نشدان الصداقة وأشياء أخرى
عناية جابر
لا تتوقف علاقتنا العفوية بالكتابة، حتى مع اكتشافنا، أن ليس كل الكتّاب يُشبهون بالضرورة كتاباتهم. هذا بخيل على خلاف ما يتراءى في نصّه، وذاك لئيم، وآخر لاعلاقة له بالحب الذي يُغرق قصيدته. ثم منهم الحاقد والطائفي، والعنصري، والرخيص، والمتسول، والماكر، والخبيث، والوصولي، الى ما هنالك من نقائص، أكثرها مدعاة للرعب، إدعاءات العزلة والتنسك والبعد عن الأضواء فيما الداعون والداعيات هم أول اللاهثين واللاهثات إليها. هذا مع الإعتراف أن العصر، عصر ترويجي بامتياز، وحقٌ لنصوصنا علينا تعريضها للضوء وإن خادع (نتيجة السلوكيات الثقافية المتردّية) شرط أن نرى إليه في الأساس، أي نرى الضوء من داخل الكتابة نفسها، بعدها، وكلٌ حسب قناعاته، يمكنه تعريضها لرحاب أضواء الإعلام، أو منحها فرصة جليلة صامتة للإعلان عن نفسها بقوة مادتها وصدقها.
إقتراف الكتابة بالأساس، فعل نداء للآخر، ولست بصدد تنزيه كتابتي عن الآخرين والإقفال عليها في مخابىء وسراديب. أنا أكتب وأنشر تحت الضوء الممنوح لي، لا أستعير ما لا طاقة لي على محاباته، ولا أهين كتابتي بنور يُقلل من وهج نورها الشخصي. اكتشافاتي عن افتراق الكاتب عن نصه تشعرني بالحزن. حزن طويل مقفر ومفجوع. لا يُثنيني الحزن عن كتابة تُشبهني، وإن يُخالطني الشكّ أحياناً في أن ليس بالضرورة أن تُشبهنا كتابتنا. شكٌ لا يلبث طويلاً.. بلى عليها الكتابة ان تكون مرايانا، على الأقلّ بحدود التماثل البديهي بين حلول فصل الشتاء ومن علاماته برودة في الجوّ، وبين حلول فصل الصيف، من سماته حرارة في الجوّ.
عندما أكتب، اهبُ نفسي للحروف. كل خلية في جسدي تلتقي بكل خلية في جسد قصيدتي. كل كلمة أخطّها، يقابلها وبشكل لا يقبل الزيف صدى فيها. انني أنا بشخصيتي المائلة نحو النقصان، المائلة نحو الإمتلاء، المُركبة بالطبع تحت وطأة الضعف البشري، وعليّ مع قصيدتي بلوغ التشكيل المقصود. أعرف لا ريب، بعض الكتّاب الذين يُشبهون نصوصهم فعلاً، وأشعر لدى قراءتهم بمتعة عظيمة. متعة تُشبه أنك تجلس في أحضان جدتك، حب حقيقي ورائحة حقيقية.
أحبّ أن أقول لأحد من أولئك الذين يصطنعون حالات على الورق: أنظر أيها الشاعر، نصّك جميل، ولكن في فضاء فالت. نصّك جميل لكنني لم أحبّهُ، ولا أظن كذلك أن افضل الحلول، انتحالك كتابة صادقة، بينما اعرفُ بأنك كاذب، ولكن هناك شيئا مؤكدا، وهو انني لا أتجرأ على محاكمتك. أعرفُ أن الكتابة هي الأمر الغامض الذي يحتمل كل الشرّ ومنتهى الخير في آن. ما أقصدهُ هو ألاّ يكون الكاتب غارقا حتى أذنيه في فصام مرعب مع كتابته (ثمة نصوص كثيرة لكتّاب وشعراء كثر أمثلة على ما أقول).
كما أعرف أن بواعث الكتابة تختلف عند كاتب وآخر، التوتّر يختلف، الغايات تختلف، كما وتبرز قناعات عميقة عند هذا، وأسئلة مُحيّرة عند تلك، وتضحيات لصالح الإبداع لا مفر منها، وتنازلات غير مبررة عند البعض، ومُبررة ومفهومة عند البعض الآخر.
كل شيء مسموح هنا، ما عدا الكذب. حين نكتب في السعادة لا نقصد السعادة بمعناها السطحي العابر، وإنما السعادة الحقّة. على الكتابة أن تكون حامية ومحميّة، لأن توقنا الى الحماية مُحفّز أول على الكتابة، من دونها نشعر بوحدة شديدة. لا أُحاكمُ ولا يُمكنني، فقط أمضي الى نشدان غاية بسيطة تتمثّل في أن تكون الكتابة صنو كاتبها أو العكس، وأن يدنو من انعكاسها قدر المستطاع.
الكتابة ملاذ. أن تكتب بصدق فذلك من حاجتك الى ملاذ نظيف وآمن، يؤثر بالضرورة على القارىء، وبطريقة حسّاسة جداً. الكتابة نوع من نشدان الصداقة، وأشياء أخرى. كلما صدقت الكتابة تتقدّم في هذه ‘الأشياء الأخرى’، تغتني العلاقة وتخرج من دائرة الشك لتغدو في نهاية المطاف، نوعاً من التواطؤ بين الكاتب وقارئه في مواجهة الآخرين غيرهم. وهي السّر المشترك، والإتفاق الثنائي الجانب، وهو ليس بالأمر الهيّن ولا الإعتباطي، كما يُكمّلهُ الإجتهاد كشرط أساس.
الكتابة شيء أكثر من الصداقة بين الكاتب وقارئه، في رؤيتهما معاً، شديدة الخصوصية الى العالم، شديدة التهكم على أسراره، ألغازه، مسراته وأحزانه. كتابة البعض تتجه نحو الخارج، فتجعل من نفسها ظريفة، صاخبة، لاهية. عند البعض الآخر هي مهووسة، هستيرية ومهزوزة الشخصية. وحدها الكتابة الصادقة تعاني الوحدة، الوحدة الحقة، كما لو ضربة هراوة على الرقبة، سرعان ما يشعر القارىء بأذاها كاملاً.
القدس العربي