سمير قصير: الأسى معطوفاً…
زياد ماجد
ليست الصداقة ولا الشوق ولا التعب ولا استذكار بعض النقاشات والتعليقات أو تخيّل مثيلاتها في لحظات درامية، ولا حتى الغياب أو الحسرة على موت، هي وحدها ما أطفأ “زاوية في القلب” منذ 2 حزيران 2005.
هو الظلم على الأرجح. الظلم الحقيقي أو الأقصى، الذي لحق بسمير، والذي لا ظلم بعده. ظلم القتل. أن يُقتل لأنه جهد طيلة سنواته الخمس والأربعين ليتعّلم، ليقرأ ويفكّر ويكتب ويبحث ويحب ويحيا وينشط دفاعاً أنيقاً وثابتاً عن مبادئ وقناعات. ليحاضر بطلاب وطالبات ويحرّضهم على طرح
الأسئلة ورفض المسلّمات واعتناق الحرية.
هو الظلم حتماً. ظلم أن تكون الكلمة مدعاة سفك للدماء. أن تكون الشجاعة في قول ما يفكر به المرء مدعاة إعدام له على يد مُرتزق لا يعرف ضحيته ولا من كان يرصد ويراقب. مرتزق بليد لم يقرأ ولم يسمع ولم يفهم ولم يشاهد فيلم “حياة الآخرين” الذي دفع العساس الشغوف بالتنصت على طريدته الى التعاطف معها والانبهار بها والسعي لحمايتها. مرتزق وضيع نفّذ لمصلحة غيره (العارف من جهته تماماً من أردى) جريمة هي أشبه بالمجزرة. أو بالأحرى هي مجزرة، ضحاياها عشرات اللحظات والإنجازات والإبداعات والأحلام. وضحاياها أيضاً أحياء خسر كل منهم بعضاً من ذاته فيها…
هي المجزرة إذن. وهو الشعور المتولّد عنها بالقهر. قهر أن يكون مآل مثقف أكاديمي وصحافي وسياسي اختزل هويات لبنانية وسورية وفلسطينية وفرنسية وحاول مصالحات بين عروبة ونهضوية، وبين يسار وديموقراطية، وبين حرية واستقلال ينافيان كل عنصرية، أن يكون مآله هو نفسه عنوان كتابه الأخير والبليغ “تأملات في شقاء العرب”. أن يكون الشقاء نهاية مسيرته…
وهو الحزن أيضاً. الحزن على أمكنة وأحداث لم يعد مجدياً سنة بعد سنة كتابة تقارير حولها وادّعاء مخاطبة بواسطتها للراحل الأعزّ. ليس لأن لا شيء يقال، وليس لأن الأمور سواد كلها، وليس لأن لا ضرورة لمصارحة سمير حول خيبة من رفاق هنا وافتخار بأصدقاء هناك، بل لأن وتيرة الأحداث لم تهدأ ولم تترك مجالاً لالتقاط الأنفاس. دارت وتسارعت واشتدّت وأعادت بالمحصّلة تأكيد بداهات اعتنقنا بعضها وفاتنا بعضها الآخر. بداهات عن الحرية بصفتها العنصر التأسيسي الاول لأي تعاقد في بلاد مستقلة، استقرار الأمور فيها، ولو على نقصان في ما نشتهيه من قيم، ولو على عيوب جسام، أهم بألف مرة من كل غليان وصدام وجهاد ومقاومة لن تجلب في ظل بهتان مدّعيها وتفكك مجتمعاتنا سوى التهتك والانحطاط. وبداهات عن النفس الطويل والصبر والحفاظ على الاستقلالية والحس النقدي والاستقامة في الموقف ولو من موقع صريح ومحسوم، ليس لتناقض بين “المثقف والسياسي” ولا لطلاق بين الواقعية والمبادئ على ما يردّد البعض بخفة، بل احتراماً للعقل والذات والارادة وقيمة “النزاهة” الفكرية قبل أي شيء آخر.
هو الأسى معطوفاً على كل ذلك. الأسى لأن كثيراً من الأمور صارت مرتبطة بـ”الما قبل” و”الما بعد”. والأسى لأن اللحظة التي تستند إليها “القبل” و”البعد” هي لحظة الموت، لحظة خطف سمير.
• • •
على أن للقتل أيضاً فعلاً آخر. يتخطّى الأسى والحزن والقهر. يحيل الى إرادة تحدّيه. تحدّي صانعه بنفس التصميم الذي جعله يخطّط للقتل ويقتل. يحيل الى الرغبة في الاستمرار. في العمل، في التذكر، وفي الوفاء. ففي هذه الأمور ما يعيل على الشعور بأن الأثر ما زال ممكناً بعد الرحيل. بأن الأفكار تبقى قائمة وجوالة، وبأن عشق بيروت مدينة للحياة والبحر والغيوم يمكن أن يتسلّل الى الناس حين يعيدون اكتشافها بأسطر خطّها مؤرخها الذي قضى فيها وفي سبيلها. صارع التنين القادم لافتراسها، فكتب بدمه واحداً من فصولها.
اليوم، بعد سنوات ثلاث على رحيل سمير قصير، تمر صور وكلمات وأصوات ارتبطت بذاك اليوم المشؤوم. تتداخل وجوه أهل وأصدقاء ورفاق وأحبة يوحّدها الهول… ثم يحضر طيف جوزف سماحة بحزنه وصمته ونظراته الهاربة، وببوحه الخفر للائم “ما ذنبي أن قاتلي يستخدم لغتي“…
واليوم، بعد ثلاث سنوات على الرحيل، يمرّ شريط حياة سمير. يبدو لنا وهو يكثّف الأشياء والحجج ويستعجل الوقت ليغنم بسبق معرفي. ليبتسم لفكرة، لكلمة، لنظرة. يبدو لنا لكثرة ما كدّ وكأنه عاش دهراً، بل قرناً. ويبدو لنا ماشياً ينظر الى الأفق. ينظر الى الزمن القادم، الى الهواء والحركة التي لا بد ستنحبس في أقبية من سرق عمره. من كره بيروت ودمشق والقدس بقدر ما أحبّها هو. من احتقر الحرية بقدر ما تنفسّها هو، وبقدر ما سنتنفّسها جميعاً حباً له وتعلّقاً بما أحَبّ…
(كاتب)
.