2004 ـ 2010: سنوات الجفاف وعودة جنبلاط إلى سوريا
نقولا ناصيف
الإشارة الوحيدة العلنية، والمباشرة، التي تلقاها رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي من دمشق، عن الصفحة الجديدة بينه وبين الرئيس بشّار الأسد، هي إيعاز وزير الإعلام محسن بلال إلى وكالة سانا نشر مقتطفات من حديثه إلى الزميلة السفير في 9 شباط. كانت الإشارة ذات دلالة مزدوجة: أولها أن اسم جنبلاط يعود للمرة الأولى إلى وسائل الإعلام الرسمية السورية بإيراد مقتطفات من مواقفه بعد امتناع استمر خمس سنوات، كان البديل منها في عزّ المواجهة حملات عنيفة عليه. وثانيها تعميم تلك المقتطفات التي تناولت العلاقات اللبنانية ـــــ السورية والموقف من إسرائيل وسلاح المقاومة والعروبة وفلسطين كأحد مظاهر الاعتراف السوري بصدقية ما أدلى به الزعيم الدرزي.
ما خلا تلك الإشارة العلنية والمباشرة، كل ما بلغ إلى جنبلاط، وخصوصاً من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله اتسم بالإيجابية، معبّراً عن أن دمشق تجاوزت تماماً ونهائياً ما حدث بين الطرفين في السنوات الخمس المنصرمة، وصارت أكثر استعداداً لبعث الروح في علاقة جديدة قديمة بينها وبين وجنبلاط. لم يعد موعد الزيارة سوى مسألة ثانوية لا تحتاج إلى امتحان، ولا إلى تبرير وأدلة إضافية. دخل على خط تشجيع استعادة جنبلاط إلى دمشق بلا تفويض أربعة على التوالي: النائبان سليمان فرنجية وطلال أرسلان ورئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس المجلس نبيه برّي.
لكن عودة جنبلاط إلى التحالف مع دمشق لا تحجب بضع وقائع سبقت تدهور علاقته بها منذ صيف 2004، إلا أنها بلغت ذروة أواخر السنة التالية، عندما دخلا في مواجهة أوحت أن لا عودة عنها، ومع ذلك عادا.
منذ تشرين الثاني عام 2000 أخذ جنبلاط على دمشق تغليبها الدور الأمني على السياسي في علاقتها بلبنان، وتردّدها في الوقت نفسه بإعادة نشر جنودها في لبنان، حمله على المطالبة بتنفيذ اتفاق الطائف. ثم ارتفعت وتيرة الخلاف بعد تعطيل دور مسؤولين سوريين، أصدقاء لجنبلاط وللرئيس الراحل رفيق الحريري، كانوا قد اضطلعوا بدور الحلقة الوسيطة بين القيادة السورية والسياسيين اللبنانيين، وأخصّهم حلفاؤها.
بعد 5 سنوات بات من الصعوبة التأكد من أن سوريا هي التي نفّذت كل تلك الاغتيالات
هي المهمة التي تولاها طوال عقد ونصف عقد من الزمن نائب الرئيس عبد الحليم خدام ورئيس الأركان العماد أول حكمت الشهابي واللواء غازي كنعان. ورغم الموقع العسكري والأمني للأخيرين، كان دوراهما سياسيين بامتياز وأسهما في تجنّب حصول أي خلاف بين جنبلاط والرئيس الراحل حافظ الأسد. إلا أن إبعاد الثلاثة عن الملف اللبناني تدريجاً منذ عام 1998 وحصره بدءاً من عام 2001 في يد العميد رستم غزالة خلف كنعان، فضلاً عن تعزيز دور الجهاز الأمني اللبناني الذي لم يوفر مناسبة لمضايقته، أقلق جنبلاط إلى أن أغضبته الطريقة التي دُعي فيها إلى مقابلة الرئيس السوري في 27 آب 2004، وإبلاغه سلفاً بالجواب الذي ينبغي أن يدلي به أمام الأسد، وهو الموافقة على التمديد للرئيس إميل لحود، وتجاهل تحفظات جنبلاط عن هذا التمديد. ألغي الموعد، فانقطع الاتصال بالأسد.
مذ ذاك، بدأ تدحرج كرات الخلاف بوتيرة بطيئة، وما لبث أن تصاعد عام 2006 إلى أن وصل إلى 7 أيار 2008 الذي أرّخ من خلال ما حدث في بيروت، وبعد أيام في الجبل، أول تهديد بنشوب نزاع شيعي ـــــ درزي وهزيمة المواجهة مع سوريا.
بيد أن المطلعين على موقف الزعيم الدرزي يجرون، بعد خمس سنوات، مراجعة للظروف التي سبقت الحرب المفتوحة مع دمشق تبعاً للمعطيات الآتية:
1 ـــــ كَمَنَ السبب الرئيسي في تصاعد الخلاف بين جنبلاط ودمشق في الموقف من التمديد للحود، حمل الزعيم الدرزي على مجاراة تأييد القرار 1559. لم يبدِ جنبلاط آنذاك حماسة مفرطة في التحالف مع لقاء قرنة شهوان الذي ضمّ المعارضة المسيحية، باحثاً عن قواسم مشتركة معها في مواجهة رئيس الجمهورية، لم يكن يسعه خوض النزاع مع دمشق منفرداً وهو يراقب الرئيس الراحل رفيق الحريري يحاذر بدوره الانزلاق إلى نزاع مماثل، بينما يتفاقم الخلاف بينه وبين لحود على مرحلة ما بعد التمديد. في الاجتماع الأول في فندق البريستول في 23 أيلول 2004، اختلف جنبلاط مع المعارضة المسيحية على بندين في البيان الختامي: مطالبته بإعادة نشر الجنود السوريين في مقابل إصرار الفريق الآخر على الانسحاب الكامل للجيش السوري من لبنان، ورغبته في تحييد سلاح حزب الله عن الصراع السياسي خلافاً لما تمسّك به الآخرون. انتهى الأمر بربط نزاع بين الموقفين، بيد أن ما جمعه بالمعارضة المسيحية كان رفض التمديد للحود والطعن في شرعيته، وانتقاده بعنف ما كان يسميّه «مخالب» الأجهزة الأمنية.
2 ـــــ بعد محاولة اغتيال النائب مروان حمادة مطلع تشرين الأول 2004، لم تُوجّه أصابع الاتهام إلى سوريا، بل إلى الأجهزة الأمنية اللبنانية. سرعان ما أصبحت محاولة الاغتيال بعد أشهر فاتحة اتهام قوى 14 آذار، ومن خلالها جنبلاط، لسوريا بمسلسل الاغتيالات والتفجيرات. بعد خمس سنوات، في مراجعة المحيطين بالزعيم الدرزي، بات من الصعوبة بمكان التأكد من أن سوريا هي التي نفّذت كل تلك الاغتيالات أو أن مجهولين دخلوا على خط المواجهة اللبنانية معها لتصعيدها، أو ثمّة أصابع محلية اضطلعت بدور حاسم. بعد خمس سنوات، في ضوء معلومات لدى هؤلاء يختلط فيها التشويش بالدقة، لم يعد أكيداً أن سوريا هي وحدها المسؤولة عن مسلسل الاغتيالات التي حصلت على هامش اغتيال الحريري الأب، بدءاً من محاولة اغتيال حمادة التي تستثني دمشق في ظنّ هؤلاء المطلعين. مع ذلك قادت حدّة المواجهة جنبلاط خصوصاً إلى استخدام الاغتيالات في أوسع نزاع لبناني ـــــ سوري شهده البلدان.
3 ـــــ ضاعف اغتيال الحريري الأب الخلاف من غير أن يدفعه إلى حافة الهاوية مع سوريا، على وفرة الشعارات المناوئة لها وللقادة الأمنيين اللبنانيين. عندما تبلّغ هاتفياً استقالة حكومة الرئيس عمر كرامي في 28 شباط، سارع جنبلاط إلى بذل جهد لدى تيّار المستقبل وحزب الله للملمة الوضع الداخلي الذي أصبح بلا ضوابط، تفادياً لفوضى شاملة. كان على رأس قوى 14 آذار في المواجهة مع رئيس الجمهورية وتثبيت الخلاف مع سوريا من دون إغلاق الأبواب نهائياً معها.
أول الخلاف التمديد للحود، وأول المواجهة اغتيال تويني
4 ـــــ عندما أعلن الرئيس السوري في 7 آذار 2005 انسحاب جيشه من كل الأراض اللبنانية، خابر جنبلاط من لندن معاونيه وحضّهم على اتخاذ مواقف لا تتسم بردود فعل عدائية، بل التركيز على تضحيات الجيش السوري في لبنان إبان وجوده، وفي مرحلة الاجتياح الإسرائيلي والإصرار على علاقات متكافئة بين البلدين، وتفادي ما يُستشم منه شماتة أو إساءة إلى هذا الجيش. شدّد أيضاً على التذكير بالنضال المشترك بين سوريا وحلفائها في لبنان. ثم عاود الاتصال مجدّداً لتأكيد إصراره على هذا الموقف.
5 ـــــ قبل أيام من انسحاب الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان 2005، استضاف على عشاء في المختارة عزمي بشارة، وحمّله رسالة إلى الرئيس السوري مفادها الآتي: لم يعد في الإمكان تحمّل وجود لحود في الرئاسة، ولا بد لسوريا من التخلي عنه لتصحيح العلاقة معها. فلتسمّ أي اسم سواه للرئاسة يطمئنها وينتخبه مجلس النواب الذي كان لا يزال بغالبيته يدين بالولاء لها (برلمان 2000 ـــــ 2005). لكن ينبغي رحيل لحود. حمّل جنبلاط الرسالة نفسها إلى نصر الله. في اليومين التاليين أتى جوابان مختلفان: أبلغ بشارة إلى جنبلاط أن الأسد لم يشأ الردّ على الاقتراح، ملاحظاً عدم تجاوب تصريح، وقال نصر الله بعد عودته من دمشق إن الرئيس السوري لا يرى الظرف ملائماً.
6 ـــــ لم تنفجر العلاقة مع دمشق نهائياً إلا بعد اغتيال النائب جبران تويني في كانون الأول 2005. إذ ذاك شعر جنبلاط بأن مسلسل الاغتيالات أصبح وسيلة التخاطب الوحيدة بين سوريا ولبنان. لم تدفع الاتهامات التي أطلقها على أثر اغتيال سمير قصير وجورج حاوي في حزيران إلى المواجهة اليائسة. بيد أن اغتيال تويني كشف مطاردة الموت له ولفريقه السياسي في قوى 14 آذار، وأن سوريا تسعى إلى تقويض لبنان من خلال إحداث الفوضى فيه. منذ ذلك اليوم، بالتزامن مع الدخول في مرحلة التحقيق الدولي في اغتيال الحريري الأب والاغتيالات والتفجيرات التي تلته، بات على النزاع أن يفضي إلى سقوط أحد طرفيه. كانت الحاجة إلى حماية المجتمع الدولي للسلطة اللبنانية الجديدة المنبثقة من انتخابات 2005 والمناوئة لسوريا، وإلى إسقاط كل التحفظات التي لم تعد تشمل سوريا فحسب، بل طاولت حلفاءها جميعاً وأولهم حزب الله وسلاحه. لم يوفر جنبلاط حليفه السابق رئيس المجلس نبيه برّي من اتهامات شتى عن ضعف دوره حيال حزب الله.
7 ـــــ سواء اقتنع حلفاؤه السابقون بمبرّرات انتقاله أو عضّوا على جرحهم، فإن فحوى خيار جنبلاط في العودة إلى سوريا وحزب الله ودعم سلاح المقاومة هو نفسه الذي حمله إلى البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، غداة إعلانه في 2 آب 2009 الانسحاب من قوى 14 آذار. أبلغ حامل الرسالة إلى البطريرك الآتي: الأزمة سنّية ـــــ شيعية تدفع ثمن انفجارها الأقليات، والدروز أقلية. وعوض أن تكون هذه المعادلة سلبية بالمواجهة، لنجعلها إيجابية. كانت لدينا في قوى 14 آذار بين 2005 و2008 الشرعية من خلال الأكثرية النيابية، فلم نستطع ممارسة الحكم، وكان لدى الفريق الآخر السلاح فلم يستطيع إسقاطنا ولا السيطرة على الحكم. لنجعل المعادلة إيجابية إذاً ونفكّ الاشتباك.
تفهّم البطريرك موقف الزعيم الدرزي القلق على مصير طائفته من التهديد، ولم يجهر بمأخذ على تخليه عن قوى 14 آذار، وأرسل إليه الرسالة الآتية: لتكن المعادلة الإيجابية عبر الخيار الذي يعبّر عن الاعتدال.
أوحى سيد بكركي بأن قوى 14 آذار هي التي تحمل خيار الاعتدال.
لم تكن هذه وجهة نظر جنبلاط الذي يحتاج مجدّداً إلى حماية سوريا لطائفته.
الأخبار