وديعٌ ليلُ الرَّقة الصافي
محمد الحاج صالح
قبل أن يُبنى السدّ وتنتشر المزروعات وتنشأ المستنقعات، كان ليل الرقة في الجزيرة السورية، صيفاً، من أعذب الليالي.
عند الساعة العاشرة ليلاً يشرع مكبّر صوتٍ صاف كما لو أنه ماء زلال بنقل صوت وديع الصافي. لا! ليس عبر مسجل؛ كما يمكن أن يتبادر الى ذهنكَ. بل وديع شخصياً.
لست أدري لِمَ كان غناؤه في أيام فندق فينيسيا الرقّاوي دندنة! لم يكن يغنّي. كان يدندن. أم أنني أتوهم بسبب بعد الزمان والمكان؟ أكان هذا في عام 1969 أم 1970 أم بعد؟ اختلطت الأمور عليَّ!
بلى. أجزم أنه كان يمضي ساعات وهو يدندن. يأتي صوته القوي خافتاً وإنما مسموعا في كل حرف. يأتي الصوت كما لو أنه يغنّي لكَ وحدك. يأتي الصوت كما لو أنه يغنّي في قلب أذنك حتى لو كنت على بعد مئات الأمتار عند مدرسة “خديجة للبنات” والتي أصبحت في ما بعد مقرّ شعبة لحزب البعث.
من أيامها ترسخت فيَّ فكرة أن السهرة تبدأ الساعة العاشرة. على رغم مرور كل هذه السنين، وما إن تلفظ كلمة السهرة، حتى تنبثق في رأسي صورة لساعة عند العاشرة، مترافقة بدندنة وديع: “يا ابني ليلى بنت ضيعتنا…”. المشكل هو أني أعيش الآن في بلد تُعتَبر فيه العاشرة ساعة متأخرة من الليل، فالبشر هنا ينامون بدءاً من الساعة التاسعة عدا السبت والأحد طبعاً. أما أنا فلم أستطع التطبع مع هذا النظام حتى عندما كان عملي يبدأ الساعة الثانية فجراً.
الفندق الذي غنّى فيه وديع كان في أقصى غرب المدينة. هذا الفندق، هو الآخر، تحول مركزاً لقيادة الشرطة. كانت حديقة الفندق ذات الشجيرات الكثيفة هي المكان الأكثر ملاءمة في الدنيا لغناءٍ ما هو بغناء. غناء هو دندنة شجيّة تدخل القلب بلا “إحمْ ولا دستور”.
ما الذي جعله يغنّي بتلك الطريقة ولأسابيع عدة؟ من يدري! أزعم أنه لم يغنّ، ولا في أيّ مكان، وطوال عمره، كما غنّى تلك الأيام في تلك الحديقة الصغيرة وفي مدينتا الصغيرة الوادعة آنذاك، فأنا أحفظ أغانيه صمّاً. أكان للكحول دور؟ أأجرؤ أن أخمّن أن وديع كان يعيش حالة حبّ أو صدمة حبّ؟ لقد كان يغنّي لا بصوت وإنما بأحاسيس ومشاعر. كان يغنّي كما لم يغنّ قط. وبالنسبة اليَّ كما لم يغنّ أحدٌ البتة. الآن وبعدما جرّبتُ وخبرتُ وعرفتُ، أجزمُ أن لا شيء يتصل بالأجر، ما كان قد ربط وديع ليغنّي في مدينتا المنسيّة. لا بد أن في الأمر سرّاً.
أيامها كان يحدث أن تصخب المدينة في فترتين. فترة صباحية عندما ينزل أهل الريف للتبضّع والطبابة ومراجعة الحكومة والجلوس في المقاهي. تنتهي هذ الفترة بسفر البوسطات حوالى الساعة الثالثة بعد الظهر. عند الخامسة أو السادسة تبدأ جولة الصخب الثانية. هذه المرة يكون عدد الناس أقل، وإنما يكون منبع الصخب المنافسة الموسيقية في كل زاوية، حيث لا حرج من رفع صوت المسجل أو الراديو إلى آخره. والأولاد كل الأولاد في الشارع، والنساء متحلقات حول “دلال” الشاي أو “ركوات” القهوة. والرجال في المقاهي أو في طريقهم إليها. قلائل من الناس يمارسون مشوار التنزه قريباً من النهر. أما الشباب الذكور فيحوّمون من شارع إلى شارع، وعيونهم على باب موارب أو نافذة مفتوحة. وفي قلب المدينة حيث دور السينما الثلاث والمقاهي العديدة، يسود صوت أم كلثوم ليلاً. يسمع المرء في النهار من مقهى أو من السينما أو من دكان، عبد الحليم يغنّي “كامل الأوصاف” أو “زيّ الهوا”، ويسمع المرء حصراً في الصباح المبكر فيروز في برنامج “مرحبا يا صباح” الذي كان يقدمه منير الأحمد. وهو، أي منير الأحمد، أيضاً، حصل له ما حصل للأمكنة. لقد مات في أحد فروع المخابرات العسكرية. يحصل هذا، ويحصل أن تسمع أغاني عراقية في الأخص في السوق الشرقية والحارات العتيقة. أما عندما تغرب الشمس ويحل الظلام وتقترب الحفلة الأخيرة في السينما ويبدأ لعب الورق، فلا صوت هنا في قلب المدينة إلا صوت أم كلثوم. جوقةٌ أغانٍ من عشرات المسجلات ومكبرات الصوت. توافق عجيب. أمّ كلثوم وفقط.
مع بدء حفلة التاسعة في السينما يسكن كل شيء، سوى الغناء الأخفض طبقةً والمنبثق من قلب مقهى أو من أمام دكان حلاّق أو بقال. بضع مئات من الأمتار غرباً في الحيّ الحديث حيث فندق فينيسيا يسيطر الهدوء، وتبدأ دندنة وديع. لكن حتماً ليس قبل العاشرة.
كنا ثلاثة، وكنا كالعادة في جدل أن نكمل المشوار إلى الفرات والجسر القديم، أم نستمر في التطواف بين الحارات. فجأةً، وعند عطفة الشارع جاءت الدندنة مثل رشقة لذة غامضة. ومن بعيد رأينا بضع نساء ملتفّات بعباءاتهن يحاولن أن يسترقن النظر من بين الشجيرات. كان سور حديقة الفندق خفيضاً، فالدنيا كانت أماناً. ومثلهن رحنا نتمايل لصق السور لنتمكن من رؤية أفضل. كان وديع يحضن العود جالساً على كرسي من خيزران، وأمامه طربيزة صغيرة عليها كأس من العرق. يدندن ويبتسم ويرشف. كان الأمر مفاجئاً لنا فلم يحدث أن سمعنا أو رأينا مطرباً يشرب وهو يغنّي. الأمر برمته لم يكن مألوفاً لنا. طريقة احتضان العود، ورشف العرق، والغناء الخافت الذي بدا لنا كمراهقين كما لو أنه في غرفة نوم جولييت. إذْ لم يمض سوى ساعة على خروجنا من فيلم “روميو وجولييت”، ولربما كانت تلك هي المرة العاشرة.
في تاليات الأيام سنتعصّب لوديع وسنشتري أشرطة أغانيه وسنقتني صوره، وسيصبح اسمنا في الثانوية “شلة الصوافي” دمجاً لكنية وديع وللصوفية معاً، وسخريةً منّا نحن مهملي الهندام وطويلي الشعور والمعاقَبين على طول الخط كي يستقيم اعوجاجنا. كانت تسمية لابسة. من جهتنا بدأ الأمر أولاً نكاية ومخالفة، فالأكبر منا كانوا إما أنصارا لأم كلثوم وإما لعبد الحليم والغناء المصري، وإما لإياس خضر وحسين نعمة والغناء العراقي. اليساريون طبعا، وبلا أدنى تردد، مع فيروز. أعجبنا أن نخالف، وأن نرى في عيون الآخرين كم نحن مختلفون.
حتى من دون ان نتشاور؛ تسلّقنا السور ثمّ خلف كتلة شجيرات غارٍ ودفلى تقع تماماً في الزاوية الشرقية الجنوبية. على يسارنا جدار السور، وعلى يميننا وأمامنا كل مساحة الحديقة، وتحت أقدامنا عشب مقصوص. أولى الطاولات لا تبعد عنا سوى عشرة أمتار، وحولها كان يجلس خمسة أو ستة رجال، يقرعون الكؤوس ويتحدثون. على بعد ربما خمسة أمتار من أولاء كانت طاولة كبيرة للخدمة، حيث الكؤوس والصحون والشوك والمعالق النظيفة وأباريق الماء، ولكن أيضاً بقايا الطعام والكؤوس نصف الفارغة وأرباع أو أنصاف الليترات.
تفاهمنا باللكز وبالهمس. يمكن أياً منّا أن يزحف إلى حيث توجد الطاولة من دون أن يلحظه أحدٌ، بشرط وحيد أن يظل منتبهاً الى باب المطبخ حيث يدخل النادل ويخرج. أظنّه كان نادلاً وحيدا. دقائق وكان لدينا في مخبئنا ما يكفي كي نسمر نحن أيضاً. أنا شخصياً كانت تلك المرة الثالثة أو الرابعة أشرب فيها الكحول. في المرات الماضية كانت جرعات قليلة. أما الآن فإننا أحرار في أن نشرب ونشرب ومجاناً.
لست أظن ان الأمر أخذ وقتاً طويلاً قبل أن يزول الحذر والحرص لدينا، إذ رحنا نردّد مع وديع ونتخيّل ليلاه في صورة جولييت. منبطحين أو مستلقين نكرع ونأكل ونغنّي. الغريب أن لا يحس بنا أحد. طبعاً كانت العدوى قد لفّتنا نحن أيضاً، فغناؤنا كان دندنة، وعلى رغم السكر كنا نعي أننا لصوص.
آخرُ علمي بحالنا هناك كانت صورتنا ونحن مستلقون وأجسادنا تصنع مثلثاً. كان رأسي يتوسد كتفاً وقدماي تحت رأس. وكان وديع يتنحنح محاولا تنظيف حنجرته ويدوزن العود استعداداً لدندنة أخرى. أذكر انني رغبت في جرعة أخرى لكنني لم أفعل على رغم أنني كنت أقبض على عنق الزجاجة. وكنت أقول لنفسي الآن
سأرفعها وسأغبّ جرعة كبيرة، لكنني لم أفعل ¶
(النروج)