صفحات ثقافية

بابل أو رحلة الى الجحيم: مثقفو الداخل العراقي بين ثقافة الاحتلال وثقافة المقاومة

null
فاروق يوسف
‘ الاحتلال واقع’ يقول لي. ‘الكارثة وقد وقعت، تقصد’ أقول له. ينظر إليّ بعينين حائرتين، حزينتين. يبدو الميل إلى الخروج من الدائرة المغلقة، ولو نظريا، مغريا للكثيرين. لكن إلى أين؟ لا أحد في إمكانه أن يجيب بوضوح ودراية. هناك أشباح عديدة كرسها الاحتلال: الحرب الأهلية، تقسيم العراق، طغيان المؤسسة الدينية، المجاعة والتدهور المعيشي، تدخل الجيران، وهم أحلى جيران في العالم. كلها اشباح أعداء محتملين. بل إن تجربة سنوات الاحتلال الماضية قد أثبتت أن البديل عن الاحتلال، في صورته المباشرة أو من خلال صورته الزائفة (العملية السياسية والحكومات الضعيفة) هو أن يذهب العراق إلى قدره: ساحة تصفيات بين قوى لا أحد في إمكانه أن يحصي عددها ولا أن يتعرف على أهدافها. بهذا المعنى تكون مناهضة الاحتلال نوعا من الدعوة الى تفكيك أوصال العراق والعودة إلى مربع الدم. تلك هي الوصفة الجاهزة التي تقال لمن يهمه أن يقف على مسافة من السائد من التفسيرات والافكار والأقوال والشائعات والحلول. هناك بؤس فكري عقيم يتخفى تحت القبضة التي تلوح بالعنف. كيف يمكن أن يكون الاحتلال حلا؟ ‘ ومن قال ذلك؟’ سيتساءل الكثيرون. باستثناء الزعامات الكردية، فان أحدا من رموز الفتنة الطائفية لم يصرح علنا بغرامه بالمحتل. في المقابل يمكن القول أيضا ان أحدا من تلك الرموز لم يرفع شعار طرد المحتل وتحرير العراق. ما معنى ذلك؟ معناه القبول بالأمر الواقع. وهو واقع يوفر الحماية لكل الذين صنع منهم المحتل حكاما على شعب هو في حقيقته رهينة. مثقفو الداخل هم الرهائن الأكثر مقتا لأنفسهم، الأكثر حيرة أمام أسباب وجودهم. الخوف هو سيد كل اللغات التي يتحدث بها أولئك الرهائن. الخوف من مستقبل تسوده الفوضى (الخلاقة) هو الذي يحمل أولئك المثقفين على القبول اليائس ببؤس وجنون ورثاثة الشلل الطائفية الحاكمة التي لم تكف يوما عن اعلان كراهيتها، بعضها للبعض الآخر. وهي كراهية تدور رحاها خارج فكرة الوطنية ( ليس من المسموح به ادعاء الوطنية حتى)، إذ أن الطائفية هي الميزان. ولأن الطائفي منذور لكراهية الآخر فانه يحتاج إلى الحماية. يعتقد الكثيرون أن هناك أخطاء قد وقعت في محاولة منهم للتستر على الجريمة الكاملة التي ارتكبت. لذلك فان صورة العراق هي آخر الصور التي يمكن تخيلها وسط تجليات هذه المعمعة التي لا يراد لها أن تنتهي. العصا السحرية لا يملكها أحد. بوش أنهى ولايته بجملة من هذا القبيل. وهي (الجملة) واحدة من أهم أيقونات ثقافة الاحتلال.
2
لطالما فاحت رائحة عفنة من أفكار دعاة ثقافة الاحتلال: العراق دولة صنعها الاستعمار البريطاني. العراقيون ليسوا أمة واحدة أو موحدة. العرب لم يصنعوا دولة المواطنة في العراق، بل احتكروا السلطة واستعبدوا الاقليات العراقية. العراق كان محتلا قبل الاحتلال الامريكي من قبل البعث وتكريت وعائلة الرئيس السابق. القبلية والطائفية والعرقية هي الأسس التي يجب أن يستند عليها تشكيل عراق جديد، أطلقت عليه تسمية دولة المكونات. كل هذه الشعارات التي يُراد لها أن تكون جزءاً من البداهة التاريخية في تكوين عراق هش لا صلة له بالاحتلال لا من بعيد ولا من قريب. ولكنها من ايقاعات ذيوله. هي أقنعة ليس إلا. جمل يُخطط لها أن تحتل طرف اللسان، بدلا من التساؤل عن شرعية الغزو والاحتلال والوجود الاجنبي بكل تجلياته الدموية وموقف القانون الدولي من الجرائم التي ارتبكت بشكل مباشر بحق العراقيين ومدنهم وثرواتهم واللصوصية التي صارت سببا للصراع على الحكم، بحيث احتل العراق مرتبة متقدمة في الدول الأكثر فسادا في العالم ومصير ملايين اليتامى والارامل بعد أكثر من مليون قتيل وأيضا مصير مرضى الاشعاعات النووية والمياه الملوثة وتدهور الوضع الطبي. الأخطر من كل هذا أن تشاع روح اليأس بين المثقفين العراقيين لتعتم على فكر المقاومة. الشعور بالضياع هو أشد ما يواجهه المثقف العراقي خطرا على كيانه ومستقبل دوره في المجتمع. ما معنى أن يتجنب المثقف الوقوع في الخطوط المتشابكة خشية القتل؟ صار كل همه أن لا تقع قدمه على خط يكبله بالشكوك. لقد جرت تصفية الكثير من اساتذة الجامعة من قبل طلابهم، بسبب كلمة قالها الاستاذ وشمت العصابات الدينية فيها رائحة مضادة. كل مثقف عراقي مستقل انما يعيش في انتظار الطلقة التي تسلمه إلى الموت. ومعنى المثقف المستقل هنا لا يصل إلى المفهوم المطلق للمصطلح، بل هو نسبي إلى الدرجة التي تختصره بعفة اليد ونزاهة السيرة. المثقف الاخلاقي هو كائن غير مرغوب فيه في العراق الجديد. لقد حلت في مقدمة المشهد الثقافي طائفة من المثقفين المستوردين من الخارج ( من عراقيي المنافي الذين تربوا في نوادي الحزب الشيوعي والحسينيات) باعتبارها الفئة المنتصرة، اما مثقفو الداخل فانهم جميعا (باستثناء نفر قليل قرر أن يضع نفسه في خدمة خدم المحتل) ينتمون إلى الفئة المهزومة. واقعيا فان الثقافة في العراق اليوم ثقافتان: ثقافة صاخبة هي ثقافة الواقع الذي فرضه الاحتلال، يروج لها مثقفون هم في حقيقتهم موظفون لا همّ لهم سوى جني الاموال التي نصت عليها عقودهم ومن ثم العودة إلى البلدان التي يحملون وثائقها الثبوتية، حيث تركوا عوائلهم هناك. اما الثقافة الثانية فهي ثقافة عراقيي الداخل الصامتة. وهي ثقافة لا يكتفي المرتزقة بتهميشها، بل ويضعونها هدفا للقتل. لا أحد في إمكانه أن يلوم مثقفي الداخل العراقي إن صمتوا. فالقتل يسير في ذلك البلد.
3
كما يبدو فقد انتهت منذ زمن طويل مرحلة تسويق الاحلام. فالعراق لن يكون المانيا ولا اليابان، بل ولا حتى دبي، بكل هشاشتها. العراق هو (دولة مكونات). وهو مصطلح يرعى الحرب الاهلية ولا يسميها مباشرة. لقد نشط الكثير من مثقفي الاحتلال في مجال التباكي على حقوق الاقليات العراقية المهدورة، بل إن عددا من المقيمين في الخارج قد كثفوا جهودهم في تأليف واصدار الكتب عن تلك الأقليات. وهي كتب هزيلة في معلوماتها، بل وتدعو إلى سخرية أبناء الأقليات ذاتها. غير أن الغرض الاعلامي كان غاية في حد ذاته. فالصابئة والمسيحيون واليزيدية لم يتعرضوا للفتك إلا في عراق هو تحت الاحتلال. كانوا من قبل مواطنين، لهم ما للاخرين من حقوق المواطنة. ما معنى ذلك؟ ماكنة الاحتلال الثقافية لا ترى الواقع، بقدر ما ترغب في صناعة واقع افتراضي يتناسب مع توسيع فرص ادامة الاحتلال. من خلال المحاصصة الطائفية والعراقية دمرت فكرة المواطنة لدى الجميع، غير أن الاقليات كانت هي المتضرر الاكبر. مثقفو الاحتلال الذين كانت الاقليات شغلهم الشاغل في سنوات الاحتلال الأولى صمتوا الان بعد أن تأكد لهم ان تلك الاقليات قد جرى تهجيرها من العراق بعد سنوات من الرعب والقتل والخطف والاغتصاب. لم يكن مصطلح (دولة المكونات) سوى شعار، أريد من خلاله محو شعور المواطنة المطمئن من اللاوعي العراقي. أمام هذه الهجمة المبرمجة كان جواب عراقيي الداخل ساذجا: كنا متعايشين دائما. وهي جملة قرر المحتل أن يمحوها من أدبيات العيش العراقي. روى لي صديق مثقف، اعتز بابداعه، إن أصل أمه اليهودي كان سببا في خطفه ومن ثم هروبه من العراق. من جهتي لم افاجأ بيهودية أمه، على الرغم من ان المعلومة كانت جديدة علي. عوني كرومي، المسرحي العراقي الراحل والذي كان يكنى باسم ولده حيدر فاجأني قبل عشر سنوات بأنه مسيحي الديانة، ولم أكن أعرف ذلك على الرغم من أني عرفت عوني قبل عشرين سنة أو أكثر. لكن جملة من نوع: ‘ كنا متعايشيين’ تبقى جملة ساذجة أمام حملة لا تريد اقتلاع عراقيين بعينهم، بل العراق كله. كان على عراقيي الداخل أن يكونوا أكثر حذرا، وهم يستقبلون مضطرين مثقفي الخارج، ممن صنفوا الاحتلال باعتباره تحريرا.
شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى