هبة القوّاس: الأوبرا سَليلة الشرق والغرب أكمَلَها
ماجدة داغر
أداؤها يدفع الموسيقى العربيّة إلى العالميّة
نقول “أوبرا” فيتمَشهد الصوت في ذروة غنائيّته، وينعتق النّغم من فضائه إلى أمكنةٍ أكثر رحابة، إلى المطلق حاملاً طنين الكون الذي تختزنه أعماقنا. تلك المشهديّة الصوتيّة التي لم تألفها موسيقانا العربيّة، وسّعت لِولوجها ذائقتنا الفنيّة فتربّعت على عرش الموسيقى والغناء، وتسلّلت إلى شغفنا النّغمي بكامل أناقتها وجمالها.
إلى العربية حملت هبة القوّاس تقنيّة الأداء الأوبرالي، فرصّعت الموسيقى العربيّة بنغمٍ جديد عرفت كيف تطوّع انسيابه ليتماهى بجماليّة واحتراف مع إرثٍ موسيقي فيُثريه. مغنّية الأوبرا والسيّدة الوحيدة في العالم العربي التي تؤلّف الموسيقى الكلاسيكيّة، مقتحمةً الغناء الأوبرالي الشديد الخصوصيّة، معيدةً صياغته عربيّاً في خطوة رائدة حملت الكثير من التحدّي والإصرار على عولمة الموسيقى الشرقيّة إيماناً بسحرها وعشقاً لأبعادها وأهميتها. أمّا الرائد والجديد الذي ابتكرته القوّاس فهو التقنيّة المستحدثة لخلق ما سمّي “الأوبرا العربيّة”. إلى جانب الموسيقى التي حوّلتها المؤلّفة جسراً تعبره أسماعنا للوصول إلى لحنٍ مختلف، من خلال مزجٍ فريد وأنيق بين الموسيقى الشرقيّة وتلك الكلاسيكية العالمية، حملت قوّاس جماليّة الحرف العربي لتسكبها في قالب صوتيّ أوبرالي، سبقنا الغرب إلى اختراق مساحاته جاعلاً منها منزلاً لموسيقاه ولغته ولاسيّما الإيطاليّة واليونانيّة.
ما المختلف بين الغناءين لجهة اللغة العربية التي صارت تُغنّى بصوت قوّاس الشّجي، حروفيّاً وأوركستراليّاً؟ تجيب: “إيجاد الوضعيّة الصوتيّة التي تحمل الحرف العربي لأنه صعب على اللفظ، كما تطويع مساحات صوتيّة واسعة وطبقات عالية من دون أن يُكسر الصوت البشري، ومن دون تغيير في مخارج الحروف”. دمجت القوّاس تقليد الغناء العربي بتقنيّة الأوبرا العالمية مع تعديل ما يناسب الحرف العربي وطريقة الغناء العربية. “بذلك استنبطتُ جسراً قرّب العربية من العالمية فلم تعد هجينة، وعملتُ على دمج العالمين موسيقيّاً”. الأوبرا في رأي القوّاس هي سليلة الشرق تسرّبت إلى الغرب لاحقاً، وكنّا نحن من بدأناها. أما التفسير العلمي لهذه النظرية فهو، بحسب رأيها، أنها تكمل “ما بدأوه قبلي في العصر العباسي، إذ كانوا يملكون مساحات صوتيّة واسعة وتقنيات متقدّمة تُخرج الصوت من الخدود وتجاويف الرأس، وكانت الأوركسترا في العصر العباسي مؤلّفة من ستمئة عازف وهذا موثّق في مؤلفات الأصفهاني والفارابي وزرياب، وهو ما عُرف لاحقاً بالأوبرا”. الصّوت هو الدهشة، كما تقول، والموسيقى هي الروح التي كانت تعيش معها، لذا لا تسمّيها خياراً بل هي “نداء النفس الذي استجبتُ له، نحن نختار ما يشبهنا على المستوى الفكري والعاطفي، ونحب أن نُسمع الناس الأشياء التي تصيبنا. الموسيقى هي تعامل مع التجريد والمطلق، والطنين هو التجريد الأكبر وهو جزء من الضوء او الأثير والروح، والموسيقى تشبه ما قبل الكون الظاهر”.
بهذا الاختلاف في الرؤية الموسيقيّة عمّا يجتاح أسماعنا اليوم من تسطيح واستهلاك، وبثقافة عالية بالنظر إلى الموسيقى المكرّرة بغير عمق وتمايز، ما يجعل موسيقانا اليوم وكأنها جملة لحنيّة واحدة كارثيّة الخلق والإبداع، استطاعت هبة قوّاس أن تحجز لها مكاناً مختلفاً أو قلْ رائداً، يحرّضنا على المضيّ بالتقاط هذا التمايز في سبيل تعميمه إرثاً موسيقيّاً مستقبليّاً، يؤسّس لموسيقات جديّة وحقيقيّة تقفز فوق السّور النّخبوي إلى أسماع العامّة المتعطّشة إلى الرّقي الموسيقي من غير تعقيدٍ ولا استعلاء. بدءاً باختيار النصوص المغنّاة التي تحرص على انتقائها معتمدةً على حسٍّ شعري، فكانت القصيدة أولى الاختيارات مع شعراء معاصرين مثل أنسي الحاج، أدونيس، محمود درويش، عبد العزيز خوجة، طلال حيدر، هدى النعماني، زاهي وهبه، حمزة عبود وغيرهم. كما كان لها خيارات شعريّة من الفلك الصّوفي الذي يعبق في موسيقاها، فكان للحلاّج وإبن عربي وإبن الفارض وغيرهم نصيب تلحيني كبير. إلى جانب أعمالها المغنّاة، يجذب القوّاس التأليف الموسيقي الكلاسيكي الذي يحمل نفَسها الخاص وهويّتها وهاجساً فنيّاً تمثّل بأرقى الموسيقى. فبعد أكثر من عشرين عملاً مع أوركسترا دينبرو بتروفسك السمفونيّة، و13 عملاً سمفونيّاً مع الأوركسترا السمفونيّة الوطنيّة الأوكرانيّة بقيادة فلاديمير سيرينكو، وبعد مشاركتها في أضخم المهرجانات العالمية، وعزفت موسيقاها أوركسترا “نيو أنسمبل” الهولنديّة، كما مشاركتها غناءً مغنّين عالميين أمثال خوسيه كاريراس، حصدت القوّاس جوائز كبرى منها “أفضل مؤلّف موسيقي معاصر”. وكانت أول عربي يدخل دار الأوبرا الوطنية الفرنسية صوتاً وتأليفاً، وذُكرت في أهم الأونسيكلوبيديا العالمية مصنّفة في خانة الرّواد الموسيقيين في العالم.
آخر ما قدّمته هبة القوّاس، بعد أعمال كبيرة جالت بها في العالم العربي وأوروبا، كان أوبريت “أجمل من كل الجنّات” التي ختمت بها الاستعراض الفني الكبير في مملكة البحرين، في مناسبة احتفالها بالعيد الوطني العاشر في كانون الأول الماضي. كانت هذه المرة الأولى التي تؤلّف فيها القواس مشهداً مسرحيّاً سيمفونيّاً، وهو “بداية تنفيذ حلمي، تضيف، بتحقيق أوبرا عربية متكاملة نصّاً وموسيقى وأداء. إذ سوف أبحث لاحقاً عن أصوات أوبرالية شابة تكون نواة لأول أوبرا عربية، وليس أوبرا باللغة العربية كالمحاولات التي شهدناها في العالم العربي سابقاً، بل أوبرا تحمل الحرف العربي بعيداً في الموسيقى العالميّة”. الأوبريت التي حملت توقيع الشعراء: أمين صالح، علي الشرقاوي، قاسم حداد وغازي قصيبي، ألّفت القواس موسيقاها كاملة، وعزفتها إحدى أهم أوركسترات أوروبا وهي أوركسترا “روما سينفونيتا” بقيادة فرنشيسكو لانزيلوتا، ومشاركة كورال دار الأوبرا المصرية “اكابيلا”.
يقال إن “الموسيقى تجعلنا تعساء في شكل أفضل”، فلِم لا نبحث في ذروة الصخب الذي نعيش والقرع المتتالي على أرواحنا، عن ملاذ نؤول إلى صفائه وعن استكانةٍ نستدعيها، تمكّنت هبة القوّاس من تلقّفها وتلبية النداء، لعلّ معها تصير الموسيقى “حديث الملائكة” كما يقول شوبنهاور، فتكون المنقِذ ودرب السماء.
ايلاف