صبحي حديديصفحات ثقافية

ألغاز طروادية

null
صبحي حديدي
هل من المدهش أن تكون ‘الإلياذة’، عمل هوميروس الخالد، كتاباً أساسياً ضمن مقرّرات كلية ‘وست بوينت’ العسكرية الأمريكية، التي تخرّج نخبة ضباط الجيش في مختلف الإختصاصات؟ المعلومة، رغم طرافتها بالطبع، قد لا تثير العجب إذا استذكر المرء حقيقة الموقع الأثير الذي حظيت به ‘الإلياذة’ لدى قادة الحروب على مرّ العصور، ابتداء من الإسكندر المقدوني، الذي كان يضع الكتاب تحت مخدّته؛ مروراً بقادة الحلف الأطلسي (إحدى عمليات العام 2007 في أفغانستان حملت اسم ‘آخيل’، نسبة إلى المحارب الإغريقي الشهير)؛ وانتهاء ببعض المفردات الإلياذية، إذا جاز القول، التي استخدمها توني بلير أمام لجنة شيلكوت مؤخراً.
الجدير بالانتباه، في المقابل، هو تبدّل تأويلات الطلاب الضباط في ‘وست بوينت’، وقد يجوز الحديث هنا عن تغاير قراءاتهم، للعمل ذاته في طورَيْن: ما قبل هزّة 11/9/2001، وما بعدها. وهذا ما تبيّنه، على نحو ميداني ومقارن، إليزابيث د. ساميت، في كتابها الفريد ‘قلب الجندي: قراءة الأدب سلماً وحرباً في وست بوينت’، الذي صدر سنة 2007. وإذا كانت ساميت قد تفادت استخلاص نتائج نمطية سطحية حول العلاقة بين النصّ الأدبي والمعركة العسكرية في ضمائر الطلاب الضباط، فإنّ ترقية الحرب إلى مستويات ‘الشرف’ و’الكرامة’ و’الوطنية’، أو حتى الطبعة الرومانسية من فروسية القرون الوسطى، كانت سياقات محتومة بلغتها الضمائر ذاتها، لشبّان تخرّجوا (إذْ يستعرض الكتاب تجارب عقد كامل)، والكثيرون منهم يقود اليوم عمليات عسكرية في أفغانستان والعراق وأمكنة أخرى.
لكنّ ‘الإلياذة’ هي وقائع حصار طروادة، ثمّ سقوط المدينة في أيدي الإغريق بفعل الحيلة والخديعة والغدر، وليس البطولة في القتال، أو الدهاء في التخطيط العسكري. هذه هي الحكاية التي جعلت قصيدة هوميروس بمثابة النصّ غير الديني الأكثر سرداً وتناقلاً، وإلهاماً واستلهاماً، على مدى التاريخ. ولقد توفّرت، في كلّ الأحقاب الرئيسية من عمر البشرية، أسباب متباينة تشجّع على استعادة الحكاية، وعلى استثمارها بما يخدم سلسلة من الوظائف الإيديولوجية والأخلاقية والثقافية والسياسية والتعبوية.
وفي أزمنتنا المعاصرة هذه، حين تبدو الإمبراطورية الامريكية وكأنها تستأنف ما انتهى إليه السلامان الروماني والبريطاني، لا تقفز أمثولة طروادة سريعاً إلى وجدان المحاصَر وحده، بل تتلبّس سلوك المحاصِر بدوره. وحين شهدت صالات العالم عروض فيلم ‘طروادة’، أحدث اقتباس هوليوودي للملحمة، وأكثرها كلفة (175 مليون دولار) وفخامة و… سطحية، لم تكن المصادفة الزمنية هي وحدها التي جعلت الكثيرين يربطون بين الملك الإغريقي أغاممنون كما يظهر في شريط ولفغانغ بيترسن، ووزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد كما يظهر في أشرطة البنتاغون. وفي قلب مهرجان كان الفرنسي اعتبر النجم براد بيت، الذي يؤدي دور آخيل في الفـــيلم، أنّ هـــذه الحكاية لا يمكن إلا أن تتوازى مباشرة وبوضوح مع ما يفعله زعماء أمريكا وبريطانيا في العراق. سافرون بوروز، الممثلة البريطانية التي تؤدي دور أندروماك، ذهبت أبعد حين اعتبرت أن الشقيقين أغاممنون ومنيلاوس يذكّرانها بـ ‘الأخوّة القائمة حالياً بين بوش وبلير’.
هذه القيمة الطروادية تتواصل وتتعاظم، بالرغم من أنّ الأبحاث الأركيولوجية المعاصرة أخذت تشكك في رواية هوميروس، بما في ذلك حكاية الحصان الذي ابتدعه أوديسيوس لمخادعة الطرواديين ودخول المدينة، قبل تدميرها. ثمة، بصفة خاصة، أشغال عالِم الآثار الألماني مانفريد عثمان كوفمان الذي توجّه، منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، إلى محيط الموقع الإفتراضي لمدينة طروادة، كما حدّده ابن بلده هنريش شليمان، أواخر القرن التاسع عشر، في شمال شرق تركيا على شواطىء الدردنيل. كشوفات كوفمان الثمينة (التي دفعت الحكومة التركية إلى منحه الجنسية الفخرية، واختار من جانبه إضافة ‘عثمان’ إلى لقبه الألماني)، أطلقت النقاش مجدداً حول ما إذا كانت طروادة قد سقطت بالفعل؛ أم أنها، على العكس: انتصرت، حين تمكنت من عقد حلف استراتيجي مع الحثيين، الذين كانوا قوّة إقليمية كبرى، فأجبرت جيوش الإغريق على الإنسحاب.
كذلك اتضح أنّ هوميروس لم يكن شاعراً طليق الخيال فحسب، بل لعلّه كان سارداً محنكاً أيضاً، صنع حبكة روائية شيّقة من مزج حكاية حبّ بحكاية حرب. فقد أثبتت أبحاث أركيولوجية أخرى أنّ السبب الأهمّ لحصار طروادة لم يكن استرداد هيلين (صاحبة ‘الوجه الذي جنّد ألف سفينة’، حسب الشاعر الإنكليزي كرستوفر مارلو)، بل نزعة التوسّع الإمبراطوري لدى الإغريق، وجشع الملوك إلى الثروات، فضلاً عن حاجتهم إلى البرونز في صناعة السلاح، إذْ تقول الدلائل إنّ طروادة كانت تمتلك منه الكثير.
وأياً كانت ألغاز طروادة، التي تتكشف يوماً بعد آخر، فإنها كانت وتظلّ أمثولة يقبل شعراء مثل و. ب. ييتس وهيلدا دوليتل وأوسيب ماندلشتام ومحمود درويش بالإنتساب إليها. وفي تناظر بديع بين الحكاية الطروادية والحكاية الفلسطينية، قال درويش ذات يوم: ‘خياري أن أكون شاعراً طروادياً (…) لأنّ طروادة لم ترو قصتها. نحن للآن لم نرو قصتنا، رغم كل الكتابات التي كتبناها. لم نرو قصتنا، وهذا ما يفسّر مقطعاً قلت فيه إن مَنْ يكتب حكايته يرث أرض الكلام’.
وفي وسع المرء أن يكــــمل الإقتبـــاس: ‘.. ويملك المعنى تماما’!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى