نصـــف لســـان
عباس بيضون
ذات يوم كان بونابرت أمل أوروبا، كان كذلك عند هيغل وبتهوفن وتولستوي وكل مبدعي ومفكري أوروبا الأحرار، استحق مدائح عظماء. وبالقدر نفسه والقوة ذاتها استحق خيبتهم فيه. هذه لعبة ليا صغير فيها، كان يمكن لعبد القادر الجزائري وأتاتورك وعبد الناصر والخميني ان يكونوا أساطير من هذا النوع وأن يستحقوا مدائح وخيبات من ذات العيار. نحن حتى هذا ما زلنا في المستوى، لكن الأمر لا يبقى في ذات المصاف حين يتعلق بأشخاص جل ما يستحقونه هو الكاريكاتور. لا اريد أن أتكلم عن السيرة السياسية لهؤلاء، سأدع جانبا الجرائر والجرائم والاغتيالات والتصفيات والقبور السرية والاعدامات و.. و… ليس هذا ما يعنيني الآن، أريد فقط أن أعلِّق على شخصياتهم وحضورهم ولباقتهم وثقافتهم وفصاحتهم ليس إلا، هل سبق لأحد أن أصغى لهؤلاء المعبودين. هل رآهم في التليفزيون يتكلمون وسمع بأم الأذن أحاديثهم وخطبهم. لا أعرف إذا كان افضل أن أسمي. لن أعتذر بضيق المساحة لكني أفضل أن أقصر أمثلتي على قليلين فليس المراد أشخاصاً بعينهم ولكن ظاهرة. كانوا يأخذون على بوش زلات لسان كثيرة لكن الرجل كان يتحدث ويحسن أن يكلم جمهوره. إذا كان المثقفون الفرنسيون يقولون ان فصاحة ساركوزي عامية الا أنها طلاقة حقيقية، فالرجل يعرف كيف يصوغ أفكاره. كان شيراك عاماً لكنه كان بليغاً. كل هؤلاء، بلا شك، أئمة في البلاغة إذا قارناهم بزعمائنا. إذا رأينا هؤلاء وهم يخبطون في اللغة ويلوونها عند كل حرف وكلمة، إذا سمعناهم وهم يجرّون ألسنتهم الثقيلة بالكلمات، إذا تحرينا عيبهم واضطرابهم وهم يتهجأون في أوراق بين يديهم، إذا تأملنا كيف يُعجزهم إيجاد مفردة وكيف يبدون أجانب في لغتهم وفي كل لغة. إذا تحققنا لا من بؤس لغتهم فحسب، لكن أيضا وبالمقدار ذاته، من بؤس أفكارهم وعلمهم، إذا تأكدنا من كل ذلك، جاز لنا أن نسأل كيف وصلوا إلى سدة الزعامة وكيف باتوا قوامين علينا وولوا أمورنا. السياسة، هل يمكن للسياسة ان تتم بغير كلام. هل يمكن للسياسي ان يكون بغير أفكار ولا منطق، كيف يستطيع إذا أن يجتذب جمهورا وأن يقنع بشخصه ومواقعه. ما هي حال المناظرات التي تعقد في التلفزيون بين المتنافسين إذا كان أحدهم بنصف لسان ونصف عقل ونصف حيلة ونصف فؤاد بالطبع. نعرف بالطبع السبب او الاسباب فهؤلاء لم يأتوا من المعترك. لقد أتوا من العائلة او من الطغمة العسكرية. لم يحتاجوا إلى غير دمهم أو سوطهم، لم يحتاجوا إلى السياسة أصلاً، لقد تبوأوا أولا السدة وبات عليهم بعد ذلك أن يغدوا سياسيين ومتكلمين.
لا أسمي، يكفيني مثلان: صدام حسين مثلا كان بالنسبة لكثيرين معبوداً. لم يجدوا ذرة ضعف في أن يبقى شعره أسود وفي ان يبقى بلا نظارات مدلاً بشباب خالد. كل هذا مقبول لكن هل سمعتموه وهو يتكلم، ليس إلا الهذيان الكامل. عبارات غير مترابطة وجملاً بلا أي مقابل من معنى أو موضوع أو فكرة، وهيجانا لغويا ليس إلاّ، تلمع في أثنائه مصطلحات «الماجدات، العراق، النشامى». ثم هناك هذا الهوس الروائي في أواخر عمره بأمثولات كتابية محنطة، سواء خطها أم استكتبها، الا انها تشي بذوقه المحنط الذي استقر أخيرا على شعر مضحك في ركاكته وتدانيه حتى عن بريد القراء. مع ذلك كان هذا الرجل معلماً في كل شيء، وكان على الآخرين ان يتلقنوا منه افكارهم وازياءهم وأدبهم. كان ستالين ديكتاتورا رهيبا بلا شك، لكن الرجل كان متكلما ومفكرا (من أي صنف، لا يهم)، وفي ما وصلنا من خطبه ومناقشاته لم نجد هذيانا ولا ثرثرة متعالمة. كان هتلر ما نعلمه جميعاً لكن الرجل كان خطيباً بحق. كان موسوليني مفكراً وخطيباً، هكذا كان أتاتورك أيضا وعبد الناصر والخميني، كانوا جميعاً يحسنون الكلام. لندع الديكتاتورية جانبا، ما يهيننا أكثر من الديكتاتورية هو زمرة المعاقين والأعياء والقاصرين التي استطاعت ان تكون بدون ان تحتاج حتى إلى كلمة او أي لمعة طغياناً علينا.
السيد القذافي، دعونا من أزيائه، لا بد من أنها تدل على طبع مسرحي، الرجل بهذه الأزياء كلها ممثل، لكن أي ممثل. هل سمعتموه يتكلم، هل وجدتم رابطاً بين أفكاره أو جمله. أليست أيضا هذيانا محضاً. الا تشعرون بأنها حين لا تكون كذلك معرضاً لبؤس الخيال واللغة والفكر. ان وراءها رجلاً لا يمكن حقاً ان يكون متعلماً او مثقفاً. فكيف يكون بالأحرى منشئ دعوة عالمية ومعلماً لشعبه وللشعوب كلها. ألسنا نجد ان بين الرجل والفكر بوناً فكيف يمكنه مع ذلك أن يسوس أمة وأن يتملكه أيضا كما تملك صدام من قبل هوس الأدب والجوائز العالمية للأدب.
بلاغة صدام أثمرت قصوراً وعراضات، وبلاغة القذافي أثمرت أزياء واستعراضات. والاثنان يتصرفان او تصرفا ببلديهما كأنهما إقطاعية لهما. آخر الأخبار ان أحد أولاد القذافي سيستثمر في هوليوود. ستالين لم يقدم أولاده، هتلر كان بلا أبناء.
دعوا جانباً مسألة الطغيان. الطغيان لا يهين فأكثر الشعوب عرفت طغاة. لم تنج من ذلك أمة موصوفة بالعلم أو الثقافة، ما يهين اكثر فأكثر هو هؤلاء الطغاة، نوعيتهم، علمهم، فكرهم، كلامهم. ان يكونوا بلا شيء وأن يأسروا قلوبنا مع ذلك، ويمثلوا مستقبلنا فذلك هو العار.
كيف يمكن لمثقف من أي صنف ودرجة أن يتمثل بأشخاص كهؤلاء. حين يتكلمون عن جائزة عالمية للقذافي. انسوا سيرته السياسية والأمنية. تذكروا فقط كلامه واستعراضه وانظروا لمن يسلمونه أنفسهم وقيادهم ويسجدون لاسمه من هذا الباب.
السفير الثقافي