صفحات ثقافية

دفاعاً عن: منذر المصري وشركاه

null
عبدالوهاب عزاوي
يقدم الشاعر منذر مصري في مجموعته “منذر مصري وشركاه” تجربة غنية وصادمة، فهو يقوم بإعادة كتابة العديد من القصائد لستة وستين شاعراً أغلبيتهم الساحقة من سورية بروحه الخاصة مع حفظ اسم كل شاعر أمام نصه مضافاً له اسم منذر مصري تالياً، إنها محاولة لفتح نافذة على حقل الشعر السوري الوعر من عالمه الداخلي يعبرها ليلامس الأرواح ويهمس لها، ويداعب ألمها وهواجسها ويحدّث من مات من شعرائها، يعيده للحياة ويكتب بلسانه. المجموعة تمارين على الحياة وعلى تأثيثها بوجوه أصدقاء حميمين، وأصدقاء مفترضين أجمل ما فيهم أحياناً أنك لا تعرفهم بل تعرف كتاباتهم وهواجسهم .. أليس امتلاك الأمل أحياناً أجمل من تحقيقه، مادتها الخام سطور ومقاطع من دواوينهم أو رسائلهم وخواطرهم، فسيفساء واسعة فيها عشرات الوجوه بملامح غريبة وهجينة ومشوهة أحياناً، إنها مرآة منذر التي يرى فيها الآخرين.
هذا النمط من الكتابة يندرج تحت تمارين إعادة كتابة نص، وهي جزء من آليات تدريس الكتابة في جامعات أمريكا وأوربا، وتوظف أحياناً في إنتاج شعر نسب إلى “الشعر بعد الحداثة” في أمريكا، وهناك من يقوم بكتابة النص مع التعديل حتى يغير كل كلمات النص الأول بحيث لا يبقى أي أثر لغوي منه في النص الثاني. أجل جامعات لتدريس تقنيات الكتابة ومنها الشعر أيضاً، جامعات نفتقدها كثيراً بل ونستهجن فكرتها في معظم الأحيان. ومع ذلك هناك من قام بتدريس هذه التمارين لدينا ومنهم الشاعر والمسرحي الراحل ممدوح عدوان الذي كان يكلف طلابه في المعهد العالي للفنون المسرحية في مادة “كتابة مسرحية” بإعادة كتابة نصوص موجودة مثل القصة الشهيرة ” أكان لابد يا لي لي أن تضيئي النور” ليوسف إدريس وصولاً إلى إعادة صياغة مقابلة تلفزيونية مع الفنانة اللبنانية “الصبوحة” ضمن مونولوج، إنها تمارين مليئة بالحياة فعلاً. المثير في هذه التجربة أن من يقوم بها هو شاعر له خصوصيته مثل منذر مصري الذي لم ألتق به شخصياً حتى الآن ومعرفتنا بدأت بعد أن كتبت مادة في إطار الرد على مادة له في الغاوون، وما دفعني لكتابة هذه المادة قبل صدور المجموعة هو الهجوم الفظيع الذي تعرض له بعد أن انتشر خبر المجموعة ليتحول الموضوع إلى فضيحة إعلامية يتبناها أحد المواقع عبر نشر مادة لشاعر من شعراء المجموعة يهاجم فيها منذر باعتبار أنه “سطا على نصه” ثم يطلب من منذر أن يدافع عن نفسه، وكل هذا يأتي باسم الحوار والديمقراطية واحترام الرأي الآخر، والملفت هو غياب أي جانب نقدي للتجربة.
هذا مثال حي وبائس على الثقافة في سورية فسيل الاتهامات التي تصل الشتائم جاء من أناس لم يقرؤوا المجموعة لأنها لم تنشر بعد، والنسخة الإلكترونية التي أرسلها لي منذر مصري هي الأولى وذلك بناءً على طلبي لأتمكن من الكتابة عن التجربة.
تحضرني عشرات الأمثلة عن التناص وإعادة الكتابة على اختلاف المصطلحين، ولعل أهمها إعادة كتابة غوته لفاوست بعد أن كتبها كريستوفر مارلو أولاً، ولاحقاً اعتبار مسرحية “ملحمة السراب” لسعدالله ونوس على أنها إعادة إنتاج فاوست عربياً، وأذكر قصيدة” أرض اليباب” التي اعتبرت من منعطفات الشعر في العالم والتي قام فيها إليوت بالتناص مع خمسةٍ وثلاثين كتاباً وبست لغاتٍ غير الإنكليزية، وهو يعتد بذلك لأنه يرى أن على الشاعر أن يعي أفضل ما كتب من شعرٍ في عدد من اللغات الأوروبية منذ هوميروس حتى الوقت الحاضر أي أن يكون مطلعاً على خمسةٍ وعشرين قرناً من التراث الشعري الأوروبي إضافةً إلى تراث أمته، ولعل السياب فعل مثل ذلك مع توسيعه للمدى ليصل تراثنا السومري وما تلاه من تراث حضاراتٍ مشرقيةٍ أخرى، ويحضرني مثال درامي عربي وهو سيرة الزير سالم التي كتبها للمسرح ألفريد فرج وأعدها للتلفزيون ممدوح عدوان الذي اتهم بأنه لم يتقيد بالسيرة الأصلية بل وفق وجهة نظره مع هذا فقد قدم منتجاً إبداعياً أدهش الجميع، وهناك عشرات الأمثلة في الفن التشكيلي والموسيقى والسينما أتذكر منها شخصية دون جوان أو الدون كيشوت على سبيل المثال، وأسأل نفسي هل يوجد نص بكر فعلاً أي نص منقطع الجذور عن التجارب السابقة؟، لماذا نقبل إعادة كتابة نص مسرحي من قبل شخص آخر، ونقبل إعادة كتابة الحكاية في الشعر إن قاربت حدثاً تاريخياً مثل ديوان “ستائر الأيام الرجيمة” لفايز خضور الذي يعيد كتابة أسطورة أوديب، ونرفض إعادة كتابة نص لشخص حي ويتنفس إلى جنبنا في هذا العالم؟، وأسأل نفسي هل يحق لأي كاتب أن يمنع الناس من التفاعل مع نصه بالشكل الذي يرونه مناسباً بدءاً من تقديسه حتى مسح الأحذية به؟، ألم يقل نوري الجراح ” كلماتنا ليست لنا، لا اليوم ولا غداً، إنّها أرواحنا الهاربة” ، ألم يسبقنا رولان بارت وجاك دريدا بدراسات واسعة حول “موت المؤلف” و”الحياة اللانهائية للنص”؟، وأسأل نفسي عن غنى هذه التجربة الهائل فيما لو قاربناه بحسب النقد التكويني الذي يدرس مسودات العمل أكثر من صيغته النهائية، فهو يبدأ مع التماع الفكرة في ذهن الكاتب ثم يسير مع كل التغييرات على النص حذفاً وإضافةً بما تحمله من تأويلات، فهنا غنى الخبرة واصطدام الأسئلة والهواجس إنه طريقة للدخول إلى عمق النص وبخاصة الروائي، هذا النقد يتيح متعة تشبه متابعة لوحة وهي تتشكل وتتغير معالمها أكثر من مرة لأن ذلك أغنى من صيغتها النهائية، في ديوان منذر مصري يغدو الأمر أكثر تعقيداً وعمقاً فهنا أكثر من روح وأكثر من مسودة.
الهجوم الذي تعرض له منذر مصري قبل ولادة مشروعه يثير الخوف فعلاً، فمن الصعب أن تتطور الثقافة في وسط لا يجيد الحوار ولا يحترم مبادئه وأبسطها أن تتقدم باسمك كاملاً وليس باسم وهمي، إنها ثقافة الخوف والإقصاء التي تطغى على ثقافة الحوار، وهي لعنة لها خصوصية سورية فمجتمع يُكبح فيه الحراك السياسي والاجتماعي ويدرب فيه الإنسان على الخضوع منذ الطفولة من الصعب أن ينتج حواراً جاداً، بل ستطغى تصفية الحسابات وأوهام انتصارات لمعارك لا معنى لها، وذلك تحت إشراف موقع إلكتروني يتاجر بالديمقراطية والدفاع عن الكلمة الحرة. أتذكر هنا غضب سعدالله ونوس في رده على اتهام د.أحمد الحمو له بسرقة مسرحية “رجل برجل” لبريخت، وتحويلها إلى مسرحية “الملك هو الملك” والمنشور في بيانات لمسرح عربي الجديد في الجزء الثالث من الأعمال الكاملة، ليبين أن أصل المسرحية هو قصة في ألف ليلة وليلة، وليعقب أن “بريخت أخذ معظم مسرحياته من أعمال الآخرين” وليختم رده ب” طبعاً كان مقال الدكتور الحمو سانحة انقض عليها المتجيفون في وسطنا الثقافي وراحوا يفحون هواءهم المنتن داخل القطر وخارجه. هؤلاء لن نسألهم هل قرؤوا العملين، فهم لا يقرؤون. ولن نسألهم الموضوعية، لأن العملة التي يتاجرون بها ليست الثقافة، بل الفضيحة ورائحة القمامة!”.
في النهاية قررت ألا أكتب عن المجموعة بالمعنى النقدي لأني لست ناقداً أولاً، ولأنها لم تصدر بعد، ولأني لم أقرأ النصوص الأصلية فهناك العديد من شعراء المجموعة غير المكرسين والذين لم يسبق لي أن قرأت لهم خاصة أن بعضهم لم ينشر أي ديوان، وهذه ميزة تضاف للمجموعة، ولأني رأيت أن أضع أحد أجمل نصوصها بدلاً من ذلك، فالشعر هو الأصفى، إنه نص كتبه منذر بالتفاعل مع الشاعر الرائع الغائب الحاضر دائماً رياض صالح حسين، صفحة 36.

لَم يتوَقَّف عنِ الكِتابةِ مُنذُ أن مات
( رياض الصالح الحسين – منذر مصري )

انظروا إليه
انظروا إليه
ماتَ مُنذُ سِنين
وفَمُهُ ما زالَ
طَريّاً .
/
كلاَّ لن أدعَ بَشائرَكَ
تنطَلي علَيّ
يا مَن آيتُكَ أنَّكَ فتَحتَ
نافِذةً في كُلِّ جِدار
لَم تستَطِع أن تضَعَ
صَباحاً آخرَ في
حَصّالتِكِ .
/
الطِفلُ يدورُ بدَرّاجتِهِ الهَوائية
ضاحِكاً في فَناءِ القبر
والفتاةُ تُسَرِّحُ شَعرَها
بِسُلامياتِ أصابِعِها
وتتفقَّدُ ثَوبَها الجديدَ في الخِزانة
والنَحّاتُ الَّذي لَم يأسَف على شَيء
سِوى أنَّهُ لَم يُحضِر معَهُ
أزميلاً ومِطرَقة
يُحاوِلُ أن يصنَعَ من عَظمةِ الكَتِفِ
طائراً
أمّا هوَ
فإنَّهُ يربِتُ على قبضةِ الخَنجَرِ
المَغروزِ في صَدرِه
ذِكرى عزيزةً منَ الَّذين
في الأعلى .
/
وكما لا شيءَ يَمنعُ القِططَ من المَواء
لَم يتوَقَّف عنِ الكِتابةِ
مُنذُ أن مات ..

شاعر وطبيب سوري
عن صحيفة الغاوون العدد 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى