مؤسسات التعليم في مرمى الإرهاب الأصولي
خالد غزال *
أشار تقرير حديث صادر عن وكالة التعليم والثقافة والعلوم «اليونسكو» التابعة للامم المتحدة، الى أن الهجمات التي طاولت مؤسسات التعليم والطلاب والمدرسين حدثت في ما لا يقل عن 32 دولة في العالم، وذلك في الفترة الممتدة بين عامي 2007 و2009. نالت بعض الدول العربية نصيباً وافراً من هذه الاعتداءات خصوصاً في العراق واليمن والجزائر والصومال، وأورد التقرير أرقاماً طاولت العراق حيث قتل 71 أكاديمياً و37 طالباً في عمليات اغتيال وتفجير.
أما في شأن دوافع الاعتداءات، فقد تفاوتت بين بلد وآخر، فمنها ما كان هدفه منع الفتيات من الذهاب الى المدارس والجامعات، ومنها رفض تعليم لغة أجنبية، ومنها إقفال الجامعات اعتراضاً على أنماط التعليم السائد غير المتوافق مع توجهات التنظيمات الأصولية. يشكل التقرير والأرقام الواردة فيه نموذجاً عن الأخطار المحيقة بالتعليم، وإمكان تحول الذهاب الى المدرسة أو الجامعة مصدر خطر على الحياة، خصوصاً في البلدان التي تجتاحها الأمية ويعشش التخلف في جميع مناحي حياتها، ومن بين هذه الدول ما يطاول العالم العربي.
في قراءة استرجاعية للعنف الذي ضرب مؤسسات تعليمية في العالم العربي الذي تسود بعض بلدانه اضطرابات ناجمة عن الارهاب الأصولي، تمكن رؤية التصميم الواعي على استهداف هذه المؤسسة أو تلك، بحيث تنتفي صفة الإرهاب الأعمى الذي يطاول مستهدفين وأبرياء وعمليات من دون أهداف سياسية. تستهدف العمليات في شكل أول المدارس الخاصة بالفتيات، وهو استهداف يرمي الى منع المرأة من دخول عالم التعليم، استناداً الى مقولات وفتاوى تضع المرأة في موقع دوني من الرجل، وتحدد مجال حياتها في المنزل. وهو منطق يحمل في طياته أقصى علامات التخلف المقترن بنمط النظام الاجتماعي السائد والقائم على هيمنة ذكورية تسعى الى إبقاء المرأة تحت سيطرة الرجل، لكون التعليم وانتقالها الى سوق العمل قد يتسبب في نزاع على المساواة في الحقوق، وعلى حق المرأة في تبوؤ المواقع والمراكز التي تعتبر حكراً على الرجال.
أما ضرب المؤسسات الجامعية واغتيال الأساتذة وتفجير مراكز تعليم اللغات الأجنبية، فإنما يهدف الى إرهاب القائمين على تعليم الأجيال، وإرسال رسالة واضحة معترضة على أنماط التعليم السائد المتهم بالعلمانية، أو المغيّب لتعاليم وفتاوى الفقهاء في شأن أمور الحياة، أو ذلك العلم الذي ينشيء أجيالاً تدرس، في ما تدرس، نظريات تطور الحياة والكائنات البشرية، بما لا يتناسب والافكار السائدة في هذا المجال. ولا يخفى أن أحد أسباب «إقفال» مؤسسات التعليم لدى الفكر الإرهابي الأصولي، إنما تكمن في نظرية ترى أن موقع الإنسان لا بد من أن يكون في «الجهاد» وفق منظور هذه الحركات، وأن الذهاب الى المدارس والجامعات سيحرم جيش الأصوليات من انتماء عناصر جديدة إليها.
يكتسب الاعتداء على المؤسسات التعليمية أبعاده الخطيرة على مستقبل كل قطر عربي، راهناً ومستقبلاً، ويمس في الجوهر إمكان تطوره وتنميته. فلو نظرنا الى الإصرار على الحد من تعليم المرأة عبر ارهابها وتهديد حياتها إذا ما ذهبت الى المدرسة أو الجامعة، لوجدنا أن هذه الممارسة تطاول أكثر من نصف المجتمع العربي، وتتسبب في تهميش موقع المرأة، ومنع مشاركتها في تقدم البلد والمجتمع على السواء.
في عالم عربي يعاني من التخلف والعجز عن استخدام طاقاته البشرية في تطوير قطاعاته الانتاجية، يصب منع المرأة من التعليم أو تقليص فرص الحصول عليه، عنصراً إضافياً في تعميق التخلف وإعاقة المجتمع عن التقدم، بما يزيد من انحدار المجتمع وهيمنة فئات قليلة على السياسة والاقتصاد والفكر.
أما الإرهاب الذي يطاول مؤسسات الفكر والعاملين فيها من أساتذة وطلاب، فإنما يهدف في حقيقته الى الحد من انتشار التعليم واختراقه لبنى التخلف السائدة. تتبدّى مخاطر عملية «التجهيل» التي ترغب الاصوليات الإرهابية في سيطرتها، من كون المجتمعات العربية تحوي أكبر قدر من الأمية في العالم حيث تلفّ هذه الأمية حوالى ثلثي الشعب العربي، وتشكل عاملاً حاسماً في انحدار مستوى الحياة العلمية والثقافية فيه. يقترن عامل الجهل والأمية بعامل الفقر ليشكلا قاعدة لولادة جيش من العاطلين من العمل والفقراء والمعدمين، مما ترغب الأصوليات الإرهابية في تكريس وجوده.
من المعروف في الزمن الحاضر، وبعد انهيار مشاريع التنمية والتحديث التي شكلت الشعارات التي قامت عليها في الستينات ومنتصف السبعينات مدار التقدم، كما شكل الفقراء فيها رافعة للتغيير الاجتماعي الذي مسّ أكثر من بلد عربي، واتخذ صفة الدفع بالمجتمع الى الأمام على حساب البنى المتخلفة السائدة، هذا الجيش من الفقراء نفسه، المصاب بالإحباط واليأس، يشكل اليوم الخزان الذي تغرف منه الحركات الإرهابية الأصولية، بل يشكل التربة الخصبة لازدهار هذه الأصوليات.
لا تشير التطورات التي يشهدها العالم العربي الى تراجع في العنف الإرهابي الأصولي، بما يسمح بتطور سلمي للأقطار العربية. يشكل الإصرار على بقاء مؤسسات التعليم ممارسة لدورها، ومتحدية هذا الإرهاب، واحداً من عوامل النهوض في جانبه العلمي. يمثل الخوف والاستسلام أمام هذه الهجمات أفضل خدمة لسيادة منطق الإرهاب والخضوع لتوجهاته.
* كاتب لبناني
الحياة