صفحات ثقافية

خيْــــرُ الشّــــر برنار نويل

null
ترجمة: محمد بنيس
ظل العملُ الشعريّ لجورج باطاي مهمَلاً، لا لأن الجودة تنقصه، بل لأنه يُمثل بكل تأكيد خطراً على الشعر. فهذا العملُ لا يعترض في الشعر فقط على الطرائق، إنه يمزّقها، يلطّخها أو يجعلها عُرضةً للسخرية. هكذا يكون الشعر مهاجَماً في طبيعته نفسها ومن ثم مُحرّفاً أو، بدقة أكثر، ملوَّثاً. ونحتمي من هذا التلويث الذهني عندما نعزوه إلى موضوعات هي في العادة فاحشة أو داعرة، فيما الأمر يتعلق بشيء آخر تماماً ـ بدمار داخلي يشوّهُ التركيبات العادية للقصيدة ليُلحق الضرر بانطلاقتها. ثمة فظاظةٌ في هذه الانقلاب، أي طريقةٌ في تعرية البيت وعرض عُريه الصوتي وتقطيع ما يقول تقطيعاً بالمقلوب.
كل فعْل ضدّ الشعر لا يمكن أن يحْدث إلا داخل الشعر: من ثم لا بدّ من أن نوجّه ضده وسائلَ هي من خصائصه. لقد كانت ‘دادا’ وجدت من قبلُ نفسَها في الوضعية ذاتها فقامت بحلّها، لدى بيكابيا(1) على سبيل المثال، باللجوء إلى اللاتجانس، الذي يُتلف كلاًّ من العقل السليم والذوق السليم. كانت ‘دادا’ تلهو بخطورة، وباطاي كان يلعب بالشر ضد الخير، وهو شيءٌ أقل اكتراثاً باللعب ومؤثر في السلوك بكامله. وبخصوص الشعر، لم يكن ثمة قط في متناول باطاي سوى شعر السورياليين، وهو لم يتوقف منذ أمد طويل عن أن يفضح ما فيه من غباوة عاطفية، ومن جنون ذرّ الفيْضِ الغنائي على نذالات الحياة. فهذه النذالاتُ، من جهة أخرى، هي بالضبط وحدها التي تبدو له جديرةً بالشعر عندما الرغبةُ في تكثيف تمرد باطاي أو تسريع الرؤيات التي تسبق تأملاته تقوده إلى كتابة غرائزه الكلامية التي يمثّـل البيتُ الشعريّ شكلَها الملائم. هذه الحركة تنقل باطاي إلى النقيض من مصيره التقليدي: فهو يُغيّر اللهجة ويفك السحر، بل يختزلَ القصيدة إلى مجرد حالة مسرفة في عصبيتها، حتى العظم. ‘ كان يبدو لي، كما جاء في قول له لاحق ، أن الكَراهيةَ، وحدهَا، هي ما يفضي إلى الشعر الحقيقي’.
أي كراهية؟ كراهيةُ الشعر، بطبيعة الحال. وهي الصيغة التي ستصبح، في 1947، عنوان أحد كتبه، وقد تم تغييرها في 1962 بكلمة ‘المستحيل’. إذا كانت الكراهيةُ هي الطريق الوحيدة المؤدية إلى ‘الشعر الحقيقي’، فلأنه يجب أن يُستعمَل فيه العنف لتمزيق ‘الشعر الجميل’، الذي، ليس ‘حقيقياً’ و، بهذا التمزيق، يتم النفاذ إلى الشعر ‘الحقيقي’. فصورة الجُرح الذي أصبح فماً للحقيقة تـتلازم وصورة ‘الشق’، فمٌ سفلي ينطق بالتجربة الأصلية للرغبة، للدهشة، للموت. والكلمات التي تخرج عن حدود هذه المنطقة تتبدد في الوقت نفسه فيها، وهذا الميلاد الملتهبُ على الفور يحفظ الكلمات من أنْ تكونَ الخُلاصة البغيضة لتحليقها الغنائي.
إن ما يلوّث الشعر، بالنسبة لباطاي، هو الشعر نفسه في الحدود التي يَقْبَلُ فيها بأن يُرضيَ نفسَه بجمالياته، ولذلك يريد باطاي أن يلوّث هذا التلويث ليبلُغَ الشعرَ ‘الحقيقي’. وتعاني اللغة هنا، بطبيعة الحال، من كوْنها لا تتوفر إلا على كلمة لتعْيين المشاريع المتناقضة، لكنها بهذه المعاناة، وبشرط أن يكون المتكلم بها واعياً بالعجز، تصلُ إلى حالة من الإخفاق حيث إنها، وهي تُمسك بالمستحيل، تستخرجُ منه طاقة مُضاعَفة. وما هي إلا لحظة فإذا باللغة هي هذا التضرعُ من غير انتظار لأقلّ جواب تتغلب فيه الكلماتُ على ذاتها. لحظةُ الحقيقة هذه تسمحُ بأن يتدفق القلقُ وبأن يكشفَ بداخلنا عن تصدع فيه يتبدّدُ المعْنى واليقين. ومن حافة هذا التصدع، يمكن إما أن نؤزّم الإدراك بقصد تفجير الانخطاف ولربما الشطح، وإما أن ننساق وراء رؤية عدم الاكتمال المعممة. ولا شك أنه تُمنَح لنا على هذه الحافة وحدها فرصةُ تأمل هذه الجملة لباطاي: ‘من لا ‘يموت’ من أجل ألا يكون إلا إنساناً لن يكون أبداً إلا إنساناً.’
تتم منَ استعمالٍ إلى استعمال آخرَ لكلمة ‘إنسان’ قفزةٌ حاسمةٌ نحو تغيير نوعيةِ ما تعنيه الكلمة. ففي الاستعمال الأول، تعترفُ الوضعية الإنسانية بأنها غيرُ محتملة وتعْـلم بأن عليها أن تدمّر طبيعتها حتى تتحوّل؛ وتخضع، في الاستعمال الثاني، لابتذالها وتقبَل بنفسها كما هي. وعندما نبدّل كلمة ‘الإنسان’ ونضع ‘الشعر’ مكانها، تلخّص هذه الجملةُ وضعيةَ باطاي الذي، يعتقد، بالفعل، أن ‘كلّ شعر’ لا ‘يموت’ من أجل أن يكون شعراً فقط لن يكون أبداً إلا ‘شعراً’، أي زخرفةً ساذجةً، لا طائل منها، وبالتالي مثاليةً، لوضعيتنا. هكذا يتم تعريفُ مقاربة أخرى لهذا ‘الشعر الحقيقي’، الذي عليه أن يضحّي في البداية بـ’الشعري’ حتى يتوجّه نحو ما سيبقَى خارج المتناول بحجة أن انبثاقه سيخْسر كلّ حيوية إنْ هو بلغ غايته. فتحقيق الغاية ليس شيئاً، ومواصلتُه بدون أمل هي كلُّ شيء.
لا حيادَ في قول إن الشعر ‘الحقيقي’ يعثر على حقيقته في التضحية بما يمكن أن يعتبره الشعرُ الآخرُ حقيقتَه لأن فعلَ التضحية هذا يهيّئ العتبة التي يتقاسم بفضلها القارئُ الاختيارَ مع المؤلف. فالتضحية تقلب التصورَ المعتادَ للشعر بعنف يعنّف بكلٍّ من المؤلف والقارئ بطريقة متساوية، وهكذا تنمُو طاقة هي في الوقت نفسه لحظةُ قلب القيم ولحظةُ الحقيقة. يجمع شعرُ باطاي بين هاتين اللحظتين ليرتميَ في المجهول وفيه يختفي عن الأدب.
والنتيجة هي أن الشعر نقيضُ ما تعلن عنه الكلمة التي تعيّنه. إنها وضعية بالغة الإزعاج بالنسبة لمنْ يريد أن يُسمعَ هذا التناقضَ دون أن يملك القدرة على تقسيم الاسم بين الوميضِ السلبي الذي يخصه به باطاي وبين البحثِ عن الجمال المرتبط بالكنز الأدبي. وما هو مراهَنٌ عليه في التمزيق يعود إلى المغالاة في التفكير ورفض الأوهام التي تساعد على تحمّل الحياة. يجب أن نضيف ‘الكراهية’ إلى ‘الشعر’ حتى نُعبّر عمّا هو الشعرُ عندما يصل اسمُه ذاتُه إلى الاعتراض عليه، لكن لا بدّ أيضاً أن يكون الشعر، وهو محرومٌ عند ذاك الحد من جميع حيَله، مختزَلاً فيه إلى اليأس من معناه الخاص. هذا الشعرُ بدون شعْرٍ كما يتطلبه باطاي مماثلٌ للأضحية بعد التضحية بها، مشابهٌ لميّتة. حالةٌ قصوَى تفلت، في النهاية، من التمثيل، وإليها يهدف باطاي لأنّ اختبار الذات للموت هو وسيلةُ الهروب من سيطرة المعرفة ‘المعرفة التي لا تَسمحُ بالتفكير في الموت’. وممارسة كراهية الشعر مَدخلٌ إلى اللامعرفة و، عن طريقها، إلَى الاقتراب من الجثة غير القابلة بأن تُعْرف وهي التي نخمّن أنها هي المرغوبُ فيها على نحو عاصف في هذا الاعتراف :’ موتي يتملّكني كقذارة فاحشة وبالتالي مرغوبٌ بفظاعة فيها.’
إن الشعر المتمردَ على الشعر الذي يكتبه باطاي مرتبطٌ بالتجربة الداخلية ومن المحتمل ألا يُكتَب بدونها. فالصوفية الملحدة لباطاي تحتاج إلى القبض على الحالات التي تستدعيها، إلى القبض عليها في صيَغ مضمومة بعضُها إلى بعض، مكثفة، مكسِّرةً، لها بطبيعة الحال هيئةُ القصيدة. بين صوفية باطاي وبين ما نَعْنيه عادة بهذه الكلمة، هناك الفرقُ المتناقضُ نفسُه بين الشعر وكراهية الشعر لدرجة أن الكل، لدى باطاي، ينتظمُ عكس القيم التي لا يستعير منها كلمةَ الصوفية إلا من أجل أن يشوّه معناها أو لينْقُله أفضل من ذلك إلى مثل هذا الطرف الأقصى الذي ينقلب فيه المعنى إلى ضده. ‘ عن الشعر، كتب، أقولُ الآن إنه التضحية التي تكون الكلمات فيها هيَ الضحايا.’ ويمكن باطاي أن يقول عن الشعر عديداً من قواعد التجربة الداخلية : فهو يواصلها مضحياً بما كان يدعّمها وبما كان اللامعلومَ المنسوبَ إلى الله. يستمرّ اللامعلوم ولا يتوقف عن أن يكون ما هو لكن الله، في تجربة باطاي، لا يعود بإمكانه أن يكون اسمَ التجربة. والحقيقة أن الكلمات ضحايا تضحية معممة، تغير اتجاه الضحايا عن التسمية المسلم بها من أجل توجيهها نحو ما لن يُدرَكَ إلا من خلال عجْزها.
كل شيء يهتز عند حافة هاوية أو بالأحرى ـ لأن ‘هاوية’ تغلب عليها الصفة الشعرية ـ على حافة قبر، مجرد حفرة يجب أن يرى الشخصُ فيها مسبقاً نفسَه فريسةً متعفنةً قبل أن يُعادَ إلى العدم. هذه الوضعية هي بالضبط المصيرُ الذي يُخفيه الشعرُ على الدوام خلف عبارة ‘ الأكاذيبُ الممجّدة ‘. لا العفونةُ ولا العدمُ نهاية تناسب الحياة. فالمتصوفة الذين واجهوهما عوّضوا العدمَ بالله، واستعملوا عند الاقتضاء صورة تجسّد العفونة كمنبّه في البحث عن الخلاص. يعلن باطاي ‘أرفض أن أكون سعيداً (أن أكون ناجياً).’ ويسعى إلى أن يضع دائماً أمامه كلّ ما يهدف أيُّ نشاط إلى إخفائه، لا الشعرُ وحده بل ممارسةُ الفكر أيضاً. هكذا يحاول باطاي أن يبقى أمام اللامفكر فيه، اللامعنى، اللامعرفة، وبهذا العمل يُفسد الشعرَ، الفكرَ، التأمل. فعُرْيُ الكائن أمام خرابه له هذا الثمن، لكن بمجرد ما يدرك الكائنُ الخرابَ يختفي العُريُ في الوقت نفسه الذي تندثر الوسائلُ التي أدت إلى انبثاقه.
التجربة الداخلية صراعٌ لا يتوقف ضد ‘ الأكاذيب الممجدة ‘ حتى تظل الأزمة التي أعلن عنها انكشافُ هذه الأكاذيب باعثةً على الإحساس بالتمزق. تعود عبارة ‘الأكاذيب الممجدة’ لملارمي، وهي واردة في رسالته الشهيرة لغازاليس في 28 أبريل 1866. عبارة تمتازُ بالإيجاز لكيْ تفْضَح جميع أنواع أساليب السُّموّ التي تُخفي تخلّي الله عن عباده. كان ملارمي، عندما كتب هذه الكلمات، قد واجه العدم، وهذا الأخيرُ سيبقى حاضراً بدون انقطاع في نفس ملارمي كشخصية ثانية يمكن أن تفترس وجْهَه. وفي السنة الموالية (27 ماي 1867) توجد لديه، في رسالة إلى لوفيبير، هذه الصيغة الرائعة: ‘ كان التدميرُ بياتريسَـ(ـتـ)ـي.'(2) لا شك أن صيغة ملارمي هذه ستبدو لباطاي مغرقة في الشعرية، هو الذي يجعل من مرجعيته ‘ قذارة فاحشة وبالتالي مرغوب بفظاعة فيها.’ إن الفظاعة، في نظر باطاي، هي ‘الشعرية’، شعريةُ الشعر الـ’حقيقي’. الفظاعة نعمتُه كما هي فمُه الملقّنُ(3)، وهذا الفم يلقي إليه بسلبية مدهشة كما في قوله :’ ليست العبقرية الشعرية هي الهبَة اللغوية […] إنها الحدس بخراب يظل انتظاَره سرّياً حتى تنفصلَ عنه العديدُ من الأشياء الجامدة، تضيعَ، تتواصلَ فيما بينها[…]’ ومن الأكيد أنه لا بدّ أن نفهم من هذه الكلمة الأخيرة أن الضياع ـ أن الوعي المنشَّط بالضياع ـ هو الحالة الملائمة للـ’تواصل’، الذي نعرف أنه يرجع لدى باطاي إلى ‘المقدس’.
تعترض ‘الحقيقة القذرة’ لباطاي إذن على ‘الأكاذيب الممجّدة’ لملارمي، وهذا الاعتراض يحدد اختيارات متعارضة بطبيعة الحال. إن ملارمي يقرر أن ينذر نفسه لفرجة الاختراعات ‘السامية’ التي تسمح ‘للأشكال التافهة للمادة’، والفرجةُ جزءٌ منها، أن تنطلق في الحلم مع العلم التام بأن الأمر يتعلق بوهْم؛ أما باطاي فيُـنكر ما يَصدّهُ عن الرؤية القذرة. ولا ينسى ملارمي في أيّ لحظة أن ‘اللاشيء […] هو الحقيقة’ لكن هذه الحقيقةَ أجبرت الإنسانَ ‘منذ العصور الأولى’ على أن يخترع ‘الله وروحَنا’، ويخترعَ باختصارٍ جميعَ هذه ‘الأكاذيب الممجّدة’ التي تؤسس إنسانيتَنا. وينسج ملارمي الحجابَ الكاذبَ للجمال دون أن يجهل طبيعته : فالأزمة التي تولدت عن رؤية العدم ستظل على هذا النحو مستترةً دون أن تمنع الـ’شعر’. وبعبارة أخرى، يقبل ملارمي لا أن يتجاهل العدمَ بفضل الإبداع، بل أن يُبدع وهو يعلم بأيّ غرور ستحكم معرفةُ العَدم على فعْله. وعظمة ملارمي هي أنه يستعمل الوهْم بدون وهْم: فقليلون هم ‘العاملون الفظيعون’ (الكلمة لرامبُـو) الذين يدرجُون شعرَهم ضمنَ هذا اليأس. والآخرون يُنزلون بلاغتهم منزلةَ الواقع.
إن حنَقَ باطاي على هؤلاء الأخيرين يمتد إلى الشعر بأكمله بسبب أنه، وهو يستسلم للتمادي في حنَقه، يأخذ على الشعر ألاّ يكونَ سوى ‘قذارة فاحشة’ (شيء هو أكثر من ذلك مفارق في نظره بقدر ما هو ليس كذلك.) هذه الوضعية تبعثُ لدى باطاي على حالةَ الأزمة وتجعلها دائمة : حيث الفاحش يفترس الوهم بدون توقف.
ولا يمكن لباطاي أن يختار تقيةَ التمرد لدى ملارمي: إذ يبدو في هذه الحالة أن باطاي فهم التمرد إن نحن ثقنا في الأسطورة المستفيضة التي توجد في القراءة التي خص بها الصورة الشخصية لستيفان ملارمي (1876) ضمن كتابه عن الرسام ماني Manet (الصادر عن دار سكيرا 1955). رامبو هو الشاعر المثالي بالنسبة لباطاي. هو كذلك لأنه اختار الصمت. لكن الصمت ليس إلا صمتَ الشاعر لأنه لا شيء يمكن أن يجعل ما كُتبَ وكأنه لم يُكتَبْ إلا في حالة اعتبار أن الذي كُتبَ تم إنكارُه بانقطاع رامبو الإرادي وأن هذا الانقطاع، وهو يختار الفشل، يضع الشعر بدوره موضع الفشل. وفي كتابه جورج باطاي، الموت في الأعمال (غاليمار، 1992) يلخّص ميشيل سُورَيّا Michel Suraya ، بعد تحليله للعلاقة مع رامبو، التصورَ المسرفَ لباطاي على نحو جيّد ‘[…] لا يكون الشعر شعراً إلا إذا كان هذياناً، إذا كانت له خصيصةُ شبق الانفلات الجنسي من كل قيد، إلا إذا كان جريمة: سكينَ الجزار في اللغة (الجملية، النبيلة، السامية). سكينَ نَاحر الأضحية. والشعر هو هذه اللغة، أو عليه أن يكونها، ككل ما هو منحط، دون أن يرغب أبداً في أن يكون على نحو آخر سوى منحط، كمن يخون اللغة، يصبح خرْقة…’
وفي هذه الحالة، إذا كان تقديم اليد والفم إلى الشعر ارتكاباً لما لا يمكن إصلاحه ما دام الصمت لن يمحوَ الفعل المرتكَب، فإن الشعر شرٌّ لا شيءَ يمكن أن يعرف كيف يفتديه. وشرٌّ بمثل هذه الطبيعة ـ مطلق في الحقيقة على هذا النحو- لا يمكن إلا أن يبهر باطاي. وما يعبر بالضبط عن هذه الحالة كما تشهد على ذلك كلمة ‘كراهية’، هو أن ما يُفسد الشعرَ هو نفسُه الذي يعمل ببالغ العنف على استرداد الشعر. لقد رغب باطاي من دون شك في أن يحرّض على تعفّن الجمال حتى تقدمَ له الصورةُ الأبعدُ في ضديتها عن ‘القذارة الفاحشة’ وبالتالي الأقل رغبة فيها بالنسبة إليه، وهي تتعفن، فرجةً في النهاية ‘ موغوباً بفظاعة فيها’… إن الكلمات قابلة لكل أنواع القسوة بقدر ما هي قابلة لتغيير ما يُسمَّى بالقسوة في التهريج. وتمثيل اللحظة المأساوية يبعث على الموت من شدة الضحك ثم الضحك من الموت. فالكلمات تتمتع بشيء شبه عابر يمنحها في لحظة وجوداً لا تتوفر عليه، لكن العدم حاضرٌ على الدوام فيها، تبعاً لطبيعته الخاصة.
‘الأهمية العميقة للشعر، يكتب جورج باطاي، هي أن الشعر من خلال التضحية بالكلمات، بالصور، بل من خلال بؤس هذه التضحية (المسألة هي نفسها بهذا الخصوص بالنسبة للشعر ولأي تضحية أخرى)، ينزلق من التضحية العاجزة بالأشياء نحو التضحية بالذات. ما ضحى به رامبو ليس هو الشعر وحده. ـ بقية بغيضة لكن أكثر تشويشاً على النفس من الموت ـ أي الحكم بالموت على المؤلف من طرف عمله…’
من بإمكانه أن يتخيل أن مؤلفاً ينتظر من عمله أن يقتله؟ إن انتظاراً مماثلاً ربما يبعث على الهزء والسخرية، ما دام من الصعب أن يخطر على بال أيّ أحد أن المؤلف لم يعبّر عن هذه الرغبة إلا ليضحَك هو نفسه منها. ومن أجل الضحك منها في سر فكرة تختار فجأة شكل القصيدة لتغيّر الحجم وتدخل، عبرالإيقاع، إلى الواقع المباشر للحياة، أو تجرب الإحساسَ بالحياة في نبضانها المباشر. ويمتلك البيت امتياز أن يكون شبيهاً بهذا النبضان: فهو في داخل القصيدة الخفقانُ الذي يتكرر ويعطي شكلا صوتيا لهذا التتابع. ذلك أن جميع قصائد القدُسيّ، مهما كان الاهتمام فيها بالأبيات أضعف من الاهتمام بالمعنى، ذاتُ صوتيةٍ آسرَة إلى حد بعيد وبالغة الإزعاج في الوقت نفسه لأن تتابع المقاطع الصوتية يؤلف حفيف اللغة التي تنشئ للفكر طبقةً سفليةً ساخرة. والقصائد المستخرجة من مجموع مضاد للاهوت أقلّ اعتماداً على الوزن من كونها لاهثة ـ لاهثة بسرعة تهدف إلى إثارة الرؤيا (أو الشطح). أبيات تُسقط التماعات، كلُّ واحد منها في حال مطاردة الآخر، تؤزّم الفضاء الذهني للتأمل حتى تهيئ فيه الخروج من الذات. هو خروج محتمَل بطبيعة الحال، ومدهش، لأنه مرغوب فيه دائماً بسَببِ عدم التيقّن من مجيئه.
فعْلُ الاستدعاء هذا ينقلُ القصيدة إلى خارج ‘الشعر’ بسبب ربطها بمنهج يبعدها عن وجهتها لمصلحته. ويبدو أن القصائد الأولى لباطاي ربما تعرضت لتغيير الاتجاه هذا إن لم تكن قصائد مجموع مضاد للاهوت، كما هو محتمل، هي أولى تلك القصائد. غالباً ما تقاطع التصوف والشعر لكن بغاية الاحتفال باللغز المتعالي عن كل وصف مفتاحه هو الله. هكذا فإن الله أفقٌ معلومٌ مسبقاً لدى تجربة لا تتواجه مع المجهول إلا من أجل أن تؤكد بتجربتها الاتحاد الإلهي. أما باطاي فهو، عكس ذلك، يلاحق تجربةً متحررةً من الالتزامات التقليدية لهذه الأخيرة بهدف واحد، مهما كانت تجربته شديدة الانتساب إلى التصوف. ذلك أن التجربة الداخلية ممارسةٌ وليست فقط إجراءً ثقافياً. جميع الوسائل مفيدة لها إن هي كانت تسمح تماماً بالإسراف في المعلوم، وعلى الأخص في الضحك، الفجور، التلويث الذي يقزز ويؤدي إلى المرض. تخلق هذه المظاهر من الإسراف حالات تتطابق فيها ‘ معطياتُ معرفة شعورية مشتركة وصارمة مع معطيات المعرفة السردية.’ ويندرج شعر باطاي في هذا التطابق لكنه، بدلاً من أن يعكسَ التوازن، يجازفُ ويشهدُ بالأحرى على حالة الانبثاق الذي فيه تمتزج ‘الكراهية’ بـ’الشعر’.
وما يُغري في النهاية هو الكشف عن تسكين، مع احتمال العثور عليه في الهوامش. نصوص باطاي ليس لها هامشٌ آخر سوى موْت مؤلفها. ولا شك أن هذا المؤلف كانت له أنشطةٌ مشتركة وحياةٌ عادية، ولكن لم يبق من هذا شيءٌ بإمكانه أن يوفر للقارئ مخرجاً. وأن تقرأ باطاي هو أن تصحبه حتى ينعدم النفَس بين الفراغ والموت، ثم تعود منهما كما كان على باطاي أن يفعل، ثم أن تبدأ من جديد في إنهاك هذه البداية بجرّها نحو النهاية. إلا إذا لم تكن ثمة من نهاية غيرُ الوعي بواجب الانتهاء نهائياً. وضعية لا يمكن تنفّسُها إذ يكتسحُ الاختناقُ الذهني فيها الجسد.
و من البديهي أن ما هو مطروح هنا كان باطاي عاشه من خلال رفض جميع المنوّمات التي هي من قبيل الحب، الشعر، الأدب؛ ومع ذلك فإن كل هذا الرفض أدّى إلى تأليف كُتب وقصائد. كتب وقصائد، يمكن، بدورها، أن تُستعمل كمنوّمات. لكن باطاي لا يكتب إلا بنيّة كراهية كتابة قصائد، بنيّة الشك في التفكير، وهذا السلب يُرغم على قلب دائم لا يترك مكاناً لأي رضًى. يمكن بالتأكيد أن نُجامل في تجربة الحدود ونستخلص منها أنها ألاعيبَ ثقافية: فنحن يمكن أن نلهو بألاعيب ثقافية ولكن لا يمكن أن نلهو بحقيقة اليأس التي سينقصُها دائماً. ولا ينتج عن هذه الحقيقة أن يتحول اليأسُ إلى مهْنة. فنحن يمكن أن نتجاهل كُتبَ باطاي، ولا يمكن، عندما نقرأها، ألاّ نوافق على أن وجودَها يعدّل بعض الرهانات التي لها أهميتها بالنسبة للفكر والشعر. ما دام لا الأولُ ولا الثاني لن ينطفئَ على الأقل بالاستهلاك الثقافي.
إن تقديم القلق كحالة ملائمة للتجربة ليس جذاباً على الإطلاق، زيادة على أنه ليس ضمانة على أن هناكَ ‘قذارة فاحشة’ في الأفق، أو أنّ كراهية الشعر هي الطريق الوحيدة نحو الشعر. المثير هو أن هذه القيم المضادة يمكنها أن تبرز نوعية جديدة تماماً في مجالات تقوم في الظاهر بتخريبها. وهكذا فإن الشعر الذي افترسته كراهيتُه يصبحُ أدنى شعرية وأكثر حقيقة. والنتيجة هي أن الكراهيةَ تحتجّ فوراً لأن النتيجة تدخل في تهدئة هناك بالضبط حيث لن تعرف النتيجةُ كيف تحصل فجأة دون أن يكون فعلُها تغيّر إلى ‘قذارة’ كاذبة. كل شيء فينا، في أفعالنا كما في فكرنا، يدعُو إلى التكتم عن العدم والموت؛ لكن كل شيء لدى باطاي يتطلب على العكس من ذلك جرأةَ على الاستغراق في مشاهدة ما لا يُعوَّض وعلى أن تتأمل منها الانفعال الجارح. لم تشكل هذه الضرورةُ مدرسة، منذ خمسين عاماً، لكنها لم تكف عن أن تؤرّق بعضَ الشعراء…
هوامش المترجم:
فرنسيس بيكابيا (1879- 1953) رسام فرنسي. يعتبر أبا الحركة التكعيبية، ثم انجذب نحو التجريدية، وبعد ذلك أصبح من أهم الممثلين في نيويورك وباريس للحركة الدادائية.
بياتريس هو اسم حبيبة دانتي، وشخصية كتابه ‘الحياة الجديدة’ (المكتوب بين 1292 و 1294)، وأيضا الحبيبة التي تجلت في نهاية ‘الفردوس’، الجزء الثالث من ‘الكوميديا الإلهية’. تذكر بالفلورنسية بياتريس بورتيناري (1265-1290). تجسد الجمال، وموضوع الحب والتأمل. إنها ربة الشعر ومرشدة دانتي في الطريق نحو الخلاص. والملاحظ أن ملارمي يقلب المعنى تماماً.
كما هو الأمر بالنسبة للملقن في المسرح.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى