاح، ويضع النزاعات العسكرية تحت سقف ثقيل أدعى إلى تأمّل طويل قبل الإنخراط في الحروب. وإذا كان ثمة ‘قنبلة اسلامية’ على غرار القنابل الأخرى ذات الهويّات الدينية (يُنسب إلى كيسنجر أنه قسّم نوويات العالم على أديان العالم: قنبلة مسيحية في الولايات المتحدة وأوروبا، بوذية في الصين، يهودية في اسرائيل، سيخية في الهند، مسلمة في الباكستان، وملحدة في الإتحاد السوفييتي!)؛ فإنّ هذه القنبلة ينبغي أن تُبنى في الدولة الأنسب سياسياً وحضارياً وستراتيجياً، أي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وكان في وسعنا، نحن العرب، أن نحلم بأن تكون مصر أو العراق أو سورية هي التي تمتلك هذه القنبلة أوّلاً؛ بيد أن التجربة العملية برهنت أن هذا الهدف أكثر من خطّ أحمر ملتهب متفجّر، وأنه استدعى ويستدعي كامل إجراءات الردع والمنع والقمع، بما في ذلك القصف المباشر في مثال المفاعل العراقي. فكيف إذا كانت الأنظمة تابعة، راكعة، مستبدّة، وراثية!
وليس بجديد التذكير بأنّ إيران، بعد الإحتلال الأمريكي للعراق بصفة خاصة، أخذت تحتلّ موقع الحاضنة الدبلوماسية لمعظم التبدلات ذات المعنى في علاقة الشرق الأوسط بالعالم من جانب أوّل، وبالغرب والقوى العظمى من جانب ثانٍ. وهي طرف، في قليل أو كثير، يصنع أعراض الإستقرار وأعراض انعدامه، مثل وفاق الحدّ الأدنى الذي يميل إلى المهادنة والتصالح، وشقاق الحدّ الأعلى الذي قد يذهب بالتصعيد إلى حدود المواجهة العسكرية الشاملة. كذلك لم يعد خفياً أنّ حاضنة إيران هذه هي من النوع الجيو ـ سياسي والجيو ـ عقائدي، النشط والديناميكي، الذي يتكىء على امتيازات الموقع الحيوي ضمن المجموعة الإسلامية الشرق أوسطية والآسيوية، والذي يُحْسن المناورة على موقع ليس أقلّ حيوية في المدارات الأصغر: الإثنية والمذهبية بصفة خاصة.
ولا عزاء لقارعي طبول الحرب!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى