القـــوة العاديـــة
عباس بيضون
على ظهر غلاف رواية ماري نداي حائزة غونكور لهذا العام جاء إنها تروي في ثلاث حكايات قصص نساء قلن «لا». عنوان الرواية، التي ليست رواية واحدة بل هي ثلاث منفصلة تماماً، «ثلاث نساء قويات» يدعم ذلك. بيد اننا مع ذلك نخطئ اذ ننتظر رواية نضالية. نداي لا تراوغ في العدد فحسب بل تراوغ في العنوان وفي الموضوع. لسن ثلاث نساء فالرواية الثانية وهي الأطول رواية رجل «رودي». ثم ان قولة لا ليست ببساطة العبارة، إذ ان لا عند فانتا هي ان لا تجيب. و«لا» كاندي دامبا ليست على الإطلاق لهذا الوضوح ثم ان العاقبة في روايات نداي ليست صريحة. الروايات الثلاث لا تنتهي غالباً او هي تنتهي فحسب حين تنفتح على نهاية أي عندما تخرج البطلة من حصار الأزمة لا من الأزمة نفسها. مع ذلك لدينا هذا الشعور بالتعليق، نهايات بلا نهاية، بنوع من بزوغ معادلة اخرى قد لا يكون لها واقع فعلي.
قد يكون مثيراً ان جانباً مهماً وأحياناً شاملاً من الروايات الثلاث ينقضي فعليا على الطريق. نورا قبل ان تصل ورودي في سيارته وكاندي دامبا في رحلتها التي تنتهي في قرية على الحدود. انها روايات مشائية إذا تذكرنا رواق افلاطون، الأبطال يفكرون اثناء مشيهم ولو في السيارة. يفكرون، الكلمة ليست كافية. في الحقيقة هم يغرقون في جدل صاعد هابط مفصّل ودقيق مع أنفسهم. انهم يسافرون بالفعل لكن رحلتهم الحقة هي في رؤوسهم. تبدأ القصة على الطريق وعلى الطريق تُستذكر ذهاباً وإيابا وتُبنى في حركتي المد والجزر. القصة هي الآن رحلة في الرأس لكن نساء نداي لسن مناضلات بل هن لا يعرفن كيف يقلن «لا» بل لا يقلنها بلفظها. نداي تراوغ ايضا في هذه النقطة. نورا التي يستدعيها والد صارم هجرها مع أختها وأمها وهرب الى بلده الافريقي ومعه أخوها الطفل، معه ذَكَرَ العائلة. عانين بسببه الفقر والضياع، لكن الأب ذاته يدعوها فتلبي بدون ان تعرف هي لماذا تركت ابنتها في عهدة صديقها الذي لا تركن لتهاونه مع ابنته وابنها وقله ضبطه، لماذا هرعت الى الرجل الذي تخلى عنها وحرمها من أخيها وألقى بوالدتها في هوة اليأس. لماذا استجابت فوراً لهذا الرجل الذي توقن بأنه غول وتحمل في داخلها كمّاً من الحزازة ضده. هل فعلت ذلك لأن حساباً معلقا لا يزال بينهما ولم تخرج بعد من معاناتها له. هل جاءت من بعيد لتتحرر. لتواجهه وتخرجه فعلياً من حياتها. هي نفسها لا تعرف لكنها وهي على الطريق تراجع لم تمنح أباها ذرة سماح. بدأت بمحاكمته ما ان جاءت للقائه. مع ذلك لسنا اكيدين انها ليست هنا لاسترداده. تراه في أسوأ حال ويجدد هذا ذكرى «غوليته». انه الآن ينام في شجرة كأنه بذلك يعود الى بريته بنتاه من زوجته الجديدة المختفية مهجورتان مثلما كانت نورا وأختها. انه الغول اليوم يشكل اصرح بعد ان تراجعت ثروته وسطوته وغدا ابنه الاثير في السجن بتهمة قتل زوجة ابيه عشيقته بعد ان قررت هجرانه. أما نورا فاستدعيت لتكون محامية أخيها فالأب لم يعد يملك، كما ادّعى، ما يكفي لتكليف محام. في النهاية ستعرف نورا ان الأب هو القاتل والابن بدافع الشعور بالذنب تحمل الجريمة عن أبيه. ونورا تقبل أخيراً دور المحامي لتخلص أخيها من سجنه ومن التضحية الأخيرة التي يريد الأب الغول، آكل ابنائه، ان يفرضها عليه.
هذا التلخيص هو فقط للسؤال أين قالت نور لا. لم تقلها عن طريق تحررها الجنسي كما هو الطريق الاقصر لـ«لا» النسوية. انها تحب صديقها لكنها تتذمر من طبعه اللعوب وقلة نظاميته، أي انها تشكو من ايثاره «الحرية» على النظام وما يقلقها الضبط هذه «اللا» التي في سلوكه وفمه، ابوها غول وظلّ غولاً وهو الذي طردها اولاً، ولم يستدعها الا ليلقى عليها تبعه أخيها الذي انتزعه من أمها ومنها.
اذن اين تكون «اللا». اين تكون القوة اذا عدنا الى عنوان الروايات في رواية، ليست اللا»سوى الدفاع عن أخيها ضد أبيها وضد تضحيته (الأخ) الإرادية بدافع الشعور بالذنب. انه استرداد الأخ الى أمه الميته المنتحرة، والى اختيه اللتين انتزع منهما. ليست «لا» صارخة بعد ان قتل الأب زوجته عشيقة ابنه وألقى التبعة على ابنه او قبل ان يلقيها هذا عليه. ليست «لا» صارخة اذ قد لا تكون استرداد الأب في الابن الذي حل محل أبيه حين جعل لنورا اختين من صلبه، اختين من اخيها. ليست «لا» الا لأن الابن الفظيع لم يخرج الا الآن من داخل «نورا» او احيل في الحقيقة الى ابنه، ان قتله الرمزي السبيل الى استرداده. ليست قوة نورا سوى صعوبة ان تكون قوية وليست اللا الا صعوبة اللا. القوة تأتي حيث تبدو عادية للغاية واللا حيث تكون بديهية. بعد كل هذا الصخب عن الحرية يبدو الآن كم هي صعبة وكم ان مجرد قبولها قوة.
«رودي» بطل القصة الثانية يريد ان تبقى «فانتا» له لكنه يعلم انه خسرها. لقد تدهور من أستاذ كفء الى بائع فاشل. دمره غضبه المتأرث من أبيه القاسي والقاتل وأمه السارحة الباحثة عن ملاك لا تجده أبداً في ابنها. غضبه يأكل لغته وذاته ولا يستطيع بسببه ان يجدهما. انه فقط هذا العنف المحتدم المكبوت او المعلن. يحب «فانتا» ويريدها ان تبقى لكنه لا يعرف ان يقول ذلك ولم يعد اهلا له، «فانتا» فقط لا تجيب وإذا صح انها عشيقة رب عمله فإننا نفهم اكثر بعدها. لكن القصة هي قصة «رودي» وانداي تراوغ حين تزعم في العنوان انها قصة فانتا. فانتا ليست سوى ما هي في رأس رودي المحتدم ودائماً على الطريق في السيارة التي يخجل منها. لا نعرف إذا كانت فعلا هجرته أم ان هذا هو ما يتحسب له. يكره رودي تمثال نحات البلدة لمجرد انه يجده يشبهه. انه يكره نفسه فيه. يذهب الى بيت النحات ويتأمل فيه نائماً وهو يصارع رغبة في قتله، انها رغبته بقتل أبيه او التماهي معه قاتلاً. في اللحظة الأخيرة يتراجع وهذه هي «اللا» الوحيدة التي نسمعها. اللا التي ليست سوى الامتناع، سوى اللاجواب الذي يصله من فانتا كلما رفع السماعة. لا أحد يرد، «اللا» الصعبة والثقيلة واللاموجودة حتى اننا لا نعرف إذا قيلت حقاً.
كاندي دامبا لا تقول «اللا» الا بالرغم منها تقريباً. تقولها بمرضها وامتهانها الجبري للدعارة. تقولها بازدراء أهل زوجها الميت لها وهجران الفتى الذي ساعدها بعد ان تركها برغمه تمارس الدعارة فاحتقرها واحتقر نفسه فيها، الى حد سرقة مالها وتركها وحدها تواجه مصيرها. اين «لا» هذه التي لم تكن سوى «قدر» ثقيل كاسح. أي «لا» هذه التي لم تكن سوى الوعي المؤلم والتجربة القاتلة، أي قوة هذه التي ليست الانسحاق الكبير تحت وطأة الألم.
ثلاث نساء قويات. لم تخدعنا نداي، كل الصراخ التبشيري والتحرري لا يهمها، نداي تعاني من جديد صعوبة الحرية، القوة وسرابها معاً و«اللا» الصغيرة التي ربما، فقط، نقولها بيننا وبين أنفسنا.
السفير الثقافي