ساعة الحقيقة وإرادة الحرب
د. برهان غليون
يوم الأحد، الثاني من فبراير 2010، وفيما كان الجيش الإسرائيلي يقوم بمناورات في النقب، قيل إنها تحاكي هجوماً على الأراضي السورية، حذر وزير الدفاع الإسرائيلي من خطر نشوب “حرب شاملة” بين إسرائيل وسوريا إذا لم تتوصلا إلى تسوية سياسية بينهما. وفي الرابع من الشهر نفسه، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، رداً على تصريحات مسؤولين سوريين، أن على سوريا أن تقبل سلاما مع إسرائيل من دون المطالبة بالجولان، مهددا بأن أي حرب جديدة لن تعني هزيمة سوريا، بل أكثر من ذلك إطاحة نظام حكمها. وقال إنه لا يمكن التسامح مع أقوال وزير الخارجية السورية الذي رد ردا سلبيا على دعوة وزير الدفاع الإسرائيلي لتوقيع اتفاقية سلام مع سوريا. وختم حديثه بالقول إن تساهل سوريا مع الإرهاب يجعلها عضوا في “محور الشر”! ولم ينس ليبرمان أن يؤكد للفلسطينيين، “فياض” و”أبو مازن”، أن رفضهم الدخول مباشرة في المفاوضات لن يحرمهم من الحصول على دولة في غضون سنتين وإنما سيجعلهم يخسرون السيطرة على “يهودا والسامرة” كما حصل لهم مع غزة.
لا يعتقد أحد أن مثل هذه المناورات العسكرية والسياسية والخطابية تحمل خطر تفجير نزاع أو اندلاع حرب. والسبب أن إسرائيل التي تواصل تهويد الضفة الغربية والقدس بصورة منهجية، وفي مأمن من أي نقد أو اعتراض، بعد أن أحبطت مبادرة الرئيس الأميركي لإعادة إطلاق مفاوضات التسوية السياسية، ليس لها أي مصلحة في قلب الطاولة الآن. أما العرب فهم في عالم آخر تماماً، وفي حالة من التفكك والترهل والانقسام تمنعهم حتى من التفكير في ما يحصل بمنطقتهم أو على مستواها العام، وأي خروج من الهجوع القطبي المسمى “استراتيجية سلام” يحتاج إلى سنوات من العمل المضني للم شتات العرب والتوفيق بينهم وبث الحياة فيهم وإقناعهم بوجودهم كطرف سياسي أو عسكري قادر على التفكير والتقرير والمبادرة. بينما ليس من الوارد ولا الممكن ولا المحتمل أن يفكر أي طرف منهم على حدة باستراتيجية مواجهة منفردة مع إسرائيل، وليس لأي منهم مصلحة في ذلك. أما الكتلة الغربية التي لا تزال تحتكر القرار الدولي في ما يسمى بالشرق الأوسط وتصوغ أجندة المنطقة السياسية، فهي أبعد الأطراف عن الرغبة في التورط في الحرب. وربما لم يكن هناك هدف آخر للانتشار العسكري الواسع الذي قامت به واشنطن في الشهر الماضي في المنطقة سوى قطع الطريق على احتمال نشوء أي توتر أو نزاع أو حرب. وقد فسره العديد من المحللين الاستراتيجيين عن حق بأنه تعبير عن تسليم الولايات المتحدة بالأمر الواقع النووي الإيراني، وأن ما تفعله لا يعدو أن يكون تطمينا لحلفائها وسعيا إلى بناء حد أدنى من التوازن الاستراتيجي مع إيران.
إذن ليست حرب عربية إسرائيلية قريبة. لكن كل ما تقوم به إسرائيل منذ استلام نتنياهو السلطة في تل أبيب هو في المقابل تأكيد لإرادة الحرب. ورغم من محاولته الأخيرة طمأنة سوريا بعد تصريحات وزير خارجيته النارية، ودعواته المتكررة للأسد من أجل استئناف المفاوضات، وعدم الكلل من تأكيد سعي إسرائيل للسلام والتفاوض مع دمشق من دون شروط… لم يفعل ليبرمان أكثر من التعبير بصوت عال عما يفكر فيه القادة الإسرائيليون الحاليون، وربما أغلبية النخبة الإسرائيلية. فجوهر السياسة الإسرائيلية كان ولا يزال، هضم الأراضي المحتلة، في فلسطين وسوريا معاً، أما الحديث عن السلام والمفاوضات فهو وسيلة لكسب الوقت وتخدير للرأي العام العالمي.
وليست تصريحات ليبرمان هي التي فضحت ذلك وإنما أفعال القادة الإسرائيليين جميعاً. ويكفي للتدليل على ذلك التدقيق في مسار التفاوض العربي الإسرائيلي المتواصل دون فائدة منذ عقدين. فكلما وصلت المفاوضات إلى نقطة حاسمة واعتقد الجميع أن الهدف أصبح في متناول اليد، يختلق الإسرائيليون وسيلة لإجهاضها أو دفعها للانهيار. أما هذه المرة حيث بدا رئيس الدولة الكبرى الحامية لإسرائيل والمنافحة عنها، حاسما في بحثه عن الخروج بنتيجة من المفاوضات، فعمل الإسرائيليون المستحيل من أجل تقويض مبادرته من الأساس. ففيما أعلن أوباما ضرورة وقف الاستيطان، نشرت الحكومة الإسرائيلية خططا جديدة لتوسيع الاستيطان في القدس والضفة. وكلما حاول الأميركيون والأوروبيون رتق الخرق، عاد الإسرائيليون لتوسيعه بمبادرات مناقضة. وفي الوقت الذي لا يكف فيه الأوروبيون والأميركيون عن العمل لإطلاق مفاوضات سورية إسرائيلية جديدة بهدف تشجيع دمشق على الابتعاد عن طهران، لم يجد الإسرائيليون أفضل من تنظيم مناورات عسكرية تمثل هجوما على سوريا لقطع الطريق على أي أمل في بعث مفاوضات السلام.
وفي اعتقادي أن مبادرة أوباما، وهذه هي حسنتها الرئيسية، أوصلت المفاوضات العربية الإسرائيلية إلى نهاية المطاف عندما أعلن أكبر مسؤول أميركي أنه يريد لهذه المفاوضات أن تحرز نتيجة ملموسة وتنتهي بولادة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. وقد وجدت إسرائيل نفسها أمام تحد حقيقي هو الاختيار أخيرا، وبعد مماطلة وتهرب داما عقودا، بين الالتزام بخوض مفاوضات سياسية جدية أو تمديد الوضع القائم، فاختارت من دون تردد وبغطرسة أساءت لأعظم حلفائها، الطريق الأخير. ومعنى ذلك، كما عبر ليبرمان بحق، أن تل أبيب لن تقبل بتسوية تعيد بموجبها الأراضي العربية المحتلة لأصحابها، لا الجولان ولا الأراضي الفلسطينية.
في هذه الحالة لم تُبقِ تل أبيب أمام العرب خيارا غير القبول بالاستسلام أو الاستعداد للحرب. فبقاؤهم مكتوفي الأيدي بينما تواصل إسرائيل تهويد الأراضي والقضاء على أمل استعادتها سلميا، يعني تسليمهم بالأمر الواقع، أي بإملاء إسرائيل إرادتها على المنطقة والتحكم بكل ما يجري فيها. وثمن القبول بمثل هذا الإملاء سيكون أكبر بكثير، ليس بالنسبة للسلطات والنظم التي تحتل إسرائيل أراضيها فحسب، ولكن للدول العربية بأكملها. ولأن إسرائيل تعرف أنها توجه اليوم تحديا للعرب لا يمكن السكوت عنه، فهي معنية بردعهم عن إعادة النظر في خياراتهم السابقة، وذلك من خلال إسماعهم قعقعة سلاحها وجاهزيتها العليا للقتال.
وأخشى بالفعل أن لا يكون قد بقي للدول العربية، بعد تقويض إسرائيل أسس أي محادثات سلمية، خيار آخر، إذا أرادوا الحفاظ على صدقيتهم وهيبة سلطاتهم، أمام أنفسهم وشعوبهم والرأي العام العالمي، ولم يقبلوا التسليم لإسرائيل باحتكار قرار المنطقة وتحديد أجندتها، سوى العودة الأليمة للحرب. وأنا أعرف أن مثل هذا الخيار لا يقل، في حالتهم اليوم، مرارة عن تجرع كأس السم.
الاتحاد