سلطة التسمية
صبحي حديدي
لا تنقضي سنة حتى تصدر سيرة او اثنتان في استكشاف حياة وأعمال الكاتب والرحّالة الإيطالي أميريغو فيسبوشي (1454 ـ 1512)، فضلاً عن تناوله في مؤلفات تاريخية أو أنثروبولوجية أو جغرافية أو ملاحية تخصّ مغامرة كريستوفر كولومبوس و’اكتشاف’ أمريكا وغالبية الأصقاع الواسعة الشاسعة التي سيطلق عليها الغرب تسمية ‘العالم الجديد’. إنه، في الشهر الأول من هذا العام، حاضر في كتاب عن أقوام أستراليا الأصليين، وآخر عن مدارس التاريخ الفرنسية، وثالث عن أصول الكنيسة، ورابع عن نصف قرن من أعمال الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية…
وأمّا سبب حضوره الدائم في هذه المؤلفات، وسواها كثير في الواقع، فهو أنه كان أوّل أوروبي يطأ شواطىء البرازيل وكولومبيا والأوروغواي والأرجنتين؛ وأوّل أوروبي شاهد، وأحسن وصف، ثلاثة من أكبر أنهار العالم: الأمازون، والبافيا، والبلاتا. واستناداً إلى منجزات كهذه، لن يطول الوقت حتى يتحلل الجغرافيّ والخرائطي واللاهوتي الألماني الشهير مارتن فالدسيمولر (1475 ـ 1522) من كلّ حرج، فيقرّر إطلاق اسم ‘أمريكا’ على ذلك العالم الجديد، مستلهماً التسمية من اسم أميريغو.
وفالدسيمولر لم يشكك في حقيقة أنّ كولومبوس كان أوروبياً، وأنه وصل إلى ‘العالم الجديد’ في العام 1492، قبل فيسبوشي، ولكنّ الأخير كان أوّل أوروبي يدرك أنه وصل إلى ‘عالم جديد’ بالفعل، وليس إلى الأجزاء الغربية من آسيا، كما اعتقد كولومبوس طيلة سنوات. ولقد كان من مفارقات التاريخ أن الكاتب الرحالة هو الذي كوفئ أخيراً بالتسمية الإعجازية الكبرى، وليس الملاح أو الفاتح أو الكاهن. أكثر من ذلك، حين كان فيسبوشي ينعم باحتكار التسمية، كان كولومبوس يرسف في الأغلال ويستعطف فرديناند وإيزابيلا: ‘إبكيا عليّ، أنا المترع بالإحسان والحق والعدل’.
وأقدار التسمية لا تقلّ غرابة عن أقدار ‘الإكتشاف’: كلاهما انبثق من الصدفة، وكلاهما واصل البقاء في اسم العَلم الخاطىء، وكلاهما انتعش وسط هوس التخييل وسلطة النص. لكنّ وصف فيسبوشي للعالم الجديد كان أكثر بلاغة ورشاقة وحذقاً، وأشدّ قدرة على الإقناع، من رسائل كولومبوس الدينية والرؤيوية. كانت نصوصه تتوجه إلى قارىء عريض يبحث عن المتعة والإثارة، وليس إلى القارىء الحاكم أو القارىء الصيرفي أو القارىء الأسقف. والمناخات التي دوّنها (أو بالأحرى: مجموعة الأكاذيب التي اختلقها)، لم تكن من حيث الجوهر مختلفة عن تلك التي رواها كولومبوس عن ‘الهنود’ الحمر: عراة، بلداء، جبناء، أكلة اللحم البشري. فيسبوشي بدأ من التنميطات ذاتها، لكنه جعلها مصنفة مرتبة في ثلاثة أبواب:
1 ـ عري الهنود، وافتقارهم للديانة، وعدم اكتراثهم بأملاك الآخرين. هذه العناصر اقترنت بالتمثيلات الكلاسيكية لفكرة ‘الهمجي النبيل’، وتحوّلت إلى مصدر رئيسي للتأثير على أفكار الفيلسوف والمشرّع والسياسي الإنكليزي توماس مور، في كتابه الشهير ‘اليوتوبيا’، الذي استُكمل وصدر سنة 1516.
2 ـ أكل اللحم البشري، الظاهرة التي تحدث عنها كولومبوس عن طريق السماع وليس المشاهدة، خصّها فيسبوشي بتعليقات مفصلة مطوّلة، فكتب مثلاً عن تسمين الهنود للأطفال: ‘إنهم يخصونهم بغرض تسمينهم كما نفعل مع بعض الديوك والخنازير الفتية، ثم يأكلونهم حين يكتسون باللحم: يبدأون أولاً بأكل الأطراف، الأيدي والأقدام والأعناق والرؤوس، أما الأجزاء الأكثر اكتنازاً باللحم فيملّحونها كما نفعل بلحم الخنزير أو الضأن’.
3 ـ الوصف الجنسي هو ميدان الإثارة الأهمّ في نصوص فيسبوشي، وهو يحيل مشاهدات كولومبوس إلى أضحوكة بالمقارنة مع تلفيقاته. إنه يطلق لمخيّلته العنان إذْ يروي شبق الهنديات غير المحدود، ويمتع قارئه الأوروبي (الذَكَر، تحديداً) بوصف مفصل مثير، ويستخدم التكنيك العتيق في التشويق حين يختم معظم نوادره بالقول: ‘أكتفي بهذا القدر لدواعي الحياء والعفة’!
بمثل هذه النصوص انتزع فيسبوشي حقّ إعلاء اسمه هو، وليس اسم أي من عشرات الفاتحين والغزاة والأساقفة والفلاسفة والدبلوماسيين، ممّا دفع الشاعر والفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون إلى التصريح، بحسرة بالغة: ‘يا للغرابة في أنّ أمريكا العريضة تحمل اسم لصّ! كيف تمكن تاجر مخللات من إشبيليا من التعتيم على كولومبوس، وتعميد نصف المعمورة باسمه المخاتل؟’. والإنصاف يقتضي الإشارة إلى أنّ هذه معلومات غير صحيحة، فلا الرجل عمّد أمريكا باسمه، ولا كان لصّاً، ولا تاجر مخللات؛ ولكنه، في المقابل، كان أشطر من كولومبوس في ممارسة سلطة التسمية على الشاكلة ذاتها: محو الاسم أوّلاً، ثم التعميد، فالتنصير Christening على حدّ تعبير ستيفن غرينبلات.
تلك كانت البرهة القصوى لفعل التسمية الذي ستخضع له جزر القارّة: سان سلفادور، سانتا ماريا، فرناندينا، إيزابيلا، جوانا، ثم أمريكا. وفي إطلاق التسميات كان الغزاة يدمجون فعل الاستيلاء ومحو الهوية بفعل آخر هو نقل الهمجي من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى المعرفة. وكان أمثال الملاّح المستكشف كولومبوس والجنرال الفاتح هرنان كورتيس والكاتب الرحالة فيسبوشي واللاهوتي خوان دي سيبولفيدا قد أباحوا الإستيلاء على كلّ شيء، مقابل تقديم الهداية الروحية إلى الأقوام الأصلية، وعلى ‘الهنود’ أن يخسروا كل شيء على الأرض، لكي يكسبوا كل شيء في السماء.
وليس من العسير أن يعثر المرء على أحفاد هؤلاء في أمريكا المعاصرة، ولن يضلّ السبيل إلى أميريغو فيسبوشي… القديم المقيم.
خاص – صفحات سورية –