اللغز الأسطوري في « تراتيل العدم»
عبدالرحمن حلاق
الكتاب : رواية تراتيل العدم المؤلف: مها حسن الناشر: «الكوكب » – دار رياض الريّس
أن يختار روائي ما بقعة أرض جرداء ليبني فيها عالماً روائياً متكاملاً، فهذا يعني أنه بأمس الحاجة لأسطورة تسلمه قيادها، ويستعين بها على مبتغاه، فيتمكن عندئذ من جعل الحقيقة خيالاً والخيال حقيقة، وبامتزاجهما الدلالي تنشأ الميثولوجيا وتتشكل، ليتمكن المتلقي فيما بعد من إلقاء نظرة متفحصة وحيادية على ما كان يعتقده بدهيات أو مسلمات. أما الروائية السورية «مها حسن» فلم تكن بحاجة إلى أسطورة ما، فهي ابنة هذه المنطقة التي اشتهرت عبر آلاف السنين بإنتاج الأساطير وتصديرها. في روايتها الجديدة «تراتيل العدم» تضعنا أمام نص جديد تقنياً على الرواية العربية، يتعدد فيه الرواة، وتتعدد فيه المستويات السردية، تتخلله بعض تقنيات المسرح إن بصوت يشبه الكورس أو بمشهد حواري صرف، كذلك يتلوّن فيه المكان ليعكس لنا شطحات زمانية توغل في القدم حيناً، وفي الراهن حيناً آخر، حتى ليخيل للقارئ أن كاتبات النص، وهذه لعبة تقنية جديدة، يسبحن عبر أزمنة عديدة تبدأ في لحظة النشوء الأولى ولا تنتهي عند ميشيل فوكو، ولأجل إنشاد تراتيلها العدمية نرى الكاتبة وهي تتكئ على هذا الكم الهائل من المنجز الإنساني الفلسفي والميثولوجي، فنعيش في ثنايا الرواية مع الآلهة الأم (الأرض)، ونطير مع الفراشات الإغريقية ونرتل أناشيد زرادشت قرب الينابيع، أما فلسفياً فينشغل العقل بزلزال «كير كيغارد» واهتمام سقراط بالنفس أو انهمام فوكو بالذات، ويحضر سيغموند فرويد في أكثر من مناسبة، هذا الاحتشاد الهائل من قبل الكاتبة مها حسن بكل هذه الرموز لم يأت مجانياً، فقد استطاعت أن تنزل كل لبنة في معمارها البنائي مكانها المناسب، مستفزة بذلك أفق التوقع لدى القارئ، ولن تكفيه عندئذ قراءة واحدة ليكمل متعته العقلية ومتعة الكشف أثناء القراءة. بكل هذا الاحتشاد تحاول الكاتبة مناقشة فكرة على غاية من الأهمية، وهي فكرة استعبادنا من قبل النص الذي ننتجه في الأصل، لكنه يعيد إنتاجنا من جديد فيقيّدنا بسطوته ولا ينج منه إلا من يتمرد عليه.
اختارت الكاتبة «أرض» لتكون الحامل الرمزي لكل شخوص الرواية وحقولها المعرفية المادية والغيبية، فأرض هي الأم الأولى والتي تملك أسرارها الداخلية وأسرار من يعيش عليها، تملك حتى القدرة على تغيير مصائرهم، ولأنها كذلك فقد كانت ولادتها غير طبيعية، وكذلك نشأتها، وكذلك اختيارها للزوج، أولاد أرض أنجبوا من الأولاد ما يزيد على مئة ولد وبنت، وبهذه الأعداد الكبيرة تمّ صنع التاريخ، وتم الثبات في الأرض، وكي تُنتج الأسطورة صيغتها الخاصة كان لا بد لها من مكان جديد، لذلك آثر «حرث» اللاهي بصيده للحيوانات وتجارته بها، آثر في بداية زواجه من «أرض» أن يبتعد عن الناس ويبني بيتاً في بقعة جرداء، لكنها وبفضل القوى السحرية وفعل الخصوبة لأرض تحولت الأرض إلى جنات وغابات، ونما البيت ليصبح قلعة والقلعة أنجبت قلعتين أخريين، ومع نمو الأسرة الأولى وحرص أرض على إبلاغ كل وافد جديد من أبنائها أو أبناء أبنائها بمحتوى النشيد الصيغة، بدأت الأسطورة تنمو، ولأن الصيغة أصلاً ابنة الغيب فقد تداخلت قوى السحر والجان مع قوى الطبيعة في تشكيل الوعي الإنساني الأول، فاختلطت المواليد وتباينت وتداخل الإنسي مع الجني في ثنائية فكان التمرد الشرط الأساس للإبداع وللبحث
عن الذات.
بهذا التداخل تسمح الرواية للحكاية الأولى بالتشكل، وللبدايات المعرفية الأولى بالظهور من خلال الأساطير البدئية، وبهذا التداخل تمنح الرواية تفسيراً منطقياً إلى حد ما لهذه الحاجة الماسة لدى الإنسان إلى الدين، حيث يشكل نوعاً من الصيغة التميمة التي من المفترض أن تعين الفرد على التوازن في حياته اليومية عبر خضوعه لسلطة غيبية مطلقة، وإذا كانت هذه الصيغة قد ولدت من رحم القلعة الأولى فقد كان لا بد للقلعتين الأخريين أن تنتج كلٌ منهما صيغتها الخاصة، التي وإن عكست نوعاً من التمرد على الصيغة الأم إلا أنها تشكل نوعاً من السطوة الجديدة، فهي بشكل أو بآخر امتداد للصيغة الأولى، مع استثناء «طهر» من هذه الصيغ جميعا، وإذا كان «حرز» قد تحرر من استهباله وتأتأته عبر صيغة جديدة، إلا أنه بقي أسير الصيغة الأولى إلى أن احترق ضحية إيمانه المطلق بها، ليكتشف بعد احتراقه أنه ضحية صيغة جوفاء لا معنى لها، مؤكداً بذلك أن الإيمان الأعمى لا نتيجة له إلا الرماد، في حين تعكس الرواية وعبر شخصية «طهر» و«جدار»، وفي جانب من شخصية حرز أن التمرد هو الخطوة الأولى نحو الحرية، فالتمرد على الصيغة، على «أرض» هو ما منح «جدار» حريتها، كذلك نجد «طهر» الذي لم يرضع من ثدي «أرض» قد أصبح مفكراً وكاتباً يعتمد المنهج العلمي في حياته، وقد استقل بنفسه، وانهمك بها منذ البداية حتى إنه خرج من ضيق القلعة إلى رحابة المدينة، أما أن ينوس الفرد بين صيغتين ولا يستطيع إدراك ذاته بشكل واف فلن يعيش قلقاً منتجاً وإنما سيعيش قلقاً مدمراً، فحرز حين تخلى قليلاً عن جدته «أرض» واتبع صيغة أمه «إغماء» استطاع أن يبدع في الموسيقى، وأن يعيش الحياة إلى أقصى متعة حيث يشعر في داخله برعشة «الزلزال الكبير»، أما حين يتمثل صيغة جدته ينكمش على ذاته ويعيش قلق وجوده وبحثه عن أصله متمسكاً بتلك الصيغة التي أودت به إلى فراش يحترق عليه ليصبح رماداً.
عملت الكاتبة مها حسن جاهدة على خلق أسطورتها الخاصة، وهي وإن كانت ممن يمنحون الشكل الروائي اهتماماً استثنائياً إلا أنها في المحصلة تسعى إلى تقديم موضوع لا يقل أهمية عن الشكل، وهي المولعة منذ طفولتها بالفلسفة وعلم النفس، وهي الحقوقية في دراستها وفي صلب حياتها المهنية، كل هذه العوامل تجعلها شديدة الانتقائية لموضوعاتها الفكرية والأدبية، وإذا كانت في روايتها هذه قد اختارت أسطورة النشوء الأولى للمجتمعات البشرية، وبالتالي فرضت على نفسها اعتماد الحكاية لنقل رؤيتها للموضوع، فإنها لم تنس أن الحكاية هي أبسط أشكال السرد، ولهذا حفرت عميقاً لتقدم هذه الحكاية ضمن إطار خاص وشكل خاص يتناسبان والفكرة الأساس التي عملت على كشفها على مدى ما يقرب من ثلاثمئة صفحة وهي «حل اللغز الذائع الصيت».
كذلك أفردت الكاتبة فصلاً إضافياً أشبه بمشهد مسرحي، تدخل فيه معظم شخوص الرواية بمن فيهم كاتبات العمل الثلاث إلى سرداب مظلم يتحدث فيه الأحياء والأموات، وتشكل فيه الكاتبة شخصية المسجل للأقوال، وفي هذا السرداب يبدو الخلاف على أشده بسبب الصيغة التي أدت بحرز إلى الموت وتتدخل «أرض» بعد أن نزلت من عليائها لتدافع عن نفسها ملقية اللوم على «حرز» الوحيد الذي اكترث للصيغة، في مشهد يعكس بذكاء حاد تلك الاصطراعات النفسية التي يعيشها الفرد داخل ذاته أثناء تفكيره الحيادي بتلك الصيغ التي تسبب له قلقاً وجودياً إضافياً، والتي لا تشفي غليله في الإجابة عن تساؤلاته المتعددة والمتباينة، وفي كثير من الأحيان لا يجرؤ على التصريح بها إلا داخل ذاته، بمعنى آخر داخل السرداب المظلم الخاص به، هذه الاتكاءة الرمزية الذكية منحت الرواية قدرة إضافية على استفزاز أفق التوقع لدى القارئ، مثيرة في داخله الكثير من الأسئلة التي آن له أن يناقشها بحيادية تامة وذهن منفتح.
أوان