صفحات ثقافية

عندما لا تجد ما تكتبه

null
صلاح بن عيّاد
الإنسان كائن من تردّد وشكّ متواصلين إلا فيما ندر من لحظات تكون الحياة فيها على أوجها. أمّا الكتابة فهل هي غير تعلّة يتعلّل بها الكائن ليقوّي صلته بالحياة. شاعرا كان أو ناقدا أو باحثا؟ إنه يكتب عندما يكون ارتباطه بالحياة قويّا أو نقمته عليها قوية أيضا، الأمر يخصّ قوة إذن من تلك القوى التي تجعله يقود خيط مشروعه، فهل الكتابة غير وسيلة أخرى من وسائل الإنسان الملتوية كي يجد اهتماما بجزئيّة حياتيّة لذلك يقول الكاتب والأنثروبولوجي الفرنسي جورج باطاي Georges bataille الذي يحتّم عليّ الكتابة كما أعتقد هو الخوف من أن أصبح مجنونا’ فكأن الكتابة في هذا المثال خلاص الكاتب المتتالي من مآزق الحياة المتتالية.
كيف نفسّر ونخوض تلك اللحظات القاسية التي تتعطّب فيها عمليّة الكتابة؟. ونتحدّث عن عطب لأنّ فترات عادية وصحية قد يمرّ بها الكاتب فيتوقف لحين لتتجدد أنفاسه وطاقاته، أمّا المقصود من مادتنا هنا فهو تلك الأزمة التي قد تشبه انقطاعا في الإلهام أو جفافا يصيب نبع الكاتب الفكريّ أو الشعريّ، أو هي نوع من المأزق الكتابيّ. كثيرون من الكتّاب أصيبوا في تلك المرحلة بسكتة إبداعية إن صحت العبارة وهجرتهم الكتابة أو هجروها نهائيّا.
قد تشبه الكتابة الحديث الذي لا يقاطعه أحد غير أن حضورا قويّا لهامة تدعى ‘ القارئ’ دائما ما ينغّص حرية الكاتب ويجعله يدير قلمه سبع مرّات قبل خطّ الكلمة أو الفكرة أو الصّورة الشعريّة، ولأن الكاتب كائن من طينة جموحة فهو يريد كتابة كلّ شيء في ذات اللحظة وعلى نفس الورقة. أنظر إلى كتب تتوقف فيها على الجملة عديد المرّات لتشقّ كثافة كثيفة فتشبه الماشي الذي يشقّ ضبابا أرضيّا لا يكاد يفقه خطواته. ولذلك فقط يقول ‘ ديدرو’ Diderot الفرنسي منصّـباً نفسه مكان القارئ: ‘ هل تنبغي كتابة كلّ شيء عندما نكتب؟. وهل يجب رسم كلّ شيء عندما نرسم؟. رجاء، اتركوا شيئا ما لأكمله بخيالي.’ والكتابة عمليّة تتّضح فيها أنانية الإنسان أيّما اتّضاح فكأنك بصدد التكلم إلى أحد دون أن تعرف وجهه. فلوكليزيو Le Cl’zio صاحب نوبل الما قبل الأخيرة يذهب إلى اعتبار الكتابة في مؤلف له بعنوان ‘ محضر شفوي’ Proc’s Verbal: ‘ إقناع لأيّ كان بأيّ شيء’. فهو (الكاتب) يعمد في أحيان كثيرة إلى الكتابة دون أن تكون له فكرة عمّا سيكتب، فكأنّه يفكّر وسط الكتابة أو قل انطلاقا منها.
يشبّه الفرنسيّ ‘ جان أنوي’Jean Anouilh صاحب مسرحيّة’ أنتيغونة’ الموهبة الكتابيّة بالحنفيّة وأنّنا لا نستطيع الكتابة إلاّ إذا كانت تلك الحنفيّة مفتوحة. ليعتبر مقولة الإلهام ‘ ألعوبة افتعلها الشعراء من أجل جلب الانتباه’. سيعني قول ‘ أنوي’ ربّما أن الكتابة مرتبطة بماء يسري داخلنا أو بنوع من الخصوبة وألق التفكير والقدرة على الخلق. ليكون في المقابل جفاف الكتابة مُعادلا لنضوب في ذاك الماء أو غلق حنفيّة الموهبة تلك واختفاء لذاك الألق وجدب يأتي على تلك الخصوبة. وهو جفاف قد يصيب الكاتب إذا ما ارتطم بما يمكن أن نرتطم به في أيّ لحظة بسؤال جدوى الكتابة، السؤال المؤرق والمرعب والخالد في ذات الوقت. إنّك تتساءل مع العاديّ ‘اللاكاتب’ و’اللاشاعر’ و’اللامبدع’ عن الكتابة وما يمكن أن تضيف في عالم مهتزّ تغلب عليه النجاعة في معناها الملموس، ففي عبارة طريفة يقول موريس دوناي: ‘ لو كنت قلت يوما لأبي، وهو مهندس صارم، إني أريد الكتابة لكان سألني: من أجل من (تكتب)؟.’
تجافيك الكتابة في مراحل الشكّ تلك، وهو من المآزق التي على ما يبدو قد تسبّب في إخماد قلم كم كاتب، وإسكات ترنّم كم شاعر وتيبس ريشة كم رسّام. إنها على ذلك عمليّة صعبة ومرهقة تتطلب من الطّاقة ما لا يتطلّبه أيّ نشاط آخر، لذلك وضمن السياق نفسه يقول الرّوائيّ الروسي الشهير’ تولستوي’ الذي نحن على باب مئويّته: ‘ لا ينبغي عليك الكتابة إلا في وقت كلّما غمست ريشتك في الحبر تتبقى قطعة من لحمك في المحبرة’.
قد يعتبر البعض أن التوقّف عن الكتابة ظاهرة شبيهة بالوباء الذي تفشّى أواخر القرن العشرين وهو اليوم في أوجه وذلك أمام اكتساح الصورة لا سيّما ظاهرة ‘ غوغل’ التي تكاد تغني العالم عن الكاتب، إضافة لمضارّه الكبرى التي قد يلحقها بمؤلّفاته التي تصبح في فوهة ‘ غوغل’ مباحة وبلا سعر. وعبارة ‘ التوقف عن الكتابة’ اتخذها الروائيّ الأمريكيّ البولوني الأصل ‘ دافيد ماركسون’ المترجم إلى الفرنسيّة عنوانا لرواية يقرّر الرّاوي فيها التوقف عن الكتابة نهائيّا ليفشل ربّما في الأخير. وقد شبّه هذا القرار بقرار غجريّ أسمر بالتوقف عن التدخين المتكرّر في كلّ يوم دون أن يقوى على ذلك. التوقّف عن الكتابة أمام لغة لا تنفكّ عن الهرب إلى نوع من الرّموز الغريبة نجدها بصناديق المخاطبة الافتراضيّة مثل ‘الإم إس إن’ MSN أو ‘الإس إم إس’ SMS كما يقول ‘ ماركسون’ نفسه متحدّثا عن كتابه في إحدى الصّحف الفرنسيّة، ليقول بعيدا ‘ على الكاتب أن يتعلّم الكتابة على اللاشيء’ كي تتسنّى له الكتابة والصّمود فيها.
لم تكن الكتابة انسيابا سهلا البتّة، وهي كما يعتبرها الكثيرون وإن كانت تعتمد على نوع من الإلهام فلن يتجاوز الواحد في المئة أمّا التسعة والتسعون في المئة الباقية فهي ‘ تعرّق ومكابدة’ كما يقول ‘ طوماس ادسون’. وهي كثيرا ما تجافي صاحبها هذه الأيّام وبخاصّة منها ‘ الشعر’ الأصعب من الصّعوبة. هل يمكن أن نتحدّث عن قريحة ميّتة؟. أو عن يدين ميّتتين؟. عن قلم ميّت؟ إنها استعارات قد يلبس الكاتب بلبوسها ليعبّر عن لحظة لفحه فيها حر جفاف الكتابة الشديد أو برودة تجمّدها التي لا تحتمل. الكتابة هذه المهنة التي قد تكون فحوى وجود بشريّ وأساسه حتى يمثّل أيّ خطر من تعطّبها المفاجئ خطرا على وجود الكائن البشريّ للكاتب برمّته.
ماذا يفعل الكاتب بلا كتابة؟. هل ‘ تصبح يمناه يسرة’ كما يقول سعيد ابن العاص متحدّثا عمّن لا يحسن الكتابة في ذاك الوقت؟.
والأزمة هذه عاشها شعراؤنا العرب قديما، عدا المتنبّي ( ربّما) الذي ‘ ينام عن شواردها ليسهر النّاس جرّاها ويختصم’ حتّى إنهم يطلقون عبارة’ جادت القريحة’ كما تجود السّماء بالمطر. كان شعراؤنا العرب حبيسي فكرة القريحة والإلهام، هذه المقولة التي ما هي سوى تبسيط لتلك العمليّة المعقّدة التي تسمّى ‘ الكتابة’. أنظر إلى ما يسمّى في تراثنا العربي’ الشعر الحوليّ’ أو ‘ القصيدة الحوليّة’ والتي من ضمنها اشتهرت حوليّات ابن أبي سلمى، لنتساءل افتراضا لا غير: ألا يكون ‘ عمل’ قصيدة في حول ( عام) دليلا على جفاف كتابيّ ما؟. لقد ورد في كتاب ‘سرّ الفصاحة’ لابن سنان الخفاجي حديثا حول حوليات ابن أبي سلمي فيقول: ‘ويروون أن زهيرا كان يعمل نصف البيت ويتعذّر عليه كماله فيتمّه كعب ابنه’ وها هو ابن الوردي يصف عمليّة قول الشعر قائلا:
قام يجهد أياماً قريحته وشبه الماء بعد الجهد بالماء
كما شبّه المحبي في كتابه ‘ نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة’ القريحة بالزجاجة فيقول ‘ وما انفكت زجاجة قريحته الوقادة، توقد من شجرة التحقيقات العقيقية؛ وبديهته النقادة، ترتاح إلى التدقيقات المجازية والحقيقية’.
ليشبهها بعيدا بالبدر الذي ينير بضوئه الغيهب، أو بسهام لها مرمى تصيبها أحيانا ولا تصيبها أحيانا أخرى. فإذا أصابتها فقد أجادت أمّا إذا لم تصبها فهو نوع من الجفاف ومن الأزمة المتحدّث عنهما طوال المادة.
كما ورد في نفس المرجع حديث شاعر استعصى عليه إتمام بيت شعريّ قوله: ‘ يَقدحُ الدهرُ في شماريخِ رضوى….ومكثتُ حوْلاً لا أقدرُ على إتمامِه فسمعتُ قائِلاً يقول: هَبّود، فقلت: وما هَبّود؟ قيلَ جبلٌ، فقلت:
ويحطُّ الصّخورَ من هبّود’.
إنّ أي متثبّت من سيرة كاتب أو شاعر أو ناقد إلخ.. سيلاحظ في قراءة ‘ سيريّة’ أنّ فترة من عمره أو فترات متراوحة يقل فيها إنتاجه وأخرى يخصب فيها ذاك الإنتاج. قد نلقى أيضا كتّابا بكتاب واحد أو كتابين، وقد نفهم في بعض حالات الكتّاب المقلّين أو الذين توقفوا عن الكتابة أو اعتزلوها فجأة لأسباب يطول ذكرها. ولنا أن نختم بما يشبه استراتيجية كتابة كان يتبعها الروائي الأمريكي الشهير ‘إرنست هيمنغواي’ إذ ورد قوله:
‘ تعلمت أن لا أستوفي بئرا منها (ينزّ) إلهامي وأن أتوقّف عندما لا يتبقى سوى بعض قطرات ماء في قاع تلك البئر وأن أترك إعادة ملء نبعه أثناء الليل’.
شاعر من تونس
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى