الكارثة العظمى بين مسؤولية الأنظمة والشعوب
منصف المرزوقي
طلب مني قارئ فاضل في إطار الردود على مقالتي الأخيرة “وفي آخر المطاف.. هل هناك حلّ؟”، أن أكتب عن مسؤولية الأنظمة والشعوب في وضع أمتنا الذي فضحه تقرير 2009 لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائيوالذي لا يمكن وصفه إلا بالكارثة العظمى، أي تحديد من الجاني الحقيقي على حاضرنا ومستقبل الأجيال القادمة.
الخشية إعادة ما قيل في حلقة الاتجاه المعاكس التي خصصت للموضوع، ولكل واحد منا مذنبه المفضّل مع قدرة فائقة على إنكار حجج الطرف الآخر.
***
لتناول الإشكالية بصفة بنّاءة، لا أحسن من الانطلاق من المقولة الشهيرة “كيفما تكونوا يولّى عليكم”.
هي تذكّرنا أن طغاتنا الذين قادونا إلى حافة الهاوية لم يأتوا من المريخ وليسوا عملاء إسرائيليين جنّدهم الموساد في أخبث وأخطر عملية. هم منا وإلينا بل لا يمكن تصورهم بالصفات التي هم عليها وبالتصرفات التي نعرفها لهم إلا في بلداننا. فلو كانوا سويديين لما دخل أغلبهم جامعة ولا حتى مدرسة ثانوية، ولو كانوا أميركيين لطلعوا للمشانق أو قضوا حياتهم في السجون نتيجة إدانتهم في قضايا القتل تحت التعذيب وسرقة الأموال العمومية ومنهم من كان سيقضي أربعين سنة في مستشفى الأمراض العقلية.
من يقرأ كتاب الباحثة الفرنسية بياتريس هيبو “قوة الطاعة.. الاقتصاد السياسي للقمع في تونس” يفهم أن ما يدهش العقل الغربي عن العرب قدرتنا الفائقة على طاعة أفسد الحكام، والحال أن الثقافة الغربية مبنية على رفض الانصياع للظلم وتشريع الحق في مقاومته إلى درجة أن الدستور الأميركي يشرّع لامتلاك السلاح الشخصي استعدادا للدفاع عن الحقوق، وهو القرار الساري مفعوله إلى اليوم.
ثمة بالطبع كثير من الأسباب للظاهرة المرضية، لكن من أهمها تركيبة العائلة التي ربّتنا، أي سلطة الأب المطلقة وترويضه المبكّر لأطفاله على طاعته وطاعة أولياء الأمر وفي مثل هذه العائلة القاعدة أنه لا وضع إلا آمرا أو مأمورا.
ثمة أيضا المدارس التي ذهبوا إليها حيث تعرضوا مثلنا لعملية غسل –أو قل توسيخ دماغ– واسعة النطاق، وبرامج التاريخ لا تقدّم إلا نصف تاريخنا بخصوص الفتوحات والأمجاد والحضارة التي ليس لها مثيل، مهملة النصف المظلم من غزو وغنائم ورقّ وظلم وقهر وحروب أهلية لم تتوقف لحظة على مرّ خمسة عشر قرنا.
أليست هذه البرامج هي التي باعتنا صورا كلها تطبيع وتطويع وتهيئة لقبول سلاطين هذا العصر، ومنها أننا لا ننتفض استنكارا أن يهب هارون الرشيد الجواري لأي شاعر مدحه بأربعة أبيات أرضت نرجسيته اللامتناهية، أو أن يكون له آلاف العبيد والغلمان المخصيين، ومسرور السيّاف واقف جاهز لقص رأس كل من يغضب عليه؟ أليست برامج الأدب هي من حفظتنا وجعلتنا ننتشي بالتفاخر المقيت من نوع “إنما العاجز من لا يستبدّ” أو “ونشرب إن ظمئنا الماء صفوا.. ويشرب غيرنا كدرا وطينا”؟
من أين لنا أن نعيب على طغاتنا كبرياءهم المرضي وغرورهم وحبهم للسطوة والفخر والتكبّر وفي أحسن الأحوال المنّ لكي تلهج الألسن بالمديح، وزادهم الثقافي هذا “الخرم” الذي حشتهم به برامج التاريخ والأدب، ناهيك عن برامج التربية الدينية التي تجعل الخوف من الله وليس الحب والثقة ركيزة التدين؟ كيف ندين عنفهم تجاه كل نقد وقد نشؤوا في بيئة ترفض الرأي المخالف ولا تقبل به على أشدّ المضض إلا عندما تعجز عن استئصاله، وتتنطع لكل مراجعة تمسّ ثوابت رفعت حولها جدرانا من القداسة الكاذبة لا تعكس إلا هشاشة المدافعين عنها ومصالحهم؟
هم أيضا إفراز لتنظيم اجتماعي ما زال متشبعا بقدر كبير من القبلية والجهوية والطائفية، ومن ثمّ لا غرابة من اعتبارهم السلطة غنيمة حرب تقسّم بين الأولى بالمعروف من أبناء العمّ والخال.
خذ أي تونسي أو مصري أو يمني يمشي في الشارع وضعه في السلطة. هناك تسعون في المائة من الحظوظ لكي يتصرف بكيفية لن تبعد كثيرا عن تصرفات بن علي ومبارك وصالح.
هل يكون سبب تأقلمنا مع الدكتاتورية وسكوتنا عن موبقاتها ليس ضعفا كما يقال وإنما كوننا لا نقاوم بجدية أناسا يشبهوننا بل هم المرآة التي ترجع لنا صورتنا وقد تحققت أخيرا عبرهم أعمق شهواتنا المكبوتة؟ والآن تصور الخزّان الهائل من المستبدين النائمين الذين تزخر بهم المجتمعات العربية ثم حاول أن تنام مطمئنا على مستقبل الأجيال الصاعدة.
***
إلى هنا يمكننا الجزم بأن المجتمع بعائلته ومدرسته وثقافته يتحمل المسؤولية الكبرى في بلورة نظام سياسي قاده ولا يزال بخطى ثابتة نحو الهاوية، لكنه لا يعكس في آخر المطاف إلا عاداته وتقاليده.
المشكلة أن مقولة “كيفما تكونوا يولّى عليكم” وإن كانت صحيحة لا تصف، كما هي العادة في كل المقولات التي تدعي الحسم في أي موضوع، إلا نصف الحقيقة. من يستطيع أن ينكر أن هناك حججا قوية تثبت صحة معارضتها أي “كيفما يولّى عليكم تكونوا”.
تمعّن في تبعات طريقة حكم طغاة فاشلين (لو استطاعوا على الأقل أن ينجحوا فيما نجح فيه الاستبداد الصيني).
هم يحكموننا منذ نصف قرن بالقمع، بالظلم بالقانون، بتوزيع المناصب حسب الولاء لا الكفاءة، بفساد أفسد كل دواليب الحياة الاجتماعية حتى ضجّت منه السماء والأرض، بتتبع كل القوى الحية وإخمادها أو تلويثها، ناهيك عن تزييف الحاضر والماضي لإشاعة الفوضى في العقول. كيف نستغرب استشراء الخوف والجبن والإحباط والجهل والانتهازية والاستقالة الجماعية وأن تكون لنا مجتمعات محطمة نفسانيا وفكريا واقتصاديا.
إذن من جهة حكام يبلورون خصائص مجتمعات متخلفة ومجتمعات متخلفة تزداد تخلفا بفعل سوء حكم قادة اختفى نمطهم تقريبا من أغلب دول العالم.
عندما تصل إلى هذه النتيجة يتراءى لك دوراننا في حلقة مفرغة جهنمية، والشعوب بحكم تخلفها تفرّخ الدكتاتور بعد الآخر، وهؤلاء الطغاة يعمقون تخلّف المجتمعات التي بلورتهم فلا تزداد إلا إنتاجا لحكام أكثر تخلفا وهكذا إلى الانهيار التام والعودة إلى فوضى ما قبل الحضارة.
اليمن نموذجا والصومال الخاتمة الحتمية؟
هل تكون الصوملة الشاملة نهاية مطاف أمة فشلت أنظمتها في التغيير وشعوبها في فرضه؟
***
من حسن الحظ أن العلاقة بين الشعوب وأنظمتها ليست بمثل هذه البساطة والميكانيكية.
للمتنبي بيت شهير:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ** ذا عفة فلعلّة لا يظلم.
ما نسيه أبو الطيب أن في النفوس من ظلم (ومن غباء ومن لا وعي) ما فيها من حسّ العدل (ومن ذكاء ومن وعي)، وإلا لكنا انقرضنا منذ زمن طويل كأمة وحتى كجنس بشري.
لا أسهل إذن من معارضته ببيت آخر يذكّر بالنصف الملآن من الكأس:
والعدل من شيم النفوس فإن تجد ** ذا زلّة فلعلّة لا يعدل.
معنى هذا أنه يوجد دوما داخل أفسد الأنظمة التي تفرزها أكثر المجتمعات تخلّفا، رجال ونساء لهم من الذكاء والوعي والحس الأخلاقي ما يجعلهم يرفضون الانسياق وراء مجرى الأمور التي يدفع إليها الجزء الأظلم من شيم النفوس. هل من داع للتذكير بأن الرسول الكريم خرج من رميم قبائل ومع هذا شيّد أمة.
وقريبا منا هل ننسى من أين خرج مانديلا وحتى من أين خرج دوكلارك الذي قاسمه جائزة نوبل للسلام وهو يفهم أنه لم يعد بالإمكان مواصلة الميز العنصري وأنه لا بدّ من قطع جذري معه، هو الذي كان المكلّف الأوّل بالدفاع عنه.
ما لا نستطيع تقديره بالضبط نصيب حرية الفرد ونصيب ضغط المجتمع في مثل هذا التحول.
الثابت أن للعاملين تأثيرهما، لكن الضغط الاجتماعي هو الأقوى، فالتغييرات التي تحصل داخل الأفراد القادرين على الخروج من وعلى النظام الفاسد الذي وجدوا أنفسهم داخله، لا تعكس عادة إلا وعيهم بالتغييرات العميقة داخل المجتمعات وفهمهم أنه من الأجدى الانسياق في التيار بدل التجديف ضده.
انظر الآن لقوى التغيير الجذري الثلاث التي تعيد تشكيل مجتمعاتنا وكأنها القوى الجيولوجية الجبارة التي تعيد صياغة الجغرافيا: تحرّر المرأة وانتشار التعليم والضغط الذي تمارسه علينا الأمم المتقدمة.
كم صدق الطاهر الحدّاد الذي سنّ في ثلاثينيات القرن الماضي أن تحرّر تونس وتحرّر المرأة شيء واحد، حتى وإن قصر الأمر على تربية الأجيال القادرة على مواجهة الاستعمار الخارجي، والحال أن لتحرّرها تبعات أعمق.
ما نعيشه حاليا بخروج المرأة للمدرسة والجامعة والعمل وتزايد ممارستها لحقوقها ثورة هائلة لم يسبق لها مثيل في تاريخنا. من ينتبه إلى أن نصف الأمة كان حبيس الجدران معطّل الطاقات كل هذه القرون التي يصرّ الكثيرون على أنها كانت أعظم القرون (ناهيك عن كون النصف الآخر كان مكبلا بالجهل والفقر). هذه الاستفاقة المباركة لنصف الأمة أدّت وستؤدّي أكثر فأكثر إلى عائلة أقل إنتاجا للطبيعة الاستبدادية، والطفل مواجه منذ نعومة أظافره بسلطة وسلطة مضادة وقرارات تؤخذ بالحوار لا بالفرض.
أحد أهم الشروط الأخرى الضرورية لإنهاء الاستبداد أيضا بصدد التحقيق أي انتشار التعليم.
إن أنظمتنا بدائية أي أنها أنظمة بداية التاريخ حيث كان الحكم المطلق بالعنف وحشو الأدمغة طريقة طبيعية وحتى ضرورية لتسيير شعوب من الفلاحين الأميين المؤمنين بالخرافات. تغيرت مجتمعاتنا في العمق -ولو ليس بالكم المطلوب- أما طغاتنا فلم يغيّروا إلا أزياءهم، تكاد تبصر تحت البذلة الأنيقة وربطة العنق جبة ملوك الطوائف. ما يغيّره التعليم (ثم الإعلام) ليس فقط مستوى الوعي والفهم عند أبسط الناس وإنما ارتفاع مستوى الطلبات ومنه الحق في الكرامة والحرية.
هناك أيضا توسّع النخب المطّرد ورفضها أن يستأثر بالحكم أناس عاديون وحتى أقل من عاديين (ومن ثم مغالاتهم في نسج هالة القداسة حول أشخاصهم). هؤلاء اللاعبون الجدد بتكاثرهم وتزايد نفوذهم هم الذين سيمارسون ضغطا متصاعدا لوضع حدّ للاستئثار بسلطة بلا مسؤولية وسيفرضون طال الزمان أو قصر المحاسبة والتداول.
هذه التوجهات الجديدة هي من تبعات الاحتكاك بالشعوب الأكثر تقدما وخاصة الشعوب الغربية. ما لا ننتبه له أننا من أكثر الشعوب تفتحا وإتقانا للغات الأجنبية وانفتاحا على كل الثقافات إلى درجة تؤدي أحيانا إلى الاستلاب الحضاري. لكن كل هذا إيجابي وقد يتضح يوما من قراءة بعيدة النظر للتاريخ أن هذا الاستعداد الذهني كان ورقة رابحة وحتى عنصر تفوّق على شعوب مغلقة على نفسها بفعل عجرفة السبق الحضاري.
قد يكون من المجدي هنا تذكير الجزء المحافظ من ثقافتنا بعبث التصدي للتلاقح الفكري الناتج عن هذا الاحتكاك، مثلما يجب تذكير الجزء الحداثي بعبث التصدي للجزء المحافظ، لأن التوجهين يعبّران عن حاجتين ضروريتين للمجتمعات وإن كانتا متناقضتين ظاهريا: التواصل ولو بثمن التحجّر، والتجدد ولو بثمن القطيعة.
الثابت أن الشعوب الغربية تمارس علينا منذ أكثر من قرنين ضغطا قاسيا وعنيفا في ثوب الاستعمار والإمبريالية والصهيونية، واليوم تمارس علينا الشعوب الآسيوية ضغطا من نوع آخر وهي تتقدم علينا بخطى حثيثة.
مثل هذا الضغط على تكلفته الباهظة أمر إيجابي، إذ هو صدمة تستنفر فينا القوى الغريزية للبقاء وما يتطلبه الأمر من رفع مستوى فعاليتنا إلى مستوى المنافسين. إنها الآلية التي مكّنت من تعطيل الآلة العسكرية الإسرائيلية التي انتقلت من الحروب (النزهات) في الخمسينيات والستينيات إلى ما ذاقته في جنوب لبنان وغزّة في السنين الأخيرة.
لا غرابة أن نحاول نقل، ولو بصعوبة فائقة، ما يتضح أنه أحد مصادر قوة الشعوب الغالبة، أي نظامها الديمقراطي وكل ما يمهّد له من أفكار وقيم.
قلّ من ينتبه أننا قطعنا نصف الطريق نحو الديمقراطية وقد افتككنا حرية الرأي وخرجنا عن طوق الحزب الحاكم الذي كان يدعي في الستينيات قدرة “تأطير” الشباب والنساء والعمال والطلبة. أما انتخاباتهم السخيفة فهي تصطدم من انتخاب لآخر بصعوبات متعاظمة ستؤدي إلى نهايتها. معنى كل هذا أن الحلقة المفرغة التي خفنا أن تقودنا إلى الصوملة الشاملة قابلة للكسر في مستويين، الأول مستوى الأنظمة نفسها التي يمكن أن تفرز رجال دولة يأخذون على عاتقهم تقويم المسار ولو أنه من الأحسن ألا نراهن كثيرا على هذه الآلية حتى وإن كانت مستحبة لأنها توفّر على الشعوب كثيرا من الدم والدموع. المهمّ أن نسرّع بكسرها في المستوى الاجتماعي بتكثيف التوعية والدعوة وبناء التنظيمات المستقلة وقيادة المقاومة المدنية إلى لحظة انهيار الاستبداد.
والخلاصة أنه بأسرع ما تكسر الحلقة الجهنمية في المستويين بقدر ما تزداد حظوظ أمتنا في مستقبل يجعلها في غير حاجة للهروب طول الوقت للماضي.
إذا كان التشاؤم في غير محله لأن قوى التغيير تعمل على قدم وساق، فإن الأمل بحلّ سحري وجذري وسريع وهمٌ خطير. ثمة الجزء المتخلف من المجتمع بحكم تواصل الفقر والجهل والاستلاب الذي سيواصل تفريخ كل الأجوبة الخاطئة ومنها مستبدون جدد، الأرجح باسم الدين هذه المرّة.
ثمة خاصة بطء التغييرات “الجيولوجية” التي تعيد صياغة مجتمعاتنا ونحن في صراع مع الزمن.
هذا ما يجعل المستقبل أمامنا ساحة مفتوحة على كل الاحتمالات، لا قدرا محتوما في اتجاه أو آخر. إنه وضع صعب، لكنه منعش ويجب أن يستفزّ فينا كل ما تزخر به عروقنا من إرادة وعزم، وشعار المرحلة إن أردنا لنا مكانا في هذا الزمان مقولة الفيلسوف نيتشه: “الأماني التي وعدتنا بها الحياة، مهمتنا نحن تحقيقها لها”.
الجزيرة نت