أذكياء يستحقون الفرجة
خطيب بدلة
أصاب “دستويفسكي” العظيم كبد الحقيقة حينما قال بأن الذكاء الإنساني محدود، وأما الغباء فليس له حدود على الإطلاق.
ولأن وجود الذكاء بين البشر محدود، فإن من حقنا- نحن الأغبياء ومتوسطي الذكاء- أن نتحدث عنه، ونترنم به، ونغني له حتى تجف أرياقُنا، ونخاف عليه من العين البصاصة التي ستبتلى إن شاء الله برصاصة، بل ونتباهى به على طريقة القرعاء التي تتباهى بشعر ابنة خالتها الذي تصلُ جدائلُه إلى ما تحت مؤخرتها بعدة سنتمترات!
بهذا الصدد حدثني صديقي أبو الجود- إلهي يحرسه من العين ويسلمه لي- عن مسؤول في إحدى المحافظات البعيدة عن العاصمة، بلغ به الذكاء مبلغاً مَرَضيّاً، فأصبح يعاني، مع كل (كريزة ذكاء حادة)، من الصداع القوي، حتى إنه يرغب بضرب رأسه بأقرب جدار، عسى أن يهدأ الألم،.. وحينما راجع طبيبه الخاص، وشكا له مما يعاني بسبب الذكاء، نصحه الطبيب بأن يخلع جاكيت الطقم ويستلقي على أقرب سرير، حتى ولو كان ذلك أثناء الدوام الرسمي، وأن يفك عقدة (الكرافات)، ويقلب وأزرار القميص العلوية، ويمدد يديه وساقيه، ويفرد أصابعه، ويسترخي استرخاء تاماً، ولا بأس من كأس زهورات بلدية، مع حبة دواء من ماركة معينة، سجلها الطبيب على الوصفة، وأحضرها له المرافقون، ودأب صاحبنا على تناولها أثناء النوبات حتى إنها عرفت بـ (حبة تخفيض الذكاء)!
إن الشيء الغريب في هذه المسألة- على ذمة صديقي أبي الجود- هو أن ذكاء ذلك المسؤول من النوع الداخلي المُخَادِع، فشكله الخارجي ليس فيه أية علامة من علامات الفطنة والنباهة، بل إنه يوحي بالحال النقيض، أعني- وعذراً لهذا الاستنتاج- بالغباء، أو بما نسميه نحن أهل معرتمصرين بـ (الطَشْمَنة)، فحينما يمشي على الأرض، وهو قلما يمشي، تراه محنياً رأسه إلى الأمام، (مدوحماً)، لا يفكر بما قيمته قرش سوري واحد، وإذا حدثته بحديث وأنت تنظر في عينيه، سيتهيأ لك أنه لم يفهم عليك شيئاً، لأن عينيه خاليتان من أي بريق، أو تعبير، وإذا دخلت عليه في مكتبه، حتى ولو كنت على موعد معه، فإنه لا يقف احتراماً لك، ولا يمد يده لمصافحتك، وأول ما يخطر لك أنه شبيهٌ بالحجر الذي يسميه الفلاحون (القباع) الذي يوضع على الحدود الفاصلة بين أرضين أو بستانين، وهذا لا يجوز تحريكه من مكانه مهما كلف الأمر، لأن إقدام أحد الطرفين المتجاورين على زحزحته سوف يؤدي بالتأكيد إلى وقوع مشاكل حادة بينهما، وقد تتسع المشكلة ويأتي أقارب الطرفين للتدخل فيها، فيقع ضحيتها، في بعض الأحيان، قتلى وجرحى!
قلت لأبي الجود: ما شاء الله كان. والله العظيم شوقتني لرؤية هذا المسؤول. طيب قل لي، لماذا لا يستثمر بالفرجة عليه من قبل عامة الشعب.
ولتوضيح فكرتي أكثر، قلت لأبي الجود: يمكن وضع أسهم في الشوارع تدل المار على الجهة التي يقع فيها المبنى الذي يداوم فيه حضرتُه، وعند المصعد إشارة مكتوبة إلى أن الشخص الذكي جداً فلاناً الفلاني موجود في الطابق رقم (كذا)، الغرفة رقم كذا..
فكر أبو الجود في الأمر ملياً وقال لي: قصدك استثمار سياحي؟
قلت: أي نعم، ولكن انتبه الله يخليك. يجب أن تكون الفرجة عليه مجانية بنسبة مئة بالمئة.
قال: ليش؟
قلت: لأن المواطن، بطبيعة الحال، طفران، ومفلس، وعايف رد السلام! فالمواطن العاطل عن العمل لا يجد من يشغله عنده، ولا حتى بأكله وشربه وتدفئته، وأما المواطن الموظف فلا يكفيه راتبه، وتعويضاته بالقطارة، وهو يدفع الضرايب والفواتير ابتداءً من اللحظة التي يحتسي فيها المسؤول قهوته الصباحية، وحتى اللحظة التي يضع رأسه فيها على المخدة لكي ينام. وحينما يحصل على (ما يسمونه مكرمة والأجدر بهم أن يسموه مهزلة)، كالشيكات التي خصصتها الحكومة العتيدة للدعم (الماظوطي)، ينخرط في الطابور من أجل الشيك، وبعد قليل لا يفكر إلا بشيء واحد: ألا وهو الخروج من جوف الطابور حياً، فالحي أفضل من الميت!..
ودمتم.
جريدة النور